العلاقة التفاعلية بين العقل و الجسد



قادت بحوث يقوم بها اثنان من الأكاديميين السويسريين هما فرانسوا آنسارميت، اختصاصي التحليل النفسي في جامعة جنيف، وبيير ماجيستريتّي، اختصاصي عِلم الأعصاب في المعهد التقني الفيدرالي العالي في لوزان، في موضوع العلاقة بين العقل والجسد، ومسعى التوفيق بين عِلم الأعصاب وعِلم النفس، إلى تقديم رُؤىً جديدة تدلّل على معرفة كيْف نفكِّر وكيف نتصرّف وكيف نقوم بالأفعال، وهو ما يفتح طريقا جديدا في مُعالجة مرضى الاضطرابات النفسية يكون أكثر تكاملا .

قام الأستاذان خلال مؤتمر لخبراء وأطباء وعلماء التحليل النفسي عقد في نيويورك في 21 مايو/أيار الماضي بالتحدث عن تجربتهما، ملقيين الضوء على مفهوم التوفيق بين عِلم الأعصاب والتحليل النفسي .

وقال ماجيستريتّي للإذاعة السويسرية “سويس انفو” بهذا الصدد: “يقف العِلْمان على طرفيْ نقيض في فهْم كيفية عمل الدماغ” .

ووصف الأستاذان جهودهما في الرّبط بين علم الأعصاب والتحليل النفسي، بأنها بمنزلة “الجمع بين نقيضيْن أو الجمع المُعضِل بين الدبّ القطبي والحوت” .

وخلص كل من آنسارميت وماجيستريتّي، إلى أن جهودهما تلتقي عند البحث الخاص بمفهوم اللدونة (المرونة) العصبية، الذي يُعبّر في المضمون عن قُدرة الدماغ على إعادة تنظيم نفسه بتشكيله، عبْر مسيرة الحياة، لارتباطات عصبية جديدة، ما هي إلا أثر مادّي أو نقش لتجاربنا في الذاكرة .

ويمكن لنا أن نتصوّر الدّماغ كما لو كان كُتلة مطاطية في حالة حركة، ما بين تمدّد وانكماش وتَطَوٍّ واعتدال، تُتيح المجال طِوال الحياة لتكوين ارتباطات عصبية جديدة، لها شكْل بُقع أو نكاتٍ صغيرة، هي آثار لتجاربنا الجسدية والعقلية .

وتفيد الأبحاث، بأن العصبونات، التي هي خلايا عصبية متخصِّصة، لها مهمّة نقل المعلومات، تتبدّل بفعل خِبراتنا أو تجارِبنا الحياتية . فقد تنمو ارتباطات جديدة بين الخلايا العصبية، كما قد تتلاشى ارتباطات قديمة، إما بسبب ضُعفها أو بسبب ما تتعرّض له من تجاذبات، هذه العملية هي التي يُطلِق عليها العلماء المُرونة العصبية، وهي مؤشّر على قدرة الدِّماغ على القيام بنشاطه .

وجدير ذكر، أن الآثار المادية التي تتحدّث عنها أبحاث المُرونة العصبية، تتوافق مع مفهوم رئيس لدى التحليل النفسي، يقوم على أساس أن أحداث الحياة تترك آثاراً في الحالة النفسية .

وبحسب ماجيستريتّي: “الفِكرة المِحوّرية، هي أن عِلم الأعصاب وعِلم التحليل النفسي، كلاهما يعتبر أن النكات أو الآثار تستنِد إلى حقائق بيولوجية، أساسها المُرونة العصبية، وهي تمثّل الآلية التي بواسطتها يقوم الدِّماغ بتشفير التّجارب الشخصية لكل شخص: كيف يتعلّم؟ وكيف تعمل ذاكرته؟ وكيف تُنقَش التجربة أو الحدث، ليُصبح جزءاً من الذاكرة؟” .

وما أن يقوم الواحد مِنا بتعلّم الأمر الجديد، حتى يتِم نقشه بشكل ابتِدائي على هيئة مجموعة من الارتباطات العصبية الدِّماغية الخاصة، وتَذَكُّر تجربة من الماضي، يعني أن ارتباطاتها الدِّماغية نشطت من جديد، فولّدت نمَطا منها كان مُخزّنا في الذاكرة .

وعلى سبيل المثال، لو تبسَّمت أمّك في وجهك وعانقتْك، فسيتولّد لديك شعور بالراحة والدِّفء، وعند ذلك، يُنسج نمط لذات النشاط الحاصل وينقش في ذاكرتك، كأثر لصورة وجْه أمِّك المُبتسم ولعِناقها الدّافِئ وللراحة النفسية والجِسمانية، التي أحْسَست بها، ثم يَصير كلَّما خَطَرت على بالك ابتِسامة أمِّك، يتحفَّز عندك ذات النَّمط المُخَزّن في ذاكرتك، فيتولّد لديك شعور بالراحة والسعادة، حتى وإن كانت أمّك غائبة عنْك .

وفي حديث لها مع “سويس انفو” قالت ماجي زيلنر، المديرة التنفيذية للجمعية الدولية للتحليل النفسي والعصبي، التي يوجد مقرها في نيويورك: “من المُثير للاهتمام، أن مُعظم تلك العمليات تَحدُث بشكل لا شعوري، أي خارج الوعي، وما هو موجود في أدمغتنا من ذكريات، ومشاعِر، وتوقّعات مستقبلية، واحتياجات آنية، هو الذي يُحدِّد ما تكون عليه مشاعِرنا وتفكيرنا ونوايانا في كل لحظة من لحظات حال الوعي” .

وبالنسبة إلى زيلنر، فإن: “ما قام به آنسارميت وماجيستريتّي، شيء متميّز . فهُما يعملان على ربط المرونة العصبية بما يُطلِق عليه المحلِّلون النفسيون، اللاوعي الديناميكي أو المؤثّر، وهو النشاط العقلي الذي يَحدُث في اللاّوعي، كالرّغبة والخوف، وهو بدوره، يؤثِّر في أفكارنا ومشاعرنا وسلوكياتنا” .

لقد استطاع الثنائي آنسارميت وماجيستريتّي تقديم شرح لكيفية قيام الدِّماغ بدمْج التصوّرات الخارجية مع التّفاعلات الداخلية، والطريقة التي يتِم بواسطتها تخزين هذه العمليات واستِدعائها أو إعادة تنشيطها في أخرى مُستجَدّة .

كما على سبيل المثال، إذا انتابَك دافعٌ لعمَل شيء لا ترضى عنْه أمّك، فإن الدِّماغ يقوم بتوليد نمَط من الاستجابة، ترتسِم خلاله صورة وجْهِها الغاضب وشعورها المُضطرب، وهي حالة سبَق لك في ما مضى أن شاهدتها وأحسَسْت بها، فعندئذٍ تتوقف إنفاذ هذا الدافع، من دون أن تُدرك تمامَ ما جرى خلْف كواليس ذاكرتك .

ورغم عدَم اتِّضاح التطبيق العملي لمسلَك آنسارميت وماجيستريتّي، إلا أن الخُبراء في المجال، يرجِّحون أن تُسهِم أبحاثهم يوما ما في علاج المرضى . وترى زيلنر أنه “بسبب ما يعتري الدِّماغ من تغيُّرات مستمرّة، بفعل ما يمُر على المرء من تجارب وأحداث يومية، تتكوّن لدى كل مِنّا القُدرة على تغيير أنْماط الاستِجابة المُخِلّة أو تلك المُجانِبة للصَّواب” .

وتضيف: “مع مرور الوقت، يصبح عند أغلبية الناس مَيْلا دائما لأن تكون لديهم نفس المخاوف والرَّغبات وطُرق اللَّهو والتنفيس عن الذات وأساليب التواصل وبِناء العلاقات والاعتِناء بالذات” .

يُشار إلى أن ماجيستريتّي وآنسارميت، يقدِّمان علاج التحليل النفسي من خلال دراستهما، على أنه وسيلة أمام الناس تساعدهم على الوصول إلى مجموعة التداعيات التي تقود إلى أنماط عقلية غيْر سليمة، من أجل تغييرها ونقْشها في هيئة أنماط سليمة .

ومن جانبه، اعتبر فيليب لولوف، الطبيب النفسي والمدير المساعد في شُعبة العلاج النفسي في مستشفى مونت سيناي، أن الجهود التي يقوم بها هذا الثنائي تبعَث على الأمل، ووصفها في تصريح ل”سويس انفو” قائلا: “إنها تُعطي الأمل بإمكانية تحقيق تغييرات في الشخصية، باعتبار أن الدِّماغ مَرِن ولدِن، وباعتبار أننا بواسطة التحريض من خلال التحليل النفسي، أي بمجرّد الكلام، يمكننا إحداث تعديلات في بنية الدِّماغ، بإمكانها تحسين أداء الأشخاص، ومن بينهم نحن، كما يُمكن أن تقدم الأسلوب الناجع في معالجة وشِفاء أصحاب الاضطرابات” .