فى عام 1978 صدر للكاتبة "إيلين تريبمرجر" كتابها الثانى بعنوان "ثورة من الأعلى" والذى يتناول الرؤية الاجتماعية لعدد من ثورات القرن العشرين، والتى تميزت بأنها على حد تعبيرها "ثورات من الأعلى"، المصطلح الذى قصدت منه "إيلين" الثورات التى قامت على مستوى الطبقة الحاكمة لتحل الفئة الثائرة محل الطبقة الحاكمة مباشرة دون فترة انتقالية ولا إجراءات لنقل السلطة، وقد تناول الكتاب عدداً من الثورات التى تجسد فيها مصطلح "ثورة من الأعلى" مثل الثورة اليابانية 1868 "ثورة ميجي"، ثورة بيرو، الثورة التركية، الثورة المصرية "ثورة يوليو 1952".

والمميز فى الكتاب أنه تناول الرؤية المجتمعية لتلك الثورات، أى أنه لم يتناول الثورة من جانبها السياسى وما أحدثته على هذا الصعيد، ولكنه يتناول التغيرات الاجتماعية التى حدثت كنتيجة للتغيرات السياسية على الساحة، والتى ترتبت على إحلال الفئة الثائرة محل الطبقة الحاكمة مما ينعكس على توجهات المجتمع الفكرية والاقتصادية والنفسية، وقد حلل الكتاب عددا من النقاد وأرجعوا تميز الكتاب إلى أنه تحرر من الرؤية "الماركسية" للثورات، والتى –على حد تعبيرهم- تعمل على قولبة الثورة فى قالب ليس من الضرورى أن تكون منبثقة عنه دائماً.

وقد قامت الكاتبة ببناء مصطلح "ثورة من الأعلى" كمصطلح مشروط بعدة عوامل يجب أن تتوافر فى الثورة كى يُطلق عليها هذا المصطلح وجاءت هذه العوامل أولاً أن يتم الاستيلاء على السلطة والقبضة السياسية والاقتصادية والعسكرية فى الدولة بقيادة أو بمساعدة قيادات عسكرية وأحياناً مدنية من النظام الذى قامت ضده هذه الثورة "كما كان الحال فى ثورة يوليو 1952".

وهذا النوع من الثورات لا تشارك فيه الحشود الشعبية وإن شاركت فهى تشارك بشكل بسيط جداً وبحشود ليست بالضخمة، فهذا النوع من الثورات ليس مصنفاً كثورات شعبية بأى شكل من الأشكال بل هى ثورات على مستوى الفئة الحاكمة فقط، وإن شاركت فيه الحشود فإن هذه المشاركة تأتى بعد الاستيلاء على السلطة بنجاح.

وأيضًا الاستيلاء على السلطة يأتى بأقل قدر من العنف أو بدون عنف نهائياً. وتأتى الخطوات الأولى والمحركة للثورات من هذا النوع بشكل "براجماتي" نفعى يعتمد على المنظومة البيروقراطية للدولة فى تحقيق أهدافه "الراديكالية" أى المنحازة بشدة لأيديولوجية وتوجه الفئة التى استولت على السلطة. وتقوم الفئة التى استولت على السلطة بتدمير الأسس الاقتصادية الإستراتيجية والعسكرية التى تقوم عليها الدولة التى قامت عليها الثورة، ويعمل على هدم الطبقة الأرستقراطية التى نَمَت على سياسات النظام الساقط.

وعلى مستوى الثورة المصرية فى يوليو 1952، فقد وجدت الكاتبة أن شروط ما يسمى بـ "الثورة من الأعلى" متوافرة، حيث جاءت الثورة بأقل قدر من العنف وقام بها عدد من القيادات العليا والصغيرة فى الجيش المصرى وقاموا بالسيطرة على المنظومة الحكومية البيروقراطية للدولة بشكل سلمى بقدر الإمكان ومن خلال تلك السيطرة قاموا بفرض رؤى وتوجهات الثورة وتطبيقها على أرض الواقع وبأقل عدد من الحشود أو دون استخدام حشود شعبية أثناء انقلابهم على النظام الملكى وإنشاء النظام الجمهورى .

وفى بعض الحالات قد تقوم الثورات الشعبية "من الأسفل" لتنضم لها فئات تسعى للاستيلاء على السلطة بمعاونة قيادات من النظام الذى قامت ضده الثورة ليتم تقديمها كفصيل ثورى منتمى للثورة الشعبية لتسيطر على المنظومة البيروقراطية للدولة وتفتعل بعض التغييرات الشكلية مع الحفاظ على جوهر النظام وأسس الدولة وفى الأغلب تكون تلك الفئات أكثر سوءً وفساداً من الأنظمة التى قامت ضدها تلك الثورات والتى استبدلت نفسها سلمياً بتلك الفئات كحل وسط للحفاظ على المنظومة الفاسدة من التطهير، وبهذا يتم احتواء تلك الثورات الشعبية عن طريق تجنيد فصائل منها لحماية المنظومة واستمرار سلبياتها بل وغالباً تزداد تلك السلبيات.