سان بطرسبورغ إرث القياصرة



على بحر البلطيق، تشمخ سان بطرسبورغ نافذةً على أوروبا كما أرادها القيصر بطرس الأكبر عام 1703. لكن هذه المدينة التي دخلت التاريخ متأخرةً استطاعت أن تملكه بين جنباتها فكانت إرث قياصرة روسيا ومخزناً ضخماً لأيقوناتٍ من الأعمال الفنية تخبئها في ثنايا متاحفها وقصورها.
على ارتفاع 42 متراً من مستوى البحر، وبطقسٍ أكثر برودة من موسكو، تستلقي مدينة القياصرة بجمالها الأخاذ.
ومن موقع بنائها فوق مستنقعاتٍ على بحر البلطيق اكتسبت اسمها «فينيسيا الشمال»، حيث أمر القيصر الروسي بطرس الأكبر بتشييدها ليجعلها وصلة روسيا مع أوروبا، وينقل عبرها الحضارة الأوروبية إلى روسيا الغارقة في تاريخها القديم وتقاليدها الجامدة.



ومن هنا انفتح الروس على الفرنسيين والإيطاليين وبقية الأوروبيين، وتعرفوا منهم على آخر مبتكرات الهندسة والعلم والفن، وأخذوا بتقليدهم ثم بدأوا بمنافستهم بل التفوق عليهم في مجالاتٍ منها ضخامة الأبنية وعرض الشوارع وبذخ القصور وغنى المتاحف، وليس أدل على ذلك من متحف الإرميتاج الذي يحتضن نحو 3 ملايين عملٍ فنيٍ ويحتاج المرء إلى السير 24 كيلومتراً إذا أراد زيارته بالكامل.
تأسست سان بطرسبورغ منذ 305 سنوات.
وبدأت من قلعة بطرسبورغ التي يطلق عليها حالياً اسم بتروبافلوفسك، ثم أخذت حركة التعمير تمتد من حول هذه القلعة لتتشكل المدينة.
ولأكثر من 200 سنة، من عام 1712 وحتى العام 1918، تألقت بطرسبورغ كعاصمة الدولة الروسية، ونقلت إليها جميع أجهزة السلطة القيصرية.



تغيرت أسماء المدينة بتغير محطاتها السياسية، فمن «سان بطرسبورغ» نسبةً إلى القديس بطرس أحد حواري السيد المسيح، تغير اسم المدينة بعد الحرب العالمية الأولى إلى «بتروغراد» من اسم مؤسسها بطرس الأول.
وبعد وفاة لينين الذي أطلق منها ثورته عام 1917، تغير اسم المدينة إلى لينينغراد في 1924.
وفي عام 1991، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، استردت سان بطرسبورغ اسمها التاريخي في استفتاء شعبي.

طرازٌ أول
تشير بعض المراجع إلى أن مدينة القياصرة، لم تكن مكاناً جذاباً للسياح الأجانب في حقبة البلاشفة.
فقد كانت الفنادق فيها تشبه سكن الطلاب في الجامعات.
ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أصبحت سان بطرسبورغ التي ألهمت كبار المفكرين والكتاب والمؤلفين الموسيقيين مثل بوشكين ودوستيوفسكي وتشايكوفسكي وشوستاكوفيتش، من أكثر مقاصد العالم جذباً للسياح، إضافةً لما تتمتع به من حركة رواجٍ تجاري واقتصادي.



لكن البعض يرى أنها غدت مدينةً بملامح أوروبية أكثر منها روسية، فضلاً عن أن الروسيين بشكلٍ عام يعدًون سان بطرسبورغ، إلى جانب كونها مدينةً سياحيةً من الطراز الأول، أنها أيضاً موطنٌ للنخبة وصفوة المجتمع الروسي.

جمالٌ ينقذ العالم
لا شك في أن ما قاله ابن سان بطرسبورغ الكاتب الروسي الشهير فيدور دوستويفسكي عنها صحيح.
فجمالها ينقذ العالم بما تتألق فيه من سكونٍ ورهبة، وهي اليوم متحفٌ مفتوحٌ في الهواء الطلق عبر «الحديقة الصيفية» وما تعج به من تماثيل، وقلعة «بطرس وبافيل» في جزيرة فاسيلي، والقصور التاريخية التي لم تتسع لها المدينة فتناثرت في ضواحيها.



وتكاد بطرسبورغ تكون متحف أوروبا لما تزخر به من الأعمال الفنية، فحتى محطات المترو فيها تمثل متاحف قائمة بحد ذاتها.
كما تحتضن المسجد الجامع في سان بطرسبورغ الذي افتتح رسمياً عام 1913 ويعد واحداً من أكبر المساجد في أوروبا، بالإضافة إلى كاتدرائية القديسين بطرس وبولص التي بنيت عام 1859، حيث تضم قبور القياصرة ومن بينهم آخر قياصرة روسيا نيكولاس الثاني.

فيضٌ من المكنونات
وكما تخلَّد قصر فرساي في تاريخ ملوك فرنسا، فإن قصر بيترغوف الذي بناه القيصر بطرس الأكبر عام 1710 في الجانب الغربي من سان بطرسبورغ، حظي بشهرةٍ واسعة طلت مبانيه المتعددة و حديقته الشاسعة ونوافير المياه ذات الأشكال الهندسية البديعة والتي يطغى عليها الذهب كسائر تحف روسيا، ثمة من يقول بأحقيتها في الانتماء إلى عجائب الدنيا.
وعند التجول في سان بطرسبورغ فعلى المرء أن يمر بقصر ميخايلوفسكي ومسرح ألكسندريسكي، وساحة القديس إسحاق التي تتألق بأعمدةٍ رخاميةٍ نادرة من حجر المالكيت وأيقوناتٍ بيزنطية قديمة، وتضم كاتدرائية القديس إسحاق وتمثال القيصر نيكولا الأول.



بعد ذلك تأتي كنيسة المخلّص التي لا تغيب صورتها عن الذهن، وتتميز بقببها الروسية التقليدية الملونة على شكل البصلة، بحيث تشبه قبب مبنى الكرملين في موسكو.
لكنها في الوقت نفسها اقتبست القوس العربي الفارسي وبعض الزخرفة الآسيوية من الصين.
بالإضافة إلى قصر مارينسكي وهو مركز الفن في سان بطرسبورغ ويستحق لقب قصر الثقافة والموسيقى، يقابله دار الباليه.

شارع نيفسكي
أخذ أشهر شارعٍ في سان بطرسبورغ اسمه من اسم أحد أبطال روسيا القديمة الذي قاوم المغول في القرن الثالث عشر.



ووصف الكاتب الروسي الشهير غوغول شارع نيفسكي بشبكة الاتصالات العمومية لمدينة سان بطرسبورغ، وهو وصفٌ استوحاه من شكل الشارع، فبالرغم من التنوع في التصاميم المعمارية للمباني على طرفيه إلا أنها تخضع جميعها لمبدأ واحد هو وحدة الارتفاع.
وتتخلل هذا الشارع ثلاثة أنهر أو قنوات كما يسميها الروس، كما يقع فيه واحدٌ من أشهر جسور سان بطرسبورغ التي يصل عددها لأكثر من 300 جسر.
كما يشتهر بالتماثيل التي نصبت على أطرافه الأربع والتي قد تبدو متماثلةً للحظة، إلا أنها تسجل في الحقيقة مراحل ترويض فرس جامحة من أول لحظات العنفوان وحتى الوصول للوداعة.

كاتدرائية إيساكيفسكي
تُعد كاتدرائية «إيساكيفسكي» ثالث أكبر معبد مسيحي في العالم حيث تتسع لـ12 ألف مصلٍ في آن، وهي من أبرز الرموز المعمارية و الأرثوذكسية في سان بطرسبورغ حيث يزورها سنوياً ما يقارب مليون و700 ألف سائح.
وحين أمر القيصر ألكسندر الأول ببنائها، كان يريدها أن تشع بعظمة روسيا كإمبراطورية أوروبية، ولذلك فإن هذه الكاتدرائية لا تشبه الكنائس الروسية التقليدية، بل تُعدأقرب للكنائس الغربية.
وترتفع قبة الكاتدرائية لأكثر من 100 متر عن سطح الأرض.
وقد انتهى تشيدها عام 1858 بعد سلسة من إعادة الإعمار، حيث تم استخدام الرخام والغرانيت والبلاط، و400 كيلو غرام من الذهب الخالص وزعت بين المظهرالداخلي والخارجي.

متحف الإرميتاج
مع ازدهار الإمبراطورية الروسية في زمن القيصرة الشهيرة كاترين الثانية، قامت بتأسيس الإرميتاج عام 1764م. وعلى مر المائة عام التالية شهد المتحف عدة توسعات ليحتضن الآلاف من المعروضات من مختلف المدارس حول العالم، فكان القياصرة يفوضون السفراء الروس في العواصم الأجنبية للحصول على أفضل المجموعات المعروضة للبيع، حيث تم شراء مجموعةً من أعمال ليوناردو دا فينتشي، وفان إيك، ورافاييل من إيطاليا على سبيل المثال.
يعتبر الإرميتاج المنافس الأول لمتحف اللوفر الفرنسي، ويتفوق على متاحف العالم كلها بضخامة مبانيه الخمسة وتصميم قاعاته وعدد المعروضات الذي يبلغ ما يقارب ثلاثة ملايين قطعة ما بين تمثال وأيقونة وقطع أثرية وأسلحة وتحف فنية نادرة ولوحات لأشهرالفنانين العالميين. ودخل متحف الإرميتاج سجل «غينيس» لأكبر مجموعة من اللوحات في العالم



وله فروعٌ دولية تقع في أمستردام، ولاس فيغاس، وفيرارا في إيطاليا وآخر كان في لندن لكنه أغلق في نوفمبر2007م.
يقبل على الإرميتاج سنوياً نحو 5.3 مليون زائر، ويقف هؤلاء الزوار مذهولين أمام سحر الأعمدة والسلالم المطلية بالذهب وما يتخللها من نقوشاتٍ بديعة.
ويضم القصر مجموعة هائلة من التحف الفنية المعروضة في خمسة مبان أشهرها قصر الخريف ومجمع مباني القصر الشتوي «ونتر بالاس» الذي خلده التاريخ كمقر إقامة القياصرة الروس سابقاً، والمقر الرئيسي اليوم لمتحف الإرميتاج.
تم تشييد القصر الشتوي على يد المعماري الإيطالي الشهير راستريللي، حيث صممه على طراز الباروك الروسي عام 1752، وأنجزه خلال عشر سنوات.
ولتوسيع المتحف شُيّد الإرميتاج الصغير عام 1764م، وكان أول مبنى يحمل اسم الإرميتاج، وتميز بناؤه بالأعمدة البيضاء من أرقى وأنقى أنواع الرخام التي يتخللها الضوء من قطر يبلغ نحو 80 سنتيمتراً، كما زينت أرضه بالفسيفساء من أجود الأحجار الكريمة.
بعد ذلك شُيّد مبنى الإرميتاج القديم عام 1787م.
ثم مسرح الإرميتاج عام 1802م، من تصميم المهندس الإيطالي جياكومو كوارنجي، واستغرق بناؤه عشرين عاماً لعرض تماثيل ومنحوتات لأشهر النحاتين في التاريخ ومنها تماثيل للفنان الإيطالي مايكل أنجلو منها تمثال «الصبي المتألم» وتمثال «العبد المغلول».
وأخيراً جاء الإرميتاج الجديد عام 1852م الذي يعتبره الكثيرون أجمل المباني الخمس من الناحية المعمارية، حيث تم تشييده فوق عشرة أعمدةٍ تتخذ شكل تماثيل صخمة لعمالقة يحملون على أكتافهم الكرة الأرضية في الطابق الأسفل.
أما من صمم هذا الإرميتاج الجديد ونحت تماثيله العشرة فكان النحات الروسي الشهير ألكسندر توربينيف.
ويضم المتحف اليوم أقساماً عدة منها اليوناني والروماني والإيطالي والأسباني والفرنسي والإنجليزي والروسي وقسم ثقافة العصور القديمة والفن الشرقي، وصالات أخرى كصالة الفرسان.

مدينة الليالي البيضاء
لم تكتف سان بطرسبورغ بلقب «مدينة القياصرة» ولا «فينيسيا الشمال»، بل اكتسبت وعن جدارةٍ لقب مدينة «الليالي البيضاء». فموقعها الجغرافي المتميز أتاح لها أن تحظى بنهار طويلٍ جداً خلال شهور الصيف، حيث تشرق الشمس في الرابعة صباحاً ولا يحل الظلام قبل الثانية من صباح اليوم التالي.

واحتفالاً بهذه الظاهرة المضيئة، يقام مهرجان «الليالي البيضاء» الموسيقي منذ عام 1992، بحيث يبدأ من أواخر مايو وينتهي بنهاية يوليو من كل عام.
وتقدم خلال المهرجان أجمل المسرحيات الموسيقية (الأوبرا) الروسية والإيطالية وعروض رقص الباليه مع أشهر النجوم الروس الذين تعلموا فن الباليه من فرنسا ثم أتقنوه وأصبحت قطعٌ مثل «بحيرة البجع» و»كسارة البندق» للموسيقار تشايكوفسكي من أخلد المؤلفات الموسيقية الكلاسيكية.