وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على خلقه بكثير من النعم في أنفسهم وفي الآفاق التي جعل فيها معاشهم، وذكَّر الله عز وجل عباده في كثير من الآيات بشيء من هذه النعم، امتناناً عليهم وتفضلا، وتحبباً إليهم وتقربا، فالنفوس السوية مجبولة على حب من ينعم عليها ويحسن إليها، وفي سورة النحل ذكر الله جل وعلا طائفة كثيرة من هذه النعم حتى سميت السورة بسورة النِّعَم، ومما ذكره ربنا جل وعلا من النعم في هذه السورة قوله: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]



وقد ختم به طائفة من النعم التي ذكرها في أول السورة، ثم أعقبها منكراً على من أعرض عن هذه النعم ولم يلتفت إلى موجدها المتفضل بها على عباده ليؤدي حقه عبادة وشكراً على هذه النعم، بل ويا للعجب التفت إلى من لا يملك شيئاً منها، ولا يقدر على إيجاد شيء منها، فصرف له حق الله سبحانه من العبادة والتذلل والخضوع، فقال جل وعلا: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[النحل: 17]!

إن الإنسان حال سيره في مناكب الأرض يحتاج إلى علامات في طريقه ترشده وتعينه للوصول إلى بغيته، وقد تكفل الله عز وجل بهذه العلامات فجعل في الأرض جبالاً وأنهاراً وأودية وتلالاً، وغير ذلك من العلامات التي يهتدي بها الإنسان في النهار، أما في الليل حيث يلفه ظلامه وتخيم عليه وحشته وتزداد حاجته لما يهديه سواء السبيل فقد جعل الله سبحانه وتعالى في السماء مصابيح تنير للسائرين دربهم وترشدهم للطريق، كما قال تعالى: {وبالنجم هم يهتدون}.

إن من تأمل تخصيصه جل وعلا النجوم بهذه الهداية دون القمر -رغم كونه أشد ضياء وأقرب مسافة- ظهرت له حِكَم بديعة، فالقمر سريع الحركة والتنقل؛ في الليلة الواحدة، وخلال ليالي الشهر والعام، بخلاف النجوم التي تبدو أكثر ثباتاً في السماء مما يجعل معرفة منازلها أيسر، والقمر يغيب من السماء ويُفقَد ضياؤه في عدد من ليالي الشهر بخلاف النجم الذي لا يُذهِب نُورَه إلا ضوء النهار ونور الشمس، والقمر ينكسف، وأما النجم فلا ينكسف؛ بل إن لذكر النجم دون غيره من الوسائل والأدوات التي استخدمها الناس منذ القدم حكمة بالغة، إذ النجم متاح لكل إنسان في كل مكان وفي كل ساعة من ساعات الليل ولا يملك حجبه أحد، وتعلم الاهتداء به ميسر، بينما تلك الوسائل غير متاحة لكثيرين، وقد يصعب استخدامها على كثيرين.

وبرغم ما في الآية الكريمة من معان باهرة في هذا السياق، إلا أن من تدبرها بمزيد تدبر وغاص في معانيها ظهر له من أنوارها ما هو أبعد من ذلك، فكما أن الإنسان في الدنيا أحوج ما يكون للاهتداء كي يصل إلى غايته ولا يضل الطريق إنما يكون في ظلام الليل، فكذلك هو في سيره إلى الآخرة أحوج ما يكون لما ينير له دربه في ظلام الفتن والظروف الحالكة حيث تُعَمِّي عليه الشبهات والشهوات طريقه، وكما أن الذي يريد أن يصل إلى بغيته ولو كان في لُجِّ البحار والمحيطات أو في عمق المفاوز والقفار يهتدي بالنجم، فكذلك من يريد الوصول لرضا الرب ولجنة عرضها السماوات والأرض عليه أن يهتدي بأدلة الحق.

إن النجم في ثباته ووضوح هدايته السائرين على الطريق شبيه بأدلة المنهج الحق، فهي ثابتة مطردة يسيرة واضحة، وكما أن الذي يهتدي بالنجم لا يضطرب ولا يضل ولا يضيع بإذن الله فكذلك من يهتدي بأدلة المنهج الحق، لا تتناوشه الفتن ولا تصرفه عن وجهته الخطوب والكروب، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ"(1)، وتذكر أن هذا كان عهده صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم سألوه لما وعظهم موعظة بليغة فقالوا: "يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟" لتعلم أهمية معرفة المنهج والثبات عليه: "فعليكم"، وخطورة البعد والتولي عنه: "لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"، وتأمل كيف وصف المنهج بالبياض إذ أدلته أكثر بياضاً ولمعاناً من النجم في السماء.

فإذا تبين لك ما في الآية من معان وحكم وإذا عرفت أن الهداية العظمى أن تهتدي بالله إلى طريق الله، فإياك وبنيات الطريق، إذ قد عرفت فالزم.