بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) الحجرات :10

الحمد لله الذى أوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية
شهادة لم يبغ لها عوجا ً ، وجعل لمن لاذ به واتقاه من كل ضائقة مخرجا ً ، وأعقب من ضيق الشدائد وضنك الملمات لمن توكل عليه فرجا ً وجعل قلوب أوليائه متنقلة فى منازل عبوديته من الصبر والتوكل والإنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجاء ، فسبحان من أفاض على خلقه بنعمة المحبة وكتب على نفسه الرحمة وضمن كتابه الكريم : أن رحمته تغلب غضبه ودعاهم
ألى جواره فى دار السلام :
( فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) الأنعام :125
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ولا سمىَّ له ولا كفو له ولا صاحبة له ولا ولد له ولا شبيه له ولا يحصى أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق مايثنى عليه خلقه شهادة من أصبح قلبه بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته مبتهجا ً
وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للمساكين وحجة على العباد أجمعين
فبلغ الرسالة وأدى الأمانه ونصح الأمة وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين
وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، الذى قال فى حديثه ناصحا من قال له أخيه المسلم ( احبك فى الله ) بأن يرد عليه قائلا ً : " أحبك الذى أحببتنى له " أخرجه أبوداود بإسناد صحيح 4/333
فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء وصلى الله عليه وسلم صلاة وسلاما يملأن أقطار الأرض والسماء
أما بعد إخوانى وأحبتى فى الله إن الله سبحانه وتعالى غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده فى قلوب من إختارهم لربوبيته وأختصهم بنعمته وفضلهم على سائر خليقته
فهى ( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ*
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) إبراهيم : 23-24
فكذلك شجرة الإيمان أصلها ثابت فى القلب وفروعها الكلم الطيب ، والعمل الصالح فى السماء فلا تزال هذه الشجرة تخرج ثمرها كل وقت بإذن ربها من طيب القول وصالح العمل ما تقر به عيون صاحب الأصل وعيون حفظته وعيون أهله وأصحابه وعشيرته ومن قرب منه ، فإن من قرت عينه بالله سبحانه وتعالى قرت به كل عين وأنس به كل مستوحش وطاب به كل خبيث ، وفرح به كل حزين ، وأمن به كل خائف ، وشهد به كل غائب ، وذكرت رؤيته بالله ، فإذا رؤى ذكر الله فاطمأن قلبه إلى الله وسكنت نفسه إلى الله وخلصت محبته لله وقصر خوفه على الله وجعل رجاءه كله لله فإن سمع سمع بالله وإن أبصر أبصر بالله وإن بطش بطش باللله وإن مشى مشى بالله ، فإذا أحب فـ لله وإذا بغض فـ لله وإذا أعطى فـ لله وإذا منع فـ لله ، قد أتخذ الله وحده معبوده ومرجوه ومخوفه وغاية قصده ومنتهى طلبه ، وأتخذ رسوله صلى الله عليه وسلم وحده دليله وإمامه وقائده وسائقه ، فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه ، وإفراد رسوله صلى الله عليه وسلم بمتابعته والإقتداء به والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه وكان من السالكين إلى الله من كل واد الواصل إليه من كل طريق ، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت قد ضرب مع كل فريق بسهم ، فأين كانت العبودية وجدته هناك : إن كان علم وجدته مع أهله ، أو جهاد وجدته فى صف المجاهدين ، أو صلاة وجدته فى القانتين ، أو ذكر وجدته مع الذاكرين ، أو إحسان ونفع وجدته فى زمرة المحسنين ، أو محبة أو مراقبة وإنابه إلى الله وجدته فى زمرة المحبين المنيبين ، ولو قيل له : ماتريد من الأعمال ؟
لقال : أريد أن أنفذ أوامر ربى حيث كانت وأين كانت ليس لى مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبا ًله عاكفا ًعليه بالروح والقلب والبدن قد سلمت له المبيع منتظرا ً منه تسليم الثمن وهو :
( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ ) التوبة:111
فهذا هو العبد المحب التام المحبة بمحبوبه وهو الله ومن ثمَ كان قلبه عامرا ً بالحب و الرحمة
ومهيئا ً لحب الناس وأن يحب فى عباده مايحبه الله ويكره فى عباده ما يكرهه الله
والمحبة معية القلب والروح مع المحبوب والمحبة فى الله لاتوصف ولا تحد بحد أقرب إلى الفهم من لفظها نفسه وأن كل لفظ يعبر به المسلم عن حبه ومودته لأخيه فلابد أن يكون الرد عليه ألطف وأرق منه ، أما الغيرة فهى آفة أبتلى بها الكثير من الناس حين يرون أثنين أو أكثر يحبون بعضهما ويتراحمون ويتوددون فيما بينهم فتسول لهم أنفسهم أن هذه غيره على محبوبهم ( الله ) وهم فى الحقيقة ماهم إلا حاقدين وما هو إلا حسد حملهم على تفريق المحبين فى الله وترويعهم وسموه غيرة ، وإنما غيرة المحبين لله أن يغار المسلم لمحارم الله إذا أنتهكت .!
فيغار لله لا على الله كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إن الله يغار ، وإن المؤمن يغار ، وغيرة الله أن يأتى العبد ماحُرم عليه ) متفق عليه
فغيرة المحب هى الموافقة لغيرة محبوبه ومن هنا
يتبين لنا الحكمة العليا من الحوافز التى شرعها الإسلام لإثراء الإنسانية بالعواطف السامية
وهو يبنى اللبنة الأولى للمجتمع الكبير من خلال الأسرة المسلمة ويحرص فى الوقت نفسه
على تعدد مواقع المحبة و المودة والرحمة وعدم حصرها فى الأبوة والأمومة والرحم القريب ، ويحوطها بالضمانات والتشريعات التى تحميها من الضعف الذى تولده النزوة والطمع ، ويتوسع فى بنائها حتى تشمل مجتمع المؤمنين كله تحت لواء أخوة الدين التى تشمل المترابطين بالزواج وصلة الأرحام ، وتشمل المتباعدين الذين لم يتراحموا بهذا الرابط ، وأنما تآخوا برباط هو أقوى من كل الروابط ألآ وهو الإيمان الذى يجمع الكل على هدف واحد ، وكلمة واحدة ، ونسب واحد هو نسب الإسلام
فإذا كانت المودة والرحمة هما نسب الأقرباء فإن أخوة الأيمان هى نسب من لم يكن يُرجى بينهم نسب فى أى تشريع ولا فى أى قانون غير قانون السماء
ونحن نلاحظ أن الإسلام وهو يربط كل المؤمنين برباط الأخوة إنما يستوحى آصرة الدم الأقوى من رباط الزوجية كلما تباعدت بالمؤمنين أواصر الرحم القريب ، أى أن التشريع الإسلامى قد أختار لغرباء الدم من المسلمين نفس عاطفة الأخوة ، وجعل بدلا ً من رباط الدم القريب رباط الدين الأقرب من كل رباط قريب ، وقررت السنة الشريفة السمحاء لأقرباء الدين نفس الحقوق الواجبة لأقرباء الرحم القريب ، فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ، وهو أخوه فى وجوب النصرة
وهو أخوه لا يخطب على خطبته ، ولا يبيع على بيعه ،
بل أعطى الجار نفس حقوق قريب الدم
إلى آخر ما جاء فى السنة الشريفة من حقوق أخوة الدين التى لاتقل عن أخوة الدم فى قليل أو كثير ، تفسيرا ً لما جاء فى القرآن الكريم من أصول الأخوة الإيمانية :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الحجرات : 11
والشعور بأخوة الدين شعور لا يخطئه قلب مؤمن فى أى بلد إسلامى يعيش فيه ، أو أى بلد غير إسلامى يقابل فيه مسلما ً ، فأن إتحاد العقيدة والثقافة والكلمة والوجهة يربط بين الغريبين ويحتويهما فى إطار نادر من الحب والأ ُنس فتتلاقى فيه القلوب قبل الأجساد وتأنس به النفوس والأرواح
ومن هنا أيضا كانت التقوى والورع والتوكل على الله من أهم صفات المتحابين فى الله :
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً* وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً*وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) الأحزاب:1-3
كما أنهم ينفرون ويبتعدون عن ذوى الأخلاق الفاسدة ويمقتون الكذب ويكرهون الشح وهم أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى الناس كما أمرهم ربهم ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم :
(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) النساء :69
كما أن من واجبهم أبداء النصح والنصيحة لإخوانهم بكل تفانٍ ونشر دعوة الله بلا تقاعس ولا خوف من الناس أليست هذه اللفته هى بعينها ما جاء بالقرآن الكريم : " إنما المؤمنون أخوة " الحجرات 10 و " رحماء بينهم " الفتح: 29 وهم وحدة كاملة متكاملة " كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه "
الفتح:29 ،ومن هنا كان تحذير الله سبحانه وتعالى "ولا تقتلوا أنفسكم " النساء29 و" ولا تلمزوا أنفسكم " الحجرات11
وهو ما فسرته السنة النبوية فى جوامع الكلم ، فالمؤمنون فى توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والمى ، والمؤمن أخو المؤمن لا يظلمه ولا يسلمه ، ولا يتم إيمان المؤمن حتى يحب لأخيه مايحبه لنفسه إلى ما لا يحصى فى السنة النبوية من تقرير هذا الأصل العظيم من التسامى من العمل لمصلحة الذات الفردية إلى قمة العمل لمصلحة الذات الجماعية على أساس من الأخوة والحب
وبعد أخوتى وأحبائى فى الله إن المتحابين فى الله هم صفوة العباد وخلاصتهم والذين سلم الله عليهم :
( قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) النمل:59
وهم الأبرار الذين وعدهم الله الجنة :
( إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ) الإنفطار: 13
اللهم أجعلنا منهم من المحبين لك
ولأخوانهم فى الله