الحمد لله والصلاو والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه,وبعد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في هذه الصفحة سنتناول إن شاء الله تعالى بعض الشبهات التي أُثيرت في السيرة والرد عليها






الشبهة الاولى

شبهة حول أمية النبي صلى الله عليه وسلم






اقتضت إرادة الله تعالى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمّيّا ً ، حتى صارت تلك الصفة من خصائصه ، ولعل الحكمة من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يحسن القراءة والكتابة ، لوجد الكفار في ذلك منفذاً للطعن في نبوته ، أو الريبة برسالته ، وقد جاء تصوير هذا المعنى في قوله تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } ( العنكبوت : 48 ) .




وفي هذا المقام نجد محاولة جديدة لطمس الحقائق وتزوير الأحداث ، ويتمثل ذلك في إنكار بعض المستشرقين ما استفاضت شهرته من إثبات أمّيّة النبي صلى الله عليه وسلم ، متغافلين عن نصوص الوحيين الصريحة في ذلك ، ثم ساقوا لتأييد أطروحتهم جملة من الأدلة مستصحبين معهم أسلوبهم الشهير في تحريف النصوص وليّ أعناقها ، واستنباط ما لا يدل عليه النص أبدا لا بمنطوقه ولا بمفهومه ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، بل إننا نجد منهم اللجوء إلى الكذب الصراح متى ما كان ذلك موصلا إلى هدفهم من التضليل والتشويش .




وانطلاقاً من رغبتنا في بيان بطلان هذا الادعاء وبيان زيفه ، فإننا سوف نورد ما استدلوا به في إنكار أمّيّته صلى الله عليه وسلم ، ثم نقوم بمناقشته وإظهار وجه الحقيقة فيه .




كان أول ما استدلوا به هو ما رواه الإمام البخاري في قصّة الحديبية عن البراء رضي الله عنه قال : " لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، أبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . قالوا : لا نقر لك بهذا ، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ، ولكن أنت محمد بن عبد الله . فقال : ( أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله ) . ثم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( امح رسول الله ) ، قال علي : لا والله لا أمحوك أبدا . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب ".




قالوا : لقد نصّت الرواية على مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم لكتابة ما نصّه : " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " ، ومادامت الكتابة قد ثبتت عنه فلا شك أنه كان يحسن القراءة من باب أولى ، لأن القراءة فرعٌ عن الكتابة . وهذه الشبهة تُعدّ من أقوى شبهاتهم .




والجواب على هذه الشبهة فيما يلي :


أولاً : لا نسلّم بأن الرواية السابقة جاء فيها التصريح بمباشرة النبي صلى الله عليه وسلم للكتابة ، بل هي محتملة لأمرين : أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو المباشر ، أو أن يكون علي رضي الله عنه هو الذي قام بالمباشرة ، وتكون نسبة الكتابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجازيةً باعتبار أنه هو الآمر بالكتابة ، ونظير ذلك قول الصحابي : " ونقش النبي صلى الله عليه وسلم في خاتمه : محمد رسول الله " أي أمر بنقشه ، وإذا أردنا معرفة رجحان أي الاحتمالين ، فإنه يجب علينا العودة إلى مرويّات الحديث وطرقه .




لقد روى هذا الحديث المسور بن مخرمة و مروان و أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين ، واتفقت تلك الروايات كلها على أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بالكتابة ، فقد جاء في البخاري عن المسور بن مخرمة و مروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا : " ..فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب محمد بن عبد الله ) " ، وكذلك قال أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح مسلم ما نصّه : " ..فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتب من محمد بن عبد الله ) ".




أما رواية البراء رضي الله عنه ، فنلاحظ أن الرواة الذين نقلوها ، اقتصروا على بعض الألفاظ دون بعض ، ومن هنا حصل اللبس والإيهام في هذه الرواية .




فرواية عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه ذكرت : " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( امح رسول الله ) ، فقال علي : لا والله لا أمحوك أبدا . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " . ورواية إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه جاء فيها : " فقال لعلي : ( امح رسول الله ) ، فقال علي : والله لا أمحاه أبدا ، قال : (فأرنيه ) ، قال فأراه إياه ، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ".




ويضاف إلى روايات البخاري السابقة رواية أخرى مهمة لحديث البراء ، تلك الرواية التي أوردها ابن حبان في صحيحه عن محمد بن عثمان العجلي قال : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال : " فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فأمر فكتب مكان رسول الله محمداً ، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " الحديث .




ونخلص من مجموع تلك الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً رضي الله عنه أن يمحو كلمة : ( رسول الله ) ، فرفض عليٌّ ذلك ، فطلب منه أن يريه مكانها ، فمحاها بيده ، ثم أمره بكتابة لفظة ( بن عبدالله ) ، وهذا هو مقتضى الروايات .




ثم إننا نقول : إن رواية البخاري التي ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم : (فأرنيه ) ، فيها إشارة واضحة إلى احتياج النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي كي يرشده إلى مكان الكلمة ، مما يدل بوضوح على عدم معرفته للقراءة أصلا ، ويضاف إلى ذلك أن المشرك الذي تفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم لو رآه يكتب شيئا بيده في تلك الحادثة لنقلها إلى كفّار قريش ، فقد كانوا يبحثون عن أي شيء يجعلونه مستمسكاً لهم في ارتيابهم ، فلما لم يُنقل لنا ذلك دلّ على عدم وقوعه أصلاً .




ولكن دعنا نفترض أن المباشر للكتابة هو النبي صلى الله عليه وسلم ، فهل يخرجه ذلك عن أميته ؟ يجيب الإمام الذهبي فيقول : " ما المانع من تعلم النبي صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه واسم أبيه مع فرط ذكائه وقوة فهمه ودوام مجالسته لمن يكتب بين يديه الوحي والكتب إلى ملوك الطوائف " ، فمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم لطريقة كتابة اسمه واسم أبيه لا يخرجه عن كونه أمّياً كما هو ظاهر ، فإن غير الأميّ يحسن كل كتابة وكل قراءة ، لا بعضاً منها .




وأما شبهتهم الثانية : فهي ما رواه الإمام البيهقي عن عون بن عبد الله عن أبيه قال : " ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب – وفي رواية : حتى قرأ وكتب – ".




والجواب عن هذه الشبهة أن الحديث ضعيف ، فقد قال الإمام البيهقي نفسه : " ..فهذا حديث منقطع ، وفي رواته جماعة من الضعفاء والمجهولين " . وقال الإمام الطبراني : " هذا حديث منكر ، وقال أبو عقيل : ضعيف " . والحديث ذكره الإمام السيوطي في الموضوعات .




ومن استدلالاتهم على نفي أمّيّته ما ذكروه أن العباس بن عبدالمطلب قال عندما سأله اليهودي : هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم بيده؟ فقال : فأردت أن أقول نعم ، فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويردّ علي، فقلت: لا يكتب ، فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود " .




وما ذكروه يتضمّن تدليساً فاحشاً ، وكذباً واضحاً ، يتّضح عند العودة إلى الرواية في مصادرها ، فقد روى هذه القصة البيهقي في " دلائل النبوة "، وذكرها ابن كثير في " البداية والنهاية " بسندها ، وموضع التدليس عند قوله : " فقال الحبر اليهودي : هل كتب بيده ؟ ، قال العباس : فظننت أنه خير له أن يكتب بيده ، فأردت أن أقولها ، ثم ذكرت مكان أبي سفيان أنه مكذبي ورادٌّ عليّ ، فقلت : لا يكتب . فوثب الحبر وترك رداءه وقال : ذبحت يهود وقتلت يهود " ، وبهذا يظهر أن أميّة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أمراً مشتهراً يعرفها القاصي والداني من قومه .




ثم ننتقل إلى دليل آخر من أدلتهم ، وهو الحديث الذي رواه ابن ماجة بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رأيت ليلة أسرى بي على باب الجنة مكتوباً : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر ، فقلت : يا جبريل ، ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ . قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة ) ، قالوا : والقدرة على القراءة فرع الكتابة .




لكن ما استدلوا به لا يصلح للاحتجاج ، لأن الحديث ضعيف جدا ، وآفته خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك ، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب : " ضعيف مع كونه كان فقيها ، وقد اتهمه يحي بن معين " . وسئل عنه أبو زرعة فقال : " يروي أحاديث مناكير " .




ولئن صح الحديث ، فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر القراءة بنفسه ، بل واضحٌ من سياق الحديث أن جبريل عليه السلام كان بصحبته في الجنة ، ثم إن حادثة الإسراء والمعراج في جملتها أمرٌ خارق للعادة ، لا يُقاس الواقع به ، فكيف يتعجّب مع هذا الأمر الخارق العظيم أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم بضع كلمات مكتوبة على باب الجنّة ؟ ، وإذا كانت القراءة تلك حاصلة منه في العالم العلويّ ، وفي مشهد من مشاهد الآخرة – حيث رأى الجنة - ، فمن الذي قال إنه صلى الله عليه وسلم سيكون يوم القيامة على أميّته !! .




ومن المرويّات التي استدل بها المستشرقون ، ما جاء في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الدجال ممسوح العين ، مكتوب بين عينيه : كافر ، ثم تهجاها : ك ف ر ) .




والجواب عن ذلك أن نقول : إن تهجّي الكلمات يشمل نوعين : تهجي الكلمات المسموعة ، وهذا أمر يشترك فيه المتعلم والأميِّ على السواء ، و تهجّي الكلمات المكتوبة ، وهذا لا يقدر عليه إلا من كان يحسن القراءة ، وإذا كان الأمر كذلك فليس في الحديث دلالة على معرفة النبي صلى الله عليه وسلم للقراءة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نطق الكلمة ثم تهجّاها .




( الحلقة الثانية )


( شبهة ...انشغاله بالنساء )



اختار الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من بين خلقه لحمل آخر الرسالات ، وقد حباه الله من الصفات الحميدة ، والأخلاق الجليلة ما لم يحظ به أحد غيره ، إلا أنه مع ذلك لم يسلم من كيد الكائدين ، ومن كلام المغرضين ، ومن شبهات الحاقدين.


ومن الشبهات التي أثيرت حول شخصه الكريم ، أنه ميّال للنساء ، منشغل بهن ، وقد أكثر منهنّ حتى بلغن إحدى عشرة زوجة !!!ولا شك أن من يقول هذا لا حظ له من معرفة سيرته صلى الله عليه وسلم ، وليس له أدنى علم بهديه عليه الصلاة والسلام .


ونلخِّص الإجابة على هذه الشبهة الحاقدة بالنقاط الآتية :



1- أن زواجه صلى الله عليه وسلم ، لم يكن بهدف التمتع وإشباع الشهوة ، وإن كان ذلك أمراً فطريا ًسائغاً لا يعاب الإنسان به ، وقد كان ذلك سائداً بين العرب آنذاك ، ومع ذلك فإن هدف الرسول صلى الله عليه وسلم من زواجه كان أسمى من ذلك وأعلى ، إذ أراد بتعدد الزوجات الدعوة إلى الله ، ومراعاة مصالح عظيمة اقتضتها الدعوة ؛ كالترابط الأسري الذي فيه اتساع رقعة النسب معه صلى الله عليه وسلم لتنتشر الدعوة ، ومن المصالح تأليف القلوب ، وكفالة اليتامى ، والإحسان إلى الأرامل ، وتعليم النساء أمور دينهن ، ونحو ذلك مما فيه مصلحة عامة ، كما أن من الأسباب أي أسباب التعدد الرغبة في نقل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كافة داخل بيته وخارجه مما لا يستطيع رجل واحد ولا امرأة واحدة نقله أو حصره .

2- أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً إلا زوجة واحدة ، وهي عائشة الصديقة رضي الله عنها ، وغالب من يهدف التمتع يحرص على الأبكار .

3- أنه لم يعدد إلا بعد موت خديجة رضي الله عنها ، وقد بلغ الخمسين من عمره ، ومن أراد التمتع والشهوة فإنه يتزوج قبل هذه السن في الغالب .

4- أنّ المهام العظيمة والأعمال الجليلة التي كان يقوم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة ، كانت تشغل وقته وجهده ، ولم ينشغل بالنساء والملذات عن تلك المهام ، فقد كان داعياً ، ومجاهداً ، ومعلماً ، وحاكماً ، وقاضياً ، وعابداً يقوم حتى تتفطر قدماه ، ويكثر من الصيام ، ولم يقصّر في جانب على حساب الآخر .

5- أن التعدد في الزواج ليس مما يعاب به الأنبياء ، وقد عدد الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فإبراهيم عليه السلام تزوج سارة ثم هاجر ، و يعقوب عليه السلام تزوج بأربع نسوة ، و داود عليه السلام تزوج نساء كُثر .

6-أن فساد مثل هذه الشبه قد تنبه له بعض العقلاء من الأعداء أنفسهم ، أمثال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل الذي قال : " وما كان محمد أخا الشهوات ، برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً ...ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوانياً لا هم له إلا قضاء مآربه من الملذات ".
وهكذا - أختي الحبيبة - نجد أن هذه الشبهة لا ينهض بها دليل من عقل ولا واقع ، وهي ساقطة الاعتبار من كل وجه، ولا تأثير لها على شخصية كملت من جوانبها كافة ، ونُقلت أوصافها الدقيقة ، فمهما حاول الحاسدون فلن ينالوا منها بإذن الله ، والله تعالى أعلم.


الشبهة الثالثة
الإغارة على قوافل قريش


لقد حاول المستشرقون ومن تبعهم إيهام الناس أن النبي صلى الله عليه وسلّم لجأ إلى السطو على قوافل قريش التي كانت محمّلة بأثمن البضائع ، رغبةً منه في التوسّع المالي ، وتكديس الثروات ، متناسين ما وُصف به النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون معه من زهدٍ وتقشّفٍ طيلة حياتهم ، ويقول أحدهم واصفاً جيوش المؤمنين في العهد المدني قبل غزوة بدر : " ..وبدأت هذه السرايا باعتراض قوافل قريش والسطو عليها ، وأخذ ما أمكن من الغنائم منها " .


وللإجابة على هذه الشبهة ، ينبغي لنا أن نعلم تداعيات الأحداث وسرد تسلسلها التاريخي كي نفهم المناخ الذي ألجأ المسلمين إلى التعرّض لتلك القوافل ، ولأجل أن يتّضح للقاريء الكريم كيف تُقلب الحقائق وتُسمّى بغير اسمها .


إن الوضع الذي عاش فيه المسلمون في العهد المكيّ كان شديداً ، فقد ضُيّق عليهم من قبل صناديد قريش وكبرائها ، فقاموا بتعذيبهم والتنكيل بهم ، ومارسوا معهم كل أساليب الاضطهاد الديني والتعذيب الوحشيّ ، حتى فقدوا بعضهم ، وأكلوا أوراق الشجر ، وعاشوا حياةً مليئةً بالمصاعب والآلام ، فما كان للمسلمين بدّ أن يتخلّوا عن أوطانهم وديارهم ، فراراً بدينهم ، وطلباً لمكان يعبدون فيه ربّهم ، دون أن يتعرّض لهم أحد، وصدق الله إذ يقول في كتابه : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } ( الحج : 40 ) .


ومما يؤكد ذلك قول عائشة رضي الله عنها : " كان المؤمنون يفرّ أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، مخافة أن ُيفتن عليه" رواه البخاري ، وعنها أيضا : " ..وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج – أي : لبيعة العقبة - ، فضيّقوا على أصحابه وتعبّثوا بهم ، ونالوا منهم مالم يكونوا ينالون من الشتم والأذى ؛ فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستأذنوه في الهجرة " رواه ابن سعد في الطبقات .


وعلى الرغم من ذلك ، لم تقف قريش مكتوفة الأيدي ، بل قامت بالاستيلاء على جميع ممتلكات المهاجرين، واستباحت ديارهم وأموالهم ، وليس أدل على ذلك من تجريدهم لأموال صهيب الرومي رضي الله عنه.


حتى إذا تم استقرار المسلمين في المدينة واستتبّ لهم الأمر ، أذن الله تعالى لهم بالقتال لمن ظلمهم وبغى عليهم ، قال الله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } ( الحج : 39 ) ، فأُعلنت الحرب على قُريش ورجالاتها منذ تلك اللحظة ، ومعلوم أن الحروب تأخذ أشكالا عديدة ، يأتي في مقدّمها ما يُسمى بلغة عصرنا : " الحرب الاقتصادية " ، فلهذا كان المسلمون يتعرّضون لقوافل قريش ، ويقطعون طريقها .


يقول اللواء محمد جمال الدين محفوظ : " والضغط الاقتصادي من الأساليب التي لها آثار استراتيجية في الصراع ، وبدراسة الأعمال العسكرية التي تمت خلال العامين الأول والثاني للهجرة إلى ما قبل غزوة بدر ، يتّضح أن هدفها الغالب هو التعرّض لقافلة قريش على طريق تجارتها من مكة إلى الشام ، مما شكّل ضغطاً اقتصادياً على قريش التي أدركت أن هذا الطريق أصبح محفوفاً بالمخاطر ، وخاصةً بعد أن عقد الرسول صلّى الله عليه وسلّم الاتفاقات والمعاهدات مع القبائل العربية ، وأبلغ تعبير عن آثار هذا الضغط الاقتصادي قول صفوان بن أميّة لقومه : إن محمدا وأصحابه قد عوّروا علينا متجرنا ، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل ، وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه ، فما ندري أين نسلك ؟ ، وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا ، لم يكن لها من بقاء ، وإنما حياتنا بمكة على تجارة الشام في الصيف ، وإلى الحبشة في الشتاء " أ.هـ.


ويؤكّد ما سبق ، ما رواه الإمام الطبراني في معجمه أن أبا جهل قال في معرض كلامه عن سريّة سيف البحر : " يا معشر قريش ، إن محمداً قد نزل يثرب وأرسل طلائعه ، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا ، فاحذروا أن تمرّوا طريقه وأن تقاربوه ، فإنه كالأسد الضاري ، إنه حنق عليكم " ، وهكذا أعادت قريش النظر في صراعها مع المسلمين بعد تلك الضربات الموجعة .


ولم تكن تلك الضربات هي المعتمد الإقتصادي لدى المسلمين ، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إنشاء سوق منافسة لسوق اليهود في المدينة ، وسرعان ما ازدهرت تلك الحركة التجارية لتصبح مورداً قوياً لتلك الدولة الناشئة .


ثم لو كان المقصود من هذه الغارات الطمع في التوسّع المادي المجرد من القيم الأخلاقية ، لما روى لنا التاريخ في صدره الأول أمثلةً راقيةً لذلك الجيل ، تبيّن لنا ما وصلوا إليه من زهدٍ في الدنيا ، وتقلّلٍ من متاعها ، ولما وجدت في تعاليم النبي صلى الله عليه وسلّم ذمّا لها أو تحذيرا من الافتتان ببهرجها وزخارفها.


ولما تضافرت النصوص النبوية نهياً عن كل مظاهر الإسراف والترف ، أو بياناً لعواقب المتكبّرين والمختالين ، أو ترغيباً بالجود والعطاء ، والكرم والسخاء ، والإيثار بكل صوره .


ثم إن المسلمين قد تحقّق لهم توسعٌ أكبر في دولتهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وصار لها ثقل اقتصادي ضخم ، وموارد مالية عديدة ، فما زادهم إلا زهداً في الدنيا وما فيها ، وغدا الجميع كأسرةٍ واحدة، يحنو بعضهم على بعض ، ويغيث الأخ أخاه ، ويتعاهده في حضرته وغيبته .


ولم تقتصر هذه المظاهر الإنسانية على أبناء ملتهم فحسب ، بل امتدّت لتشمل الآخرين من معتنقي الملل الأخرى ، وشواهد التاريخ أعظم دليلٍ على ذلك .


فخلاصة الأمر : أن التعرض لقوافل قريشٍ كان نوعاً من الحرب الاقتصادية عليها ، وكسراً لشوكتها ، وما ذلك إلا رغبةً في رد حقوق المسلمين المسلوبة وأموالهم المنهوبة ، وبهذا يتقرّر لنا أن هذه الشبهة المثارة ليس لها رصيد من الحقيقة ، ولا تجرّد من قائليها ، بل هي انحرافٌ ظاهرٌ في تقييم الأمور وتوصيف الأحداث.



الشبهة الرابعة


الشيطان يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم






الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم يستندون فى هذه المقولة إلى أكذوبة كانت قد تناقلتها بعض كتب التفسير من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى الصلاة بالناس سورة " النجم: فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى* ومناة الثالثة الأخرى) ؛ تقول الأكذوبة:

إنه صلى الله عليه وسلم قال: ـ حسب زعمهم ـ تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
ثم استمر صلى الله عليه وسلم فى القراءة ثم سجد وسجد كل من كانوا خلفه من المسلمين وأضافت الروايات أنه سجد معهم من كان وراءهم من المشركين !!
وذاعت الأكذوبة التى عرفت بقصة " الغرانيق " وقال ـ من تكون أذاعتها فى صالحهم ـ: إن محمداً أثنى على آلهتنا وتراجع عما كان يوجهه إليها من السباب. وإن مشركى مكة سيصالحونه وسيدفعون عن المؤمنين به ما كانوا يوقعونه بهم من العذاب.
وانتشرت هذه المقولة حتى ذكرها عدد من المفسرين حيث ذكروا أن المشركين سجدوا كما سجد محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ما ذكرت آلهتنا بخير قبل اليوم ولكن هذا الكلام باطل لا أصل له.
وننقل هنا عن الإمام ابن كثير فى تفسيره الآيات التى اعتبرها المرتكز الذى استند إليه الظالمون للإسلام ورسوله وهى فى سورة الحج حيث تقول:
(وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) وبعد ذكره للآيتين السابقتين يقول: " ذكر كثير من المفسرين هنا قصة " الغرانيق وما كان من رجوع كثير ممن هاجروا إلى الحبشة " ظنًّا منهم أن مشركى مكة قد أسلموا.
ثم أضاف ابن كثير يقول: ولكنها - أى قصة " الغرانيق " - من طرق كثيرة مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، ثم قال ابن كثير: عن ابن أبى حاتم بسنده إلى سعيد بن جبير قال: " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة " سورة النجم " فلما بلغ هذا الموضع. (أفرأيتم اللات والعزّى * ومناة الثالثة الأخرى (. قال بن جبير: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى.
فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم.. فأنزل الله هذه الآية: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عزيز حكيم(ليقرر العصمة والصون لكلامه سبحانه من وسوسة الشيطان.
وربما قيل هنا: إذا كان الله تعالى ينسخ ما يلقى الشيطان ويحكم آياته فلماذا لم يمنع الشيطان أصلاً من إلقاء ما يلقيه من الوساوس فى أمنيات الأنبياء والجواب عنه قد جاء فى الآيتين اللتين بعد هذه الآية مباشرة:
أولاً: ليجعل ما يلقيه الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض من المنافقين والقاسية قلوبهم من الكفار وهو ما جاء فى الآية الأولى منهماليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض) .
ثانياً: لميز المؤمنين من الكفار والمنافقين فيزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ؛ وهو ما جاء فى الآية الثانيةوليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادى الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) .
هذا: وقد أبطل العلماء قديمًا وحديثًا قصة الغرانيق. ومن القدماء الإمام الفخر الرازى الذى قال ما ملخصه :
" قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق وقد استدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول ؛ أما القرآن فمن وجوه: منها قوله تعالىولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين) .
وقوله سبحانهوما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى) وقوله سبحانه حكاية عن رسوله صلى الله عليه وسلمقل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ ) .

وأما بطلانها بالسنة فيقول الإمام البيهقى:

روى الإمام البخارى فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ سورة " النجم " فسجد وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيها حديث " الغرانيق " وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة ليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
فأما بطلان قصة " الغرانيق " بالمعقول فمن وجوه منها:
أ ـ أن من جوّز تعظيم الرسول للأصنام فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه صلى الله عليه وسلم كان لنفى الأصنام وتحريم عبادتها ؛ فكيف يجوز عقلاً أن يثنى عليها ؟

ب ـ ومنها: أننا لو جوّزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعـه صلى الله عليه وسلم فإنه لا فرق - فى منطق العقل - بين النقصان فى نقل وحى الله وبين الزيادة فيه.



الشبهة الخامسة

محمد صلى الله عليه وسلم مذنب كما في القرآن







الرد على الشبهة:


أخذوها من فهمهم الخاطئ في مفتتح سورة "الفتح": (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا). فقالوا: كتاب محمد يعترف عليه ويصفه بأنه مذنب!!


وسيرة محمد سيد الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم كتاب كبير مفتوح استوفي فيه كُتَّاب سيرته كل شيء في حياته. في صحوه ونومه وفي حربه وسلمه، وفي عبادته وصلواته، في حياته مع الناس بل وفي حياته بين أهله في بيته.


ليس هذا فحسب, بل إن صحابته حين كانوا يروون عنه حديثًا أو يذكرون له عملاً يصفونه صلى الله عليه وسلم وصفًا بالغ الدقة وبالغ التحديد لكافة التفاصيل حتى ليقول أحدهم: قال صلى الله عليه وسلم كذا وكان متكئاً فجلس، أو قال كذا وقد امتلأ وجهه بالسرور وهذا ما يمكن وصفه بلغة عصرنا: إنه تسجيل دقيق لحياته صلى الله عليه وسلم بالصوت والصورة..

ثم جاء القرآن الكريم فسجّل له شمائله الكريمة فقال عنه: إنه الرحمة المهداة إلى عباد الله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). ووصفه بأنه الرؤوف الرحيم بمن أرسل إليهم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). ثم لخص القرآن مجمل شمائله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وإنك لعلى خلق عظيم).

أكثر من هذا أن تكفل القرآن بإذاعة حتى ما هو من خلجات الرسول وحديث نفسه الذي بينه وبين الله مما لا يطلع الناس عليه على نحو ما جاء في سورة الأحزاب في أمر الزواج بزينب بنت جحش, والذي كان القصد التشريعي فيه إبطال عادة التبني من قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذ قضوا منهن وطرًا و كان أمر الله مفعولاً).


أقول: مع أن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم هي كتاب مفتوح لم يخفِ التاريخ منه شيئاً, بل وتدخل القرآن ليكشف حتى ما يحدث به نفسه صلى الله عليه وسلم مما لا يطلع عليه الناس، ولم يذكر له صلى الله عليه وسلم ذلةً ولا ذنبًا في قول أو عمل.


أفبعد هذا لا يتورع ظالموه من أن يقولوا: إنه "مذنب"؟!!!


ولو كان هؤلاء الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم على شيء من سلامة النظر وصفاء القلوب لانتبهوا إلى بقية سورة الفتح، والتي كانت كلها تثبيتاً للمؤمنين وللرسول وتبشيرًا لهم بالتأييد والنصر.. لو كان محمد صلى الله عليه وسلم - كما ادعيتم – من المذنبين والعاصين لكان من المستحيل أن يجعله الله تعالى ممن يؤيدهم بنوره ويتم عليهم نعمته ويهديهم صراطًا مستقيماً؛ لأن النصر يكون للصالحين لا للمذنبين.


ونقف أمام الذنب في منطوق الآية: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر), فالذنب هنا ليس مما تعارف عليه الناس من الخطأ والآثام؛ لأن سنة الله تبارك وتعالى هي عصمة جميع أنبيائه وفي قمتهم خاتمهم صلى الله عليه وسلم. وهذا مما يعرفه ويقرّه ويقرره أتباع كل الرسالات إلا قتلة الأنبياء ومحرّفي الكلم عن مواضعه من اليهود الذين خاضوا في رسل الله وأنبيائه بما هو معروف.


فالذنب هو ما يمكن اعتباره ذنباً على مستوى مقام نبوته صلى الله عليه وسلم ذنبًا مما تقدره الحكمة الإلهية, لا ما تحدده أعراف الناس.


ومع هذا كله فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كانت محل تقدير قومه وإكبارهم له لما اشتهر به صلى الله عليه وسلم من العفة والطهر والتميز عن جميع أترابه من الشباب, حتى كان معروفًا بينهم بالصادق الأمين.


أفبعد هذا لا يستحي الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم والحاقدون عليه من أهل الكتاب أن يقولوا: إنه مذنب؟!! (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا)


الشبهة السادسة

تعلّم محمد صلى الله عليه وسلم من غيره


الرد على الشبهة:

وهى من أسوأ المفتريات على محمد صلى الله عليه وسلم الذى قال ربه عز وجل عنه:

( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى )

لكن الحقد حين يتمكن من قلوب الحاقدين يدفعهم إلى المنكر من القول ومن الزور ، حتى إنهم ليتجرأون على قولٍ لا يقبله عقل عاقل ، ولا يجرؤ على مثله إلا المفترون.
فى هذه المقولة زعموا أنه حين كان ينزل عليه الوحى بالآيات التى أثبت العلم الحديث المعاصر أنها من أبرز آيات الإعجاز العلمى فى القرآن فيما تتصل بمراحل خلق الإنسان من سلالة من طين ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة ثم يكون إنشاؤه خلقًا آخر..
زعموا أن كاتب وحيه قال مادحًا مَنْ هذا خلقهتبارك الله أحسن الخالقين ) .
ثم أفرطوا فى زعمهم فقالوا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قال له: اكتبها فهكذا نزلت علىّ.. ؟! وهنا لابد من وقفة:
فأولاً: مما هو ثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحى يأخذ العرق يتصبب من جسده ويكون فى غيبة عمن حوله.. فإذا انقضى الوحى أخذ فى ذكر وتلاوة ما نزل عليه من القرآن ، وهذا ما تقرره كل كتب السيرة.
ثانياً: معنى ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم لا يأخذ فى الإملاء على كاتب وحيه إلا بعد اكتمال نزول الوحى واكتمال نزول الآيات المتعلقة بمراحل خلق الإنسان فى سورة " المؤمنون ".
ثالثًا: وبهذا يتضح كذب المقولة أن كاتب وحيه صلى الله عليه وسلم هو الذى أملاها عليه وأنه أمر بإثباتها.
رابعًا: أن لفظة " تبارك الله " تكررت فى القرآن الكريم تسع مرات ، تلتقى جميعها فى مواضع يكون الحديث فيها عن قدرة الخالق فيما خلق من مثل قوله تعالى:
(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) .
(تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) . (تبارك الذى جعل فى السماء بروجا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا) .
(تبارك الذى له ملك السموات والأرض وما بينهما ) .
(تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير ) .
فلماذا تعلم محمد صلى الله عليه وسلم من كاتب وحيه آية " المؤمنون " دون غيرها مما جاء فى بقية السور ؟!!
الشبهة السابعة


تحويل القبلة



ظل المسلمون طيلة العهد المكّي يتوجّهون في صلاتهم إلى بيت المقدس ؛ امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى ، الذي أمر باستقبالها ، وجعلها قبلةً للصلاة .



وفي تلك الأثناء كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمتثل الحكم الإلهي وفي فؤاده أمنية كبيرة طالما ظلّت تراوده ، وتتمثّل في التوجّه إلى الكعبة بدلاً من بيت المقدس ، ذلك لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام وهو أولى الناس به ، وأوّل بيتٍ وضع للناس للناس ، ولحرصه على أن تتميّز الأمة الإسلامية في عبادتها عن غيرها من الأمم التي حرّفت وبدّلت ويدلّ على ذلك قول البراء بن عازب رضي الله عنه : " وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة " رواه البخاري .



وما كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو العبد المأمور أن يخالف أمر ربّه ، بيد أنه استطاع الجمع بين رغبته في التوجّه إلى الكعبة وعدم مخالفة الأمر بالتوجّه إلى بيت المقدس بأن يصلّي أمام الكعبة ولكن متّجها إلى الشمال ، كما يدلّ عليه الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه حيث قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه " رواه أحمد .



ثم أذن الله بالهجرة ، ووصل المسلمون إلى المدينة ، وبُنيت المساجد ، وشرع الأذان ، والنبي - صلى الله عليه وسلم -لم ينس حبّه الأوّل للكعبة ، ويحزنه ألا يستطيع استقبال القبلتين جميعاً كما كان يفعل في مكّة ، وكان شأنه بين أن يخفض رأسه خضوعاً لأمر ربّه وأن يرفعه أملاً في إجابة دعوته ، ويصف القرآن الكريم حال النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } ( البقرة : 144 ) .



وفي منتصف شعبان ، وبعد مرور ستة عشر شهراً من استقبال بيت المقدس ، نزل جبريل عليه السلام بالوحي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ليزفّ البشرى بالتوجّه إلى جهة الكعبة ، قال تعالى : { فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ( البقرة : 144 ) .



ويحدّث الصحابي الجليل البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما قدم المدينة نزل على أخواله من الأنصار ، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت ، وأنه صلّى - أول صلاة صلاها - صلاة العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَل مكة فداروا كما هم قِبَل البيت ، رواه البخاري .



وعلى الرغم من انتشار الخبر وذيوعه ، إلا أنّه تأخّر عن أهل قباء حتى صلاة الصبح ، فجاء إليهم رجل فقال : " أنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا أن يستقبل الكعبة فاستقبِلُوها "، فتوجهوا إلى الكعبة ، رواه البخاري .



ولأنّ نسخ الأحكام لم يكن معهوداّ عند المسلمين من قبل ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : "... فأول ما نسخ من القرآن القبلة " ، رواه النسائي ، لذلك كرّر الله الأمر بها تأكيداً وتقريراً ثلاث مرّات : الأولى في قوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ( البقرة : 144 ) ، والثانية في قوله تعالى : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون } ( البقرة : 149 ) ، والثالثة في قوله تعالى : { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم } ( البقرة : 150 ) .



وقد تباينت ردود أفعل الناس تجاه هذا الحادث غير المألوف ، أما المؤمنين فلم يترددوا لحظة عن التحوّل طاعةً لله ورسوله ، فامتدحهم الله تعالى ، وبيّن لهم أن هذه الحادثة إنما كانت اختبارا للناس وامتحاناً لهم كما قال تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } ( البقرة : 143 ) .



وأظهر بعض المسلمين القلق على من لم يكتب الله له شرف الصلاة إلى الكعبة ممن مات قبلهم ، وخافوا من حبوط أعمالهم ، وقالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ، ؟ فأنزل الله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } ( البقرة : 143 ) - يعني صلاتكم - رواه الترمذي وأصله في الصحيح.



وأما اليهود فقد عابوا على المسلمين رجوعهم عن بيت المقدس إلى الكعبة ، وقابلوا ذلك بالسخرية والاستهجان ، واستغلّوا ذلك الحدث بدهاءٍ ليمرّروا من خلاله الشكوك والتساؤلات طعناً في الشريعة وتعميةً لحقائقها ، وقد حذّر الله سبحانه وتعالى المسلمين وأخبرهم بموقف اليهود قبل وقوعه فقال : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ( البقرة : 142 ) .



وهكذا تحقّق للمسلمين فضل التوجّه إلى القبلتين جميعاً ، واستطاعوا أن يجتازوا هذا الامتحان الإلهي ، وبذلك نالوا شهادة الله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } ( البقرة : 143 ) ، وكان ذلك التحوّل إيذاناً بنهاية الشرك وسقوط رايته ، وأصبحت الكعبة قبلةً للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
الشبهة الثامنة



شبهة حول اتهامه صلى الله عليه وسلم بمحاولة الانتحار



لا تزال سهام أعداء الإسلام تتوالى للطعن في هذا الدين ، مستخدمين في ذلك طرقاً شتّى وأساليب مختلفة ، فتارة يوجهون سهامهم للتشكيك في القرآن الكريم ، وتارة يحاولون النيل من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، قاصدين بذلك الانتقاص من حقه ، والإقلال من قدره .

واليوم نقف مع شبهة جديدة أثارها القوم في حقه صلى الله عليه وسلم ، وحاصلها اتهامه بمحاولة الانتحار في العهد المكي ، في فترة انقطاع الوحي وفتوره بعد اللقاء الأول بينه وبين جبريل عليه السلام .

ورغبةً في دحض هذه الشبهة وبيان تهافتها ، بنبغي لنا أن نُلقي نظرةً شموليةً على تلك الروايات التي استندوا إليها ، فقد روى ابن سعد في الطبقات قال : " أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما نزل عليه الوحي بحراء ، مكث أياما لا يرى جبريل عليه السلام ، فحزن حزناً شديداً ، حتى كان يغدو إلى ثبير مرة ، وإلى حراء مرةً ؛ يريد أن يلقي نفسه منه ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامداً لبعض تلك الجبال ، إلى أن سمع صوتاً من السماء ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقاً للصوت ، ثم رفع رأسه: فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعاً عليه ، يقول : " يا محمد ، أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل " .

وروى الإمام الطبري في تاريخه قال : " حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير ، قال : سمعت عبد الله بن الزبير ، وهو يقول ل عبيد بن عمير بن قتادة الليثي : حدِّثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة ؟ فذكر الحديث إلى قوله : ( حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها ، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج ، فيه كتاب ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما اقرأ ؟ فغتني ، حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ماذا أقرأ ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلى بمثل ما صنع بي ، قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى قوله { علم الإنسان ما لم يعلم } ( العلق : 1-5 ) ، قال : فقرأته ، قال : ثم انتهى ، ثم انصرف عني وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتابا .


قال : ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلى من شاعر أو مجنون ، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ، قال : قلت إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون ، لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدنّ إلى حالقٍ من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه أقتلها فلأستريح . قال : فخرجت أريد ذلك ، حتى إذا كنت في وسط من الجبل ، سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل ..) .

وقد روى البخاري رحمه الله هذه القصة أيضا مدرجةً في حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر ، قال : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر ، قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " ..ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وفتر الوحي فترةً حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزناً غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه ، تبدّى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل ، تبدّى له جبريل فقال له مثل ذلك ) .

وخلاصة هذه الشبهة عندهم: أن هذه الروايات المذكورة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حاول مرارا أن يلقي بنفسه من رؤوس الجبال ، فهي إذاً محاولة منه للانتحار ، وهذا لا يليق بشخصِ من هو في مقام النبوة .

والرد على هذه الشبهة يستدعي منا أن ننظر أولا إلى صحة تلك الروايات المنقولة ، وبيان ذلك فيما يلي :

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، فقد جاء من طريق محمد بن عمر الواقدي ، ومعلوم عند علماء الجرح والتعديل أن الواقدي متروك الحديث ، فقد قال الإمام البخاري عنه في كتاب الضعفاء : " متروك الحديث " ، وكذلك حكم عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب وغيرهم .

ومن المعلوم أن وجود راوٍ متروك في حديث ، يجعله مردوداً غير قابل للتصحيح بالشواهد الأخرى .

أما رواية الإمام الطبري فهي مردودة سنداً ومتناً ؛ فإن المتن فيه نكارة ظاهرة ، حيث جعل الرؤيا الأولى لجبريل عليه السلام رؤيا منامية ، وهذا مخالف لبقية النصوص التي تُثبت أنها رؤية حقيقية ، ثم كان من جواب النبي صلى الله عليه وسلم : ( ماذا أقرأ ؟ ) ، وهذا لم يحصل ؛ فإن الثابت في صحيح البخاري وغيره أنه كان يقول : ( ما أنا بقاريء ) ، دعك من إغفال هذه الرواية لذكر ذهاب النبي صلى الله عليه وسلّم إلى خديجة و ورقة بن نوفل رضي الله عنهما ، وما ذُكر في الروايات الصحيحة أن الرؤية الثانية ل جبريل عليه السلام كانت بعد فتور الوحي وانقطاعه .

وإذا نظرنا إلى سند هذه الرواية وجدنا فيه عدة علل : الإرسال ؛ فإن عبيد بن عمير ليس صحابيّاً ، إنما هو من كبار التابعين ، كما أنّ في السند راويان متكلم فيهما : سلمة - وهو ابن فضل الأبرش - قال عنه الحافظ ابن حجر : " صدوق كثير الخطأ " ، و ابن حميد الرازي كذّبه جماعة من العلماء كأبي زرعة وغيره .

ونأتي إلى رواية الإمام الزهري في حديث عائشة رضي الله عنها ، فقد وردت القصة على كيفيات مختلفة في البخاري ومسند الإمام أحمد ومصنف الإمام عبدالرزاق وغيرهم ، لكن الناظر إلى رواية الإمام الزهري يجد أنها باطلة ، ووجه ذلك أن معظم روايات هذا الحديث لم تذكر ذلك الحدث ، وقد روى الإمام البخاري حديث نزول الوحي أكثر من مرة في صحيحه دون أن يشير إلى هذه القصة .

أما الروايات التي ذكرت هذه الحادثة ، فقد وردت مدرجةً في الحديث ، قال الحافظ ابن حجر ما نصه : " ثم إن القائل ( فيما بلغنا ) هو الزهري ، ومعنى الكلام : أن في جملة ما وَصَلَ إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة ، وهو من بلاغات الزهري وليس موصولا ) أ.هـ ، فحكم هذه الزيادة الإرسال ، ومرسل الإمام الزهري ضعيف عند أهل الحديث ، يقول الإمام يحيى بن سعيد القطان : " مرسل الزهري شر من مرسل غيره ؛ لأنه حافظ ، كلما قدر أن يسمّي سمى ، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه " وقال أيضا عنه : " هو بمنزلة الريح " .

على أن هناك مؤشرات تدل على ضعف هذه القصة ، فمن تلك المؤشرات :

ما رواه الإمام البخاري عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : " هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : ( لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب..) الحديث .

فهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أشد ما وقع عليه ، هو ذلك الأذى النفسي الحاصل من تكذيب أهل الطائف له ، حتى إنه بقي مهموماً حزيناً لم يستفق إلا وهو بعيد عن الطائف ، نعم ، إن حزن النبي صلى الله عليه وسلم على فتور الوحي ثابت في نصوص أخرى ، غير أن حزنه ما كان ليبلغ حد الرغبة في إلقاء نفسه من علو ، وإلا لكان هذا أجدر بالذكر من حادثة الطائف المذكورة هنا .

ومما يبيّن ضعف القصة : أن الرواية ذكرت أن سبب حزن النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولته للانتحار ؛ إنما كان خوفاً من انقطاع الوحي والرسالة ، ولو كان هذا صحيحاً ، لكان ظهور جبريل عليه السلام مرة واحدة وقوله : ( إنك لرسول الله حقا ) كافياً في تأكيد أنه مبعوث إلى العباد وتحقّق الاصطفاء له، فلا معنى لأن يدخل الحزن في قلبه وأن يحاول الانتحار مرات ومرات – كما في رواية الزهري –.

فالحادثة المذكورة قد اجتمع فيها الشذوذ في السند ، والنكارة في المتن ، فلا معنى لأن تُتخذ مطعنا في النبي الكريم .

ومع هذا كله ، وبفرض صحة هذه القصة جدلا ، فليس فيها ما يعيب شخص النبي صلى الله عليه وسلم أو يقدح في عصمته ، وبيان ذلك أنه قد همّ – على فرض صحة الرواية- بأن يلقي بنفسه ، والهمّ هنا لم ينتقل إلى مرحلة التنفيذ ، وذلك شبيهٌ بما حكاه الله تعالى عن يوسف عليه السلام في قوله : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة : " ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز ، دلّ على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة " . وهذا كحديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ) متفق عليه .

وأيضاً : فإن تحريم قتل النفس لم يكن نازلاً في شريعته صلى الله عليه وسلّم ، إذ القصّة في بداية أمر الوحي ، فكيف تكون تلك الحادثة - على فرض صحّتها - مدخلاً للطعن فيه صلّى الله عليه وسلّم ؟ .

ثم نقول : إن العصمة متحققة في هذه الحالة ، ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى صرف عنه هذا السوء ، كما صرف عنه قبل مبعثه حصول التعري ، وشرب الخمر ، والجلوس مع فتيان قريش ، وغير ذلك مما هو مبثوث في السيرة .

وهكذا يتبيّن لك أخي القاريء أن هذه الشبهة ليس لها أدنى حظ من النظر ، فلا هي ثابتة سنداً ، ولا هي صالحةٌ للطعن في من شهد له أعداؤه قبل محبيه بسمو أخلاقه ورجاحة عقله وطهارة روحه.

الشبهة التاسعة

شبهة اتهامه صلى الله عليه وسلم بحصول التعرّي منه





لا تزال هجمات أعداء الإسلام تتوالى في تزايد مستمر ، وبشكل يؤكد عمق الخطر المحدق بالأمة المسلمة ، ولئن كانت رحى الحرب على المسلمين قد استنزفت من دمائهم وأعراضهم الشيء الكثير ، فإن الحروب المعاصرة اتخذت طابعا مغايراً يرتكز على تزوير التاريخ الإسلامي ، وتشويه حقائقه ، والطعن في رجالاته .



وكان في مقدّمة القضايا التي جُعلت غرضا لسهام المشكّكين ، نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة ، وفي هذا الصدد ذكروا مروياتٍ وحرّفوا معناها ومقصدها ؛ ليوهموا ضعاف الإيمان أنه قد صدر ما ينافي كمال الأدب والأخلاق من رسول الله صلى الله عليه وسلم .



وما ذكروه من الروايات تتناول حادثتين : إحداهما حصلت قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم بخمس سنين – كما هو عند كثير من أهل السير - ، والأخرى حصلت بعد ذلك بكثير ، وتحديدا في المرحلة المدنية ، وحاصل تلك الروايات عندهم أنها تشير إلى حصول التعرّي منه صلى الله عليه وسلم .



أما ما يتعلّق بالحادثة الأولى ، فقد روى البخاري و مسلم أن جابر بن عبد الله حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينقل مع قريش الحجارة للكعبة وعليه إزاره ، فقال له العباس عمه : يا ابن أخي ، لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة ، قال : فحله فجعله على منكبيه ، فسقط مغشيا عليه ، فما رؤي بعد ذلك عريانا صلى الله عليه وسلم .



وعند الإمام أحمد بسند قوي عن أبي الطفيل رضي الله عنه ، وفيه : " فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة ، فضاقت عليه النمرة ، فذهب يضع النمرة على عاتقه فيُرى عورته من صغر النمرة ، فنودي : يا محمد خمّر عورتك ، فلم ير عريانا بعد ذلك .



وبإسناد صحيح عنه : " فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل إذ انكشفت عورته – وفي رواية : سوءته أو نمرته - ، فنودي : يا محمد غط عورتك " ذكرها الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " جزء السيرة ، والحافظ المقدسي في " الأحاديث المختارة " ، وأشار إليها الحافظ ابن حجر في " الفتح " .



وفي رواية البزار و الطبري بسند حسن لغيره عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : لما بنت قريش الكعبة ، انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة ، فكنت أنا وابن أخي ، فجعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة ، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا ، فبينما هو أمامي إذ صُرع ، فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء قال فقلت لابن أخي : ما شأنك ؟ ، قال : ( نُهيت أن أمشي عريانا ) ، قال : فكتمته حتى أظهر الله نبوته .



وعند تأمّل الروايات سابقة الذكر تظهر لنا الحقائق التالية :

أولا : كان النبي صلى الله عليه وسلم متزراً بنمرة ، والنمرة عند العرب نوع من الكساء يتخذونه إزارا أو رداء ، قال صاحب مختار الصحاح : ((والنَّمِرة أيضا بُردة من صوف تلبسها الأَعراب)) .



ثانيا : كان نقل الحجارة يتم بخروج الرجال مثنى مثنى وليس جماعات ، كما في رواية العباس رضي الله عنه : " لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة " ، وبذلك كان نصيب العباس رضي الله عنه أن يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .



ثالثا : أن العباس رضي الله عنه رأى أن حمل تلك الحجارة دون حائل كان يؤذيهم ، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتقي أذى هذه الحجارة بوضع الإزار على كتفه ، كما في رواية البخاري : " ، فقال له العباس عمه : يا ابن أخي ، لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة " .



رابعا : أن النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس كانا يعيدان ربط أزرهما إذا دَنَيَا ، وذلك ما أشار إليه قول العباس رضي الله عنه : " فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا " .



فإذا قمنا باستحضار ما سبق ، فإننا سنتمكّن من تخيّل المشهد كما هو على حقيقته ، حيث قام النبي صلّى الله عليه وسلّم وعمه لينقلا الحجارة مثنى من جبل " أجياد " ، فلما أثّرت الحجارة على عواتقهم اقترح العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يحلا أزرهما ليضعاها على أكتافهما كي يبعدا عنهما الأذى ، فقام كلٌّ منهما بحل إزاره ليضعه على عاتقة من خلفه ، بحيث ينسدل على جسده من الخلف ويغطّي عورته – كما يدل عليه سياق حديث أبي الطفيل الذي ذكرناه سابقا - ، فإذا دَنَيا من الناس أعادا لبس الأزر ، لكن نمرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أقصر مما هي عند العباس رضي الله عنه ، ومن هنا انكشفت عورته ، فعندها وكّل الله له ملكاً أن يأمره بتغطية عورته ، وكان من جرّاء هذا النداء أن سقط وأُغشي عليه . وما تقدّم يدل على أنه لما وضع نمرته على منكبيه لم تكن عورته حينها باديةً للعيان ، بمعنى أنه لم يسدلها على جانبيه دون أن تُغطّي ظهره وما أسفل منه .



والذي يؤكّد ذلك ، ما جاء في رواية أبي الطفيل رضي الله عنه ، والتي سبق الإشارة إليها : " فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل إذ انكشفت عورته – وفي رواية : سوءته أو نمرته - ، فنودي : يا محمد غط عورتك " ، فقد استعمل الراوي لفظة " إذ " التي تدل على الفجاءة ، ولمزيد من التوضيح نقول : لنتخيّل أن شخصا قد ارتدى قطعة من القماش وجعلها على كتفيه ، فإذا كان مستوياً وبلغت قطعة القماش أنصاف ساقيه ، فإنه إذا حنى ظهره فلاشك أنها سترتفع ، وذلك لاتصالها بالكتفين مباشرة ، وذلك هو عينُ ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعليه فإن انكشاف العورة كان أمراً عارضاً عن غير قصدٍ ، جاءت العصمة الإلهية لتستره عن أنظار عمّه رضي الله عنه – سوى تلك اللحظة الخاطفة بعد سقوطه صلى الله عليه وسلم – .



وإذا اعترض معترض فقال : " وماذا عن عورته من الأمام ؟ " ، فالجواب على ذلك ميسور ، فإن الروايات السابقة تشير إلى أن وضع النبي صلى الله عليه وسلم للنمرة على تلك الكيفية إنما كان في حالة بعده عن أنظار الناس ، وكذلك كان حال عمّه ، فإذا اقتربا بادرا بلبس الأزر ، ولم يكن العباس رضي الله عنه يرى عورة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء ذلك ؛ لأننا إذا استحضرنا أحوال العباس ومكانه من النبي صلى الله عليه وسلم فسنجد أن له ثلاثة أحوال : فإما أن يكون خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندها لن يرى عورته ، وإما أن يكون موازياً له ، وهنا كذلك لن يراه ، أو أن يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولاشك عندها أن الرؤية غير حاصلة ، وقد نصّت رواية البزار و الطبراني سابقة الذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا صُرع كان ماشياً أمام عمّه ، لا معه ولا خلفه .



ونترك الكلام عن هذه الحادثة لننتقل إلى بيان شبهتهم الأخرى ، وهي ما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من تعرّيه عند قدوم زيد بن حارثة رضي الله عنه واستقباله له في بيته ، وعمدتهم في ذلك ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، فأتاه فقرع الباب ، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرياناً يجرّ ثوبه ، والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده ، فاعتنقه وقبّله " وقد جاء في "شرح معاني الآثار " نحواً من هذه الرواية .



بيد أن هذه الرواية ، لا تثبت في ميزان التحقيق ؛ ففي سندها أبي يحيى بن محمد ، قال عنه الذهبي : ضعيف ، وقال عنه الساجي : في حديثه مناكير وأغاليط ، كما أن في الحديث علة أخرى ، وهي إبراهيم بن يحيى بن محمد وهو لين الحديث ، وقال عنه الرازي ضعيف ، والحديث ضعّفه الإمام ابن مفلح في " الآداب الشرعية " ، وأورده العلامة الألباني ضمن " سلسلة الأحاديث الضعيفة " .



ولو افتراضنا صحّة الرواية ، فليس فيها أي مطعن في المصطفى عليه الصلاة والسلام ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلق زيداً عارياً ، بدليل قول عائشة رضي الله عنها : " فقام إليه عرياناً يجرّ ثوبه " ، فلو قابله عارياً لما كان في جرّ ثوبه فائدة ؛ وإنما جرّ ثوبه ليستتر به وهو في طريقه لفتح الباب ، وأما قول عائشة " والله ما رأيته عرياناً قبله ولا بعده " ، فإنه من المعلوم أنها قد رأته كذلك بحكم أنها زوجته ، وإنما المعنى أنها ما رأته عارياً في حالٍ دون كونه مع أهله إلا هذه المرّة ، حيث قام النبي صلى الله عليه وسلم لشدة شوقه للقاء زيد بشدّ إزاره عليه وهو في طريقه إليه ، فأين الطعن في ذلك ؟ .



ولكن لا عجب في ورود الشبهة السابقة ، فإننا نتكلم مع قوم أعماهم الحقد ، واستهواهم التعصّب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.