أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون، تأمّلوا في هذه الآيات، قال الله تعالى: فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5]، وقال جل وعلا: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، وقال سبحانه وبحمده: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج:5]، وقال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40]، وقال جل ذكره: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات:20-23]، وقال: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77]، وقال جل وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:12-14].
إنّ المتأمل في تلك الآيات يلحَظ ندبَ الله تعالى إلى التفكر في ذلك المخلوق وخلقِه، نعم أنت ـ أيها الإنسان ـ من يدعوك الله لأن تتفكّر في نفسك، وكثيرًا في القرآن ما يدعَى العبد إلى النظر والتفكر في مبدأ خلقه ووسطِه وآخره، إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيها من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه فضلاً عن كله، وهو غافل عنها معرِض عن التفكّر فيها، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره قال الله تعالى: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [عبس:17-22]، فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا لنسمع لفظ النطفة والعلَقة والمضغة والتراب، ولا لنتكلم بها فقط، ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمر وراء ذلك كله، هو المقصود بالخطاب وإليه جرى ذلك الحديث.
واليوم أنتم على موعد مع رحلة إيمانية في خلق الإنسان، وإنّ جل ما سأذكره من كلام الإمام المسدّد ابن القيم رحمه الله تعالى.
فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها ربّ الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذلّلة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وكيف قدّر اجتماع ذينك الماءين مع بعدِ كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قرارا مكينا، لا يناله هواء يفسده، ولا برد يجمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه. ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعله عظاما مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيأتها وقدرها وملمسها ولونها، وانظر كيف قسم تلك الأجزاء المتشابهة المتساوية إلى الأعصاب والعظام والعروق والأوتار واليابس واللين وبين ذلك، ثم كيف ربط بعضها ببعض أقوى رباط وأشده وأبعده عن الانحلال، وكيف كساها لحما ركبه عليها وجعله وعاء لها وغشاء وحافظا، وجعلها حاملة له مقيمة له، فاللحم قائم بها، وهي محفوظة به، وكيف صورها فأحسن صورها، وشق لها السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ، ومد اليدين والرجلين وبسطهما، وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه.
ثم انظر الحكمة البالغة في تركيب العظام قواما للبدن وعمادا له، وكيف قدرها ربها وخالقها بتقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير والطويل والقصير والمنحنى والمستدير والدقيق والعريض والمصمَت والمجوّف، وكيف ركّب بعضها في بعض، وكيف اختلفت أشكالها باختلاف منافعها كالأضراس، فإنها لما كانت آلة للطحن جعلت عريضة، ولما كانت الأسنان آلة للقطع جعلت مستدقة محددة، ولما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه للتردد في حاجته لم يجعل عظامه عظما واحدا، بل عظاما متعددة، وجعل بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وكان قدر كل واحد منها وشكله على حسب الحركة المطلوبة منه، وكيف شد أسر تلك المفاصل والأعضاء، وربط بعضها ببعض بأوتار ورباطات أنبتها من أحد طرفي العظم، وألصق أحد طرفي العظم بالطرف الآخر كالرباط له، ثم جعل في أحد طرفي العظم زوائد خارجة عنه وفي الآخر نقرا غائصة فيه موافقة لشكل تلك الزوائد ليدخل فيها وينطبق عليها، فإذا أراد العبد أن يحرك جزءًا من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك عليه.
وتأمل كيفية خلق الرأس وكثرة ما فيه من العظام حتى قيل: إنها خمسة وخمسون عظما مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع، وكيف ركبه سبحانه وتعالى على البدن، وجعله عاليا علو الراكب على مركوبه، ولما كان عاليا على البدن جعل فيه الحواس الخمس وآلات الإدراك كلها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وجعل حاسة البصر في مقدّمه ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن، وركب كل عين من سبع طبقات، لكل طبقة وصف مخصوص ومقدار مخصوص ومنفعة مخصوصة، لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع أو زالت عن هيئتها وموضعها لتعطلت العين عن الإبصار، ثم أركز سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقا عجيبا وهو إنسان العين بقدر العدسة، يبصر به ما بين المشرق والمغرب والأرض والسماء، وجعلها من العين بمنزلة القلب من الأعضاء، فهو ملكها وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خدم له وحجاب وحرّاس، فتبارك الله أحسن الخالقين، فانظر كيف حسن شكل العينين وهيئتهما ومقدارهما، ثم جملهما بالأجفان غطاء لهما وسترا وحفظا وزينة، فهما يتلقيان عن العين الأذى والقذى والغبار، ويكنانهما من البارد المؤذي والحار المؤذي، ثم غرس في أطراف تلك الأجفان الأهداب جمالا وزينة ولمنافع أخر وراء الجمال والزينة، ثم أودعهما ذلك النور الباصر والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والأرض ثم يخرق السماء مجاوزا لرؤية ما فوقها من الكواكب، وقد أودع سبحانه هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث تنطبع فيه صورة السماوات مع اتساع أكنافها وتباعد أقطارها.
وشق له السمع، وخلق الأذن أحسن خلقه وأبلغها في حصول المقصود منها، فجعلها مجوفة كالصدفة لتجمَع الصوتَ فتؤديه إلى الصماخ ـ ما يسمى الآن الطبلة ـ، وليحسّ بدبيب الحيوان ـ يعني الحشرة ـ فيها، فيبادر إلى إخراجه، وجعل فيها غضونا وتجاويف واعوجاجات تمسك الهواء والصوت الداخل فتكسر حدّته، ثم تؤديه إلى الصماخ، ومن حكمة ذلك أن يطول به الطريق على الحيوان، فلا يصل إلى الصماخ حتى يستيقظ أو ينتبه لإمساكه، وفيه أيضا حكم غير ذلك.
ثم اقتضت حكمة الرب الخالق سبحانه أن جعل ماء الأذن مرّا في غاية المرارة فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلا إلى باطن الأذن، بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه، وجعل ماء العينين مِلحا ليحفظها فإنها شحمة قابلة للفساد، فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظا، وجعل ماء الفم عذبا حلوا ليدرك به طعوم الأشياء على ما هي عليه إذ لو كان على غير هذه الصفة لأحالها إلى طبيعته، كما أن من عرض لفمه المرارة استمرّ طعم الأشياء التي ليست بمرة كما قيل:

ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا
ونصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه فأحسن شكله وهيأته ووضعه، وفتح فيه المنخرين، وحجز بينهما بحاجز، وأودع فيهما حاسة الشم التي تدرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة، وليستنشق به الهواء فيوصله إلى القلب، فيتراوح به ويتغذى به، ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ما جعل في الأذن لئلا يمسك الرائحة فيضعفها ويقطع مجراها وجعله سبحانه مصبا تنحدر إليه فضلات الدماغ فتجتمع فيه ثم تخرج منه، واقتضت حكمته أن جعل أعلاه أدقّ من أسفله لأن أسفله إذا كان واسعا اجتمعت فيه تلك الفضلات فخرجت بسهولة.
وشق سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع وأليقه به، وأودع فيه من المنافع وآلات الذوق والكلام وآلات الطحن والقطع ما يبهر العقول عجائبه، فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه، وجعله ترجمانا لملك الأعضاء مبيّنا مؤديا عنه كما جعل الأذن رسولا مؤديا مبلغا إليه، فهي رسوله وبريده الذي يؤدّي إليه الأخبار، واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد، واقتضت حكمته سبحانه أن جعل هذا الرسول مصونا محفوظا مستورا غير بارز مكشوف كالأذن والعين والأنف؛ لأن تلك الأعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه جعلت بارزة ظاهرة، ولما كان اللسان مؤديا منه إلى الخارج جعل له سترا مصونا لعدم الفائدة في إبرازه لأنه لا يأخذ من الخارج إلى القلب، وأيضا فلأنه لما كان أشرف الأعضاء بعد القلب ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره ضرب عليه سرادق تستره وتصونه، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر، وأيضا فإنه من ألطف الأعضاء وألينها وأشدها رطوبة، وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزا صار عرضة للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرف ولغير ذلك من الحكم والفوائد.
معاشر المسلمين، وإتمامًا لما بدأنا به من عظيم خلق الله للإنسان نقول: ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الأسنان التي هنّ جمال له وزينة، وبها قوام العبد وغذاؤه، وجعل بعضها أرحاء للطحن، وبعضها آلة للقطع، فأحكم أصولها وحدّد رؤوسها وبيّض لونها ورتب صفوفها، متساوية الرؤوس، متناسقة الترتيب، كأنها الدر المنظوم بياضا وصفاء وحسنا، وأحاط سبحانه على ذلك حائطين، وأودعهما من المنافع والحكم ما أودعهما وهما الشفتان، فحسن لونهما وشكلهما ووضعهما وهيأتهما، وجعلهما غطاء للفم وطبقا له، وجعلهما إتماما لمخارج حروف الكلام ونهاية له، كما جعل أقصى الحلق بداية له، واللسان وما جاوره وسطا، ولهذا كان أكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة، واقتضت حكمته أن جعل الشفتين لحما صِرفا لا عظم فيه ولا عصب؛ ليتمكن بهما من مصّ الشراب ويسهل عليه فتحهما وطبقهما، وخص الفكّ الأسفل بالتحريك لأن تحريك الأخف أحسن، ولأنه يشتمل على الأعضاء الشريفة فلم يخاطر بها في الحركة.
وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الإشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة والصلابة واللين والطول والقصر، فاختلفت بذلك الأصوات أعظم اختلاف، ولا يكاد يشتبه صوتان إلا نادرا.
وكذلك خلقه سبحانه لليدين اللتين هما آلة العبد وسلاحه ورأس مال معاشه، فطولهما بحيث يصلان إلى ما شاء من بدنه، وعرض الكف ليتمكن به من القبض والبسط، وقسم فيه الأصابع الخمس، وقسم كل إصبع بثلاث أنامل، والإبهام باثنتين، ووضع الأصابع الأربعة في جانب والإبهام في جانب لتدور الإبهام على الجميع، فجاءت على أحسن وضع صلحت به للقبض والبسط ومباشرة الأعمال، ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق أفكارهم وضعا آخر للأصابع سوى ما وضعت عليه لم يجدوا إليه سبيلا، فتبارك من لو شاء لسواها وجعلها طبقا واحدا كالصفيحة فلم يتمكن العبد بذلك من مصالحه وأنواع تصرفاته ودقيق الصنائع والخط، وانظر إلى ما يصيبك عند إصابة أحد أصابعك من تعطّل بعض مصالحك، وركّب الأظفار على رؤوسها زينة لها وعمادا ووقاية، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا ينالها جسم الأصابع.
إخوة الإسلام، هذا قليل من كثير، وهو يدعو للعلم بالله سبحانه وتعالى وبوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وبره ولطفه وعدله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6، 7].