مليئة هى حياة عميد الرواية العربية نجيب محفوظ بالمواقف التى ترسم للقارئ مدى إنسانية وبساطة من ألم بتفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية المصرية التى تعمق فيها، حتى وصل للعالمية، تلك المواقف التى لا حصر لها، ويتلمسها كل من اقترب من الأستاذ وعاصره وعايشه، من الكتاب والمبدعين الكبار، فنجد بعضا منها فى كتاب "المحطة الأخيرة" للكاتب محمد سلماوى، الذى اقترب منه، وكان له لقاء أسبوع، يعقد فى السبت من كل أسبوع، من هذه المواقف:

«أول احتفال بعيد ميلاد»

كانت أول مرة فى حياة نجيب محفوظ يقام له احتفال عيد ميلاد، هى تلك السنة التى أقامها له الأستاذ محمد حسنين هيكل عام 1961 بمناسبة بلوغه الخمسين عامًا، والتى دعا إليها "أم كلثوم" بعد أن عرف أن "محفوظ" يعشقها وأنه لم يقابلها قط، وحضر الاحتفال عدد كبير من الأدباء على رأسهم "توفيق الحكيم" و"صلاح جاهين" وغيرهم.. وكان "محفوظ" الذى لم يتعود على الاحتفال بعيد ميلاده حتى وهو طفل يقول "إننى لم أتعود على إطفاء هذه الشموع وأنا طفل، فهل أطفئها الآن وقد صرت شيخًا؟!".

«القهوة...وأول لقاء مع توفيق الحكيم»

"عارف فى أول مرة ذهبت لمقابلة توفيق بك – توفيق الحكيم – لم أكن أعرفه شخصيًا لكنه كان قد سمع بى وطلب من صديقنا المشترك، المرحوم "محمد متولى" مدير دار الأوبرا، أن يعرفه بى، فحدد لنا "متولى" موعدًا، وذهبت لمقابلته فى أحد المقاهى بوسط البلد، وما إن جلست إلى مائدته حتى جاء الجارسون يسألنا عما نريد، فطلبت فنجان قهوة، وطلب هو مثله، ثم إذا به يقول لى على الفور: شوف بقى، حاتقولى أنا اللى حادفع الحساب وهاقولك لأ أنا اللى حادفعه، خلى كل واحد فينا يدفع حسابه أحسن علشان ما نتخانقش!"

«أعطوه مكتب توفيق الحكيم.. فلم يجلس عليه»

لم يكن لـ"محفوظ" مكتب مستقل فى جريدة "الأهرام"، بل كان يجلس فى مكتب مشترك فى الدور السادس مع الدكتور "حسين فوزى" والدكتورة "بنت الشاطئ"، وحين فاز بجائزة نوبل – وكان الأستاذ "توفيق الحكيم" قد توفى قبلها بنحو سنة – أعطى "الأهرام" مكتب "الحكيم" – الذى ظل مغلقًا منذ وفاته لـ"نجيب محفوظ"، لكن "محفوظ" ظل يجلس فى هذا المكتب على الأريكة التى كان يجلس عليها حين كان يأتى لزيارة "الحكيم"، ولم يجلس على مكتب "توفيق الحكيم" ولا مرة واحدة طوال حياته!.

«حينما أصدر "العقاد" شخيرًا.. فاحمر وجه محفوظ»

كان الأستاذ يعرف جميع عازفى القانون القدامى، كان هو نفسه يعزف القانون فى شبابه، كان القانون آلته الشرقية المفضلة، وقد وصل من شدة حبه للموسيقى أن التحق بمعهد الموسيقى العربية أثناء دراسته بقسم الفلسفة بكلية الآداب، كان فى ذلك الوقت يفكر جديًا فى احتراف الموسيقى، أما أستاذه فى آلة القانون بالمعهد فكان حفيد "العقاد" الذى كان يعزف لـ"أم كلثوم".. وعميد المعهد كان ذلك من عائلة "العقاد" وهو "محمد العقاد بك".

وعند بداية التحاق "محفوظ" بالمعهد، كان عليه أن يقابل عميد المعهد ليحصل أولاً على موافقته، دخل الأستاذ إلى مكتب "محمد العقاد بك" وهو يهاب الموقف.

يقول الأستاذ: نظر إلىَّ العقاد بك من فوق لتحت وقال لى: أنت كبير فى السن كده ليه؟ شرحت له أننى طالب فى السنة الثالثة بالجامعة وأننى أهوى الموسيقى، سألنى عن الآلة التى أهواها. قلت له: القانون، فما كان منه إلا أن أصدر بفمه شخيرًا غير مهذب أشعرنى بالخجل، فتألمت واحمر وجهى، وتصورت أن الرجل لا يحب تلك الآلة، ثم أعطانى استمارة التحاق لكى أملأها، وأثناء ذلك ظل الرجل ينظر إلىَّ ويصدر صوت الشخير هذا بين الحين والحين، أحرجت جدًا ولم أعرف ماذا أفعل، بعد أن خرجت من مكتبه قلت لزميل لى كان طالبًا بالمعهد وأتى معى لتقديم أوراقى: إننى عدلت عن الانضمام للمعهد، وحكيت له ما فعله معى العقاد بك، ضحك صديقى، وقال لى: كان علىَّ أن أنبهك إلى أن الرجل لديه عيب خلقي فى حنجرته يجعله يصدر صوت الشخير هذا دون أن يقصد.

ومع ذلك فقد ظللت كلما قابلت العقاد بك فى المعهد أشعر بالخجل من هذا الموقف، ولم أرتح إلا حين تركت المعهد بعد سنة دراسية حصلت فيها على أعلى الدرجات، لكنى لم أتمكن من التوفيق بينها وبين دراستى فى الجامعة.