الإنسان بطبيعته عرضه للنسيان, حتى قال الشاعر: وما سمي الإنسان إلا لنسيه / وما القلب إلا أنه يتقلب! ولقد وصف القرآن أبا البشر آدم بالنسيان لأهم تكليف كلف به وهو الامتناع...


د. يوسف القرضاوي
الإنسان بطبيعته عرضه للنسيان, حتى قال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه وما القلب إلا أنه يتقلب!
ولقد وصف القرآن أبا البشر آدم بالنسيان لأهم تكليف كلف به وهو الامتناع عن الأكل من الشجرة, قال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي}.
ووصف فتى موسى به: {فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} [الكهف: 63].
ومن واقعية الشريعة الإسلامية ويسرها: أنها راعت هذا الجانب في الإنسان فأعلنت رفع الإثم عن الناس, ومثله المخطئ والمكره, لأن المسؤولية ثمرة القصد والإدارة, وهؤلاء لا إرادة لهم.
لهذا جاء في الحديث: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". (رواه ابن ماجه عن أبي هريرة وابن عباس وأبي ذر).
وفي القرآن الكريم: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا} [البقرة: 286].
وفي الصحيح: "إن الله تعالى قال: قد قبلت" أي أجاب الدعاء.
وفي هذا الإطار جاء الحكم النبوي بشأن الصائم الذي ينسى فيأكل او يشرب وهو غير ذاكر لصومه, فلم يعتبر أكله ولا شربه في حال النسيان قاطعا لصومه, بل هو رزق ساقه الله إليه, وصومه صحيح.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه, فإنما أطعمه الله وسقاه". (رواه الجماعة عن أبي هريرة).
وفي لفظ: "إذا أكل الصائم ناسيا, أو شرب ناسيا, فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه". (رواه الدارقطني في سننه (2/178) وقال: إسناد صحيح, رواته كلهم ثقات).
وفي لفظ: "من أفطر يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه, ولا كفارة" (رواه الدارقطني أيضا (2/178) وأخرجه ابن خزيمه وابن حبان والحاكم, قال الحافظ في بلوغ المرام: وهو صحيح (542).
قال ابن القيم: في إسقاط القضاء عمن أكل أو شرب ناسيا:
(إن الله هو الذي أطعمه وسقاه, فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه فيفطر به, فإنما يفطر بما فعله, وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه, إذ لا تكليف بفعل النائم, ولا يفعل الناسي). (زاد المعاد: (2/59) ط. الرسالة).
وهذا أمر أجمع عليه الفقهاء لولا خلاف مالك وابن أبي ليلى: أن من أكل أو شرب ناسيا فقد بطل صومه ولزمه القضاء!
ولعلهما لم يبلغهما الحديث, وهو حجة ظاهرة.
وفرق بعض العلماء بين القليل والكثير من الطعام, وظاهر الحديث عدم الفرق.
ويؤيد ذلك ما رواه أحمد عن أم إسحاق, أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم, فأتى بقصعة من ثريد, فأكلت معه, ثم تذكرت أنها صائمة, فقال لها ذو اليدين: الآن بعد ما شبعت؟! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتمي صومك, فإنما هو رزق ساقه الله إليك". (انظر: نيل الأوطار: 4/283-284).
وما حكم من جامع ناسيا؟
هل يلحق بمن أكل أو شرب ناسيا؟
الظاهر ذلك بمقتضى القياس, ولدخوله تحت عموم رفع المؤاخذة عن الناسي ولحديث: "من أفطر يوما من رمضان" فظاهره يشمل المجامع.
وإن كان المستبعد – ولاسيما في صوم الفرض – أن ينسى الرجل وزوجته – كلاهما – ويقع الجماع نسانا!
هل يفطر الجاهل بالتحريم؟
من أكل أو شرب أو جامع جاهلا بتحريم ذلك على الصيام, فإن كان قريب عهد بإسلام, أو نشأ ببادية بعيدة بحيث يخفى عليه كون هذا مفطرا لم يفطره لأنه لا يأثم فأشبه الناسي الذي ثبت فيه النص.
وإن كان مخالطا للمسلمين, بحيث لا يخفى عليه تحريمه أفطر, لأنه مقصر. (انظر المجموع للنووي: 6/324).
المكره لا يفطر؟
وكذلك ومن أفطر مكرهًا لا يفطر، سواء أدخل المكره الطعام إلى جوفه بغير فعل من الصائم أم أكره الصائم على أن يأكله هو بنفسه على الصحيح، لحديث: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" (رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي بأسانيد صحيحة من رواية ابن عباس، كما قال النووي في المجموع - 309/6).

هذا ما رجحه الإمام النووي من مذهب الشافعي، وقال الأئمة الثلاثة: يبطل صومه، وإن كان مكرهًا.
ـــــــ
- عن كتاب "فقه الصيام" لفضيلة العلامة، الصادر عن مكتبة وهبة بالقاهرة العام 2006.