رمضان شهر الروحانيات والبركات، وقد أنعم علينا الله به رحمة لتتطهر فيه النفوس من شوائب الصغائر البشرية وتسمو بتوحد الروح والجسد والعقل، ويحلق الإنسان بعيدا عن العالم المحيط به وما به من ضغوط وتوترات إلى عالم أسمى ملىء بالسعادة والصفاء والروحانى، وبذلك يتخلص العقل من الضغوط والتوترات التى تشوش التفكير ويصفو الذهن ويتجدد نشاط الجسد.

فكما وهب الله الإنسان طاقات عظيمة كامنة بداخل النفس البشرية فإنها لا تنفز إلا بانتهاء حياته، ولأن الإنسان مكون من جسد وعقل وروح فإن طاقاته أيضا تنقسم إلى طاقات جسدية وعقلية وروحانية.

وقد أنعم الله علينا بجعل هذه الطاقات تتجدد وتنمو وتزيد، ليستطيع الإنسان أن يحيا ويعمر الأرض، وأعطانا سبل وفرص لاانتهازها والاستفادة منها، ورمضان من أغلى الفرص التى أعطاها الله لنا لنرتقى بطاقاتنا الروحانية فوجب علينا العمل على ذلك طوال الشهر ليبقى ما غرسناه فيه نحصده طوال العام من رمضان الى رمضان.

والتساؤل هو كيف نصل إلى هذه الحالة الرائعة من السمو خلال الشهر الكريم؟ والإجابة ستجدونها فى جملة واحدة وهى التوازن فى أركان الحياة، ولكن ما هى هذه الأركان التى يجب أن أتوازن فيها؟ والإجابة هى أن هناك ستة أركان تلخص وتجمع وتحتوى على حياة الإنسان، الركن الأول والأهم والذى يعتبر الدعامة لباقى الأركان هو الركن الروحانى المتعلق بعلاقة الشخص بربه، ثم يليه فى الأهمية الركن الشخصى والمتعلق بعلاقة الإنسان بنفسه من الناحية الشخصية والصحية، ثم الركن العائلى والمتعلق بعلاقة الإنسان بأسرته، ثم الركن الاجتماعى والمتمثل فى علاقة الإنسان بمن حوله من أشخاص فى المجتمع، ثم الركن المهنى والذى يعكس حالة الإنسان العملية، وأخيرا الركن المادى والذى يعكس حالة الإنسان المالية والذى يخدم على كل الأركان السابقة.

ودعونا نتساءل كيف يمكن أن نسعى إلى التوازن؟ أو بمعنى آخر ألا نغفل ركنا من الأركان على حساب آخر، وأن نعطى كل ركن حقه بقدر الاستطاعة حتى لا نحيا حياة غير متوازنة، ونعمل دائما على التحسين والسعى إلى الأفضل. والسبيل هو الوعى والإدراك، فبإدراكنا لواقعنا الحالى نستطيع تحديد النواقص ونسعى إلى استكمالها، فلنبدأ بالركن الروحانى والذى هو مصدر الطاقة الروحانية والتى تعتبر أقوى طاقة يمتلكها الإنسان وتفوق قدرات هذه الطاقة قدرات الطاقة العقلية والجسدية، ويتجلى هذا المعنى حيث أبلغنا رب العزة أن عشرة من المؤمنين يستطيعوا أن يغلبوا مائة فقوة الإيمان هى القوة والطاقة التى يستطيع الإنسان التفوق بها على الصعاب والتغلب على المستحيل.

ولذلك يمثل رمضان لنا طاقة النور التى تمدنا بالأنوار التى تنير لنا الطريق طوال العام من خلال ما نتمسك من أداء لعبادات والتسامى بالأخلاق والنوايا فى هذا الشهر الكريم، من خلال صلاتنا وقراءتنا للقرآن وصيام جوارحنا عن كل الشهوات وعن كل ما نهى الله عنه.

دعونا نبدأ رمضان بهدف واضح لدينا وهو أن نسعى إلى تحسين علاقتنا بربنا عن طريق استكمال ما ينقصنا، فلنبدأ بالمصارحة مع أنفسنا أولا ونحدد ما نريد أن نغيره وتحسينه، فبعضنا سيحدد العبادات مثل الصلاة أو الزكاة والصدقات والبعض الآخر سيحدد الأخلاق، ويختار سلوكيات معينة يريد أن يتخلص منها ويستبدلها بخير منها، والبعض الآخر سيحدد نوايا ومشاعر دنيا يريد أن يرتقى بها أو التخلص منها واستبدالها بما هو أسمى منها مثل الكراهية والحقد والضغينة والحسد.

فمن استطاع أن يسعى إلى تقوية الطاقة الروحانية سيجد أن الطاقة العقلية فى حالة صفاء وتجدد دائم، وسينعكس هذا الصفاء على الطاقة الجسدية ليجد نفسه فى أحسن حالاته ويتحول من الضعف إلى القوة. فلتكن وقفتنا الأولى مع الله لنبغى رضاءه فى اتباع ما أمر والبعد عما نهى، ثم مع أنفسنا ثم مع الناس من حولنا.

فالوقف أمام الله فى الصلاة فى حالة رضى عن محاولتنا فى تحسين العلاقة مع بارئنا سنكون قد بدأنا طريقنا إليه، ومن أول خطوة فى هذا الطريق سنجد الطاقة الروحانية التى تتخلل كل جوارحنا تجعلنا فى حالة قوة دائمة، وكلما مارسنا ممارسات روحانية مثل الصلاة أو الذكر أو قراءة القرآن ستتجدد الطاقة عن طريق صفاء الذهن والنفس من شوائب الأفكار والأحداث المتلاحقة التى تواجهنا فى الحياة، لننتقل من حالة التشتت إلى حالة التأمل والتى تأهلنا إلى حالة السمو الروحانى، فيالها من فرصة أدعو الجميع أن يقتنصوها وللحديث بقية عن باقى أركان الحياة فى رمضان.