ربما تكون هى الدهشة وربما يكون هو الخوف.ربما تكون هى الصدمة وربما يكون هو الحزن.. ربما تكون هى الورطة ..وربما يكون هو الرعب..
تلك المشاعر المتضاربة هى ما شعر به فجأة الرجل الذى وجد الساق المبتورة متدلية من صندوق القمامة ؟
ساق وحيدة، ساق لرجل مكتمل الرجولة، ليست ساق طفل وليست ساق امرأة، وليست ساق شاب هى ساق لرجل تشبه ساقة هو الركبة والسمانة والشعر الغزير. وأخيرا القدم سليمة بها الأصابع الخمسة دون خدش أو جرح، هى المرة الأولى التى يشاهد فيها ساق إنسان وحيدة بدون باقى الأعضاء، شاهد أرجل وأقدام نساء عديدات.. شاهدها فى الحقيقة وفى الأفلام لكنه لم ير رجلًا أو قدمًا غريبة لرجل لا يعرفه. ترى ما الذى جعل ذلك الرجل يلاقى ذلك المصير. هى مأساة ولا شك، ولكنه تعود ألا يلقى بنفسه فى خضم المشاكل، ولكن لسبب ما غامض فى نفسه لا يعرف كنهه توقف أمام تلك الساق وهذه القدم.

هل لو بحث سيجد بقية جسد ذلك الرجل المسكين الرأس والرقبة والرجل الثانية والقدم الثانية. هل هو مقطع إلى أجزاء؟ هل قتلته زوجته ليخلو لها الجو مع عشيقها؟ هل قتلته زوجته لأنه خائن أم بخيل؟ أم قتلته عشيقته لأنه حاول التخلى عنها؟ ماذا لو قتله لصوص شاهدهم وهم يسرقون بيته؟ هل هو لص أو بلطجى انتقم منه الناس وارتاحوا من عذابه؟ قرر أن يقطع تلك التهاويم التى ملأت عقله وقلبه وشغلت تفكيره. سيقوم بإبلاغ الشرطة ويدلى بأقواله ثم يتابع القصة من خلال الصحف والفضائيات. هل يحملها إلى القسم أم يذهب ويبلغ؟ ولكن ماذا سيحدث لو لم تأت الشرطة أو اختفت الساق لأى سبب من الأسباب؟

فكر سريعا وقرر أن يستغيث بالمارة فى الطريق ليشهدوا معه أو ليبقى بعضهم مع الساق حتى يعود بعد إبلاغ القسم؛ هكذا قرر أن تكون هذه هى خطته.

وبالفعل وقف بعض المارة بجوار الساق حيث لم يرض أى منهم أن يأخذها بعربته، أو يحركها من مكانها أصلا بل ان بعضهم شك فية وظنوا أنة قاتل أو كاذب فكروا أن يأخذوا منه البطاقة إلا أن أحدهم قال البطاقة هى الوسيلة الوحيدة لتكتب الشرطة محضرها..
وهكذا قرروا أن يذهب معه أحدهم ويبقى الآخرون فى انتظار عودتهما مع الشرطة
قرر الرجل الذى ذهب مع من وجد الساق أن ينتظره أمام القسم
بينما دخل هو إلى القسم دون تردد
استمع الضابط إلى حديثه كله كان يفرك وجهه بكلتا يديه وبداخلة حلم ما بأن كل ذلك لم يحدث فعلا أو أنه يحلم حلما ما
انتهى الرجل من كلامه وأرسل الضابط أمين شرطة ومخبراً سريا يعرفه الجميع فى المنطقة وطلب من الرجل أن يترك عنوانه ورقم تليفونه، وأن يوقع أمام كلامه.

كانت خطة ضابط المباحث أن يذهب إلى المستشفى المركزى الكبير والوحيد بذلك المركز الموجود بقلب الصعيد. منذ وطأت قدمه ذلك المكان ويشعر وكأن لعنة ما تطارده يعرف أن رؤساءه غاضبون منه، ولكن لم يعرف أنه سيواجه هنا كل تلك المتاعب. قرر أن ينحى تلك الأفكار عن ذهنه، وأن يبحث عن حل للمشكلة التى أمامه أخذ نفسا عميقا من سيجارته، وطلب كوبا كبيرا من النسكافيه الذى يصنعونه هنا بشكل لا يعجبه، ولكنه يزيد من غضبه ذلك للغضب الذى يجعله أكثر تركيزا فى عمله حتى ينجو من ذلك الضياع. ركز فى بحثه على أربعة احتمالات لا خامس لهم

الاحتمال الأول:
أن يتعرف على كل من أجرى عملية بتر لساقه فى المستشفى ومن خلال العناوين سيذهب إليهم ويعرف أيًا منهم لم يقم بدفن ساقه، وبالتالى سيكون هو صاحب هذه الساق ويمكن محاسبته.

الاحتمال الثانى:
أن تكون تلك الساق جزءًا من جثة قتيل، وبالتالى سيتم تمشيط المنطقة التى وجدت بها الساق ثم البحث عن باقى الجسد ومعرفة صاحبه، ومن ثم التعرف على الجانى ومحاسبته.

الاحتمال الثالث:
حصر المشاجرات التى تم الإبلاغ عنها فربما يكون قد قطعت الساق فى مشاجرة حدثت قريبا.

الاحتمال الرابع:
البحث عن تشكيل عصابى يقوم ببتر الأجزاء البشرية. ولكن ذلك مرهون بوجود قطع بشرية أخرى فى أماكن أخرى، وهو ما سيتضح فى الأيام القادمة، وأيضا عن طريق البلاغات التى ستتوالى عن وجود أجزاء آدمية أخرى.

مع مرور الوقت تم استبعاد الاحتمال الرابع تماما، ولما لم يتم الإبلاغ عن أى مشاجرات فى الفترة الأخيرة تم فيها قطع أجزاء بشرية تم استبعاد الاحتمال الثالث، وهكذا تم التركيز على الاحتمالين الأول والثانى.

جاءه تقرير بالمشاجرات فى الشهر الماضى كله، لكنه لم يجد أثرًا لحادث بتر ساق أو قدم، وبينما كان يقرأ ذلك التقرير كانت العربة التى بعث فيها الأمين قد وصلت لتخبره بتقرير المستشفى: هناك ثلاث حالات قامت بعمل بتر لساقها فى المستشفى المركزى: الحالة الأولى من النوبة، والثانية من سيناء، والثالثة من البحيرة. اقتنع الآن بصحة فروضه المنطقية، وقرر أن يبدأ أولا بالحالة التى فى النوبة فهى أقرب المناطق لمكان الحادث.

لو لم يقدم الرجل بلاغا لما شعر أحد بأى شىء، ولكان من الممكن أن ينتهى الموضوع دون أى مشاكل، هكذا حدثته نفسه قبل أن يقرر السفر.

فى القطار كانت جلسته بجوار أكثر شخص يكرهه فى العالم، إنه سعيد صحفى الحوادث الذى يجده دائما عارفا بكل شىء، ومتابعا لكل الجرائم. بالتأكيد هو الآن فى ذلك المقعد ليفتح معه حوار حول ذلك الموضوع سعيد.
كأنه عمله الأسود أو القدر الذى يتابعه كظله أو الذنب الذى يؤرقه وينغص عليه حياته.
- سعيد أخبارك إيه يا باشا.
لم يرد عليه وانشغل بما معه من أوراق وما فى ذهنه من أفكار
- مش عايز ترد ليه إحنا شغلنا واحد وهدفنا واحد وهو الحقيقة
كان "سعيد" قد وضع شنطته للتو فوق الرف الذى سيجلس أسفله.
- أظن بقى عيب قوى لو اتسرقت الشنط وانت جمبى
سعيد الموضوع ده مضايقنى ومطلع عنى ابعد عنى أحسن لك أنا مش ناقص
- تجاهل سعيد كلام الضابط الشنط مش مشكلة. المحفظة اللى فيها الفلوس فى جيبى أنا مش خايف كده على الشنط . إيه رأيك أجيب لك شاى معايا؟
أغمض الشرطى عينيه وكأنه لا يرى سيعد أو يعرفه، بينما سعيد مر بجوارة ليأتى بالشاى.
أنا عارف أنك بتحب النسكافية بس هتعمل أيه أعمل زيى وبطلة
أبتسم لسعيد وكان كل همة كيف سيتخلص منة ليصل قبلة إلى بيت المشتبه به

كان الفرح النوبى فى أوجه: النساء والرجال منغمسون فى رقص الأراجيد لم لا وعملية والد العروسة قد نجحت والعريس لم يستطع تأجيل الفرح، لأنه سيعود بعروسته للدولة الخليجية التى يعمل بها؟

ينظر للمكان حوله ها هو جالسا بالمندرة يشاهد المثلثات الثلاثة الصغيرة فى نهاية الحائط المطل على الشارع، بينما هناك ثلاثة مثلثات أخرى فى الجانب الآخر من الحائط كان يفكر أنها ربما تستخدم للتهوية. دخل عليه عم صالح، رجل عجوز تجاوز السبعين بقليل.
- معلش يا حاج الظاهر إنى جيت فى وقت مش مناسب
- البيت بيتك يا إبني. خير إن شاء الله
- خير يا حاج، أنت كنت فى المركز عندنا من كام يوم؟
- صحيح
- طيب! أنا عندى سؤال مباشر وواضح
- اتفضل يا ابنى
- رجلك فين
- مش فاهم
- مش إنت عملت عملية بتر
- صحيح
- طيبب رجلك فين
- رجلى يا بنى دفنتها
- أيوه فين يعنى؟
- ممكن أعرف الموضوع ده يهم البوليس فى إيه
- الموضوع كبير يا حاج، ومن فضلك بدل المشاكل قولنا رجلك فين. الاعتراف أحسن لك.
- ليه هو أنا متهم ولا حاجة؟
- أيوه إحنا لاقينا رجل فى الزبالة، وعايزين نعرف رجل مين دى.
- شوف يا بنى! من أربعين سنة وأكتر كمان بيوتنا اتهدت وزرعنا غرق واتهجرنا من أرضنا. تعرف إيه اكتر حاجة حافظت عليها؟
- لا، مش عارف.
- عضم أبويا وأمى؛ رحت المدافن وطلعت العضم اللى لقيته، وأخدته معايا عشان أعملهم مدفن، وأعرف أقرا عليهم الفاتحة لما يجى العيد. فاهمنى؟
- لا طبعا إيه العلاقة بين ده وبين رجلك يعنى؟
- العلاقة يا بنى إن اللى يشوف اللى أنا شوفته ده مش ممكن يرمى حتة من جسمه. الموت له حرمة. وأنا حتة منى ماتت فى العملية.
- طيب من غير لف ولا دوران يا تورينى دفنت رجلك فين، يا تتفضل معايا على القسم.
- لا حول ولا قوة إلا بالله عمركم ما هتتغيروا. أنا قولت الشرطة اتغيرت بعد اللى حصل
- حصل إيه إنت كمان هتغلط. أنا بس مستحملك عشان إنت راجل كبير. إنما أعرف أنت بتكلم مين . وخللى بالك إحنا ما حدش يقدر يقف قصدنا هوه سؤال واحد: فين رجلك؟ وديتها فين؟
- طيب معلش يا بنى هى الرجل اللى انت لقيتها دى لونها يعنى سمرا زى رجلى ولا لاء؟
- انا إيش عرفني؟ أهى رجل وخلاص، ولازم يكون لها باقي.
- تذكر أنة أمر أمين الشرطة أن يرسلها إلى ثلاجة المستشفى لأنه لا يمكن تركها فى القمامة وحتى يتم التحفظ عليها ومعرفه صاحبها وتقفيل ذلك المحضر اللعين
- طيب يا بنى أنا رجلى هناك فى المدافن. بات معانا والصبح هوريهالك.
- ماشى يا حاج.
فى صباح اليوم التالى كان الضابط فى المدافن مع العريس ووالدة يحضر عملية فتح المقبرة، ويتأكد بنفسه من وجود الساق
معلش يا عريس بس لازم أتاكد أن رجل والدك فى المقبرة
الرجل ولايهمك أنت بتشوف شغلك
الولد أتاكدت حضرتك
تمام
شعر أنة غير مرحب بة وترك المكان بينما كان اللحاد يقفل المقبرة والرجل العجوز يبكى بصوت عالى
أخبره سعيد فى رحلة العودة بأن الرجل الثانى المشتبه فى أنه صاحب الساق الذى يعيش فى البحيرة قد توفي، وقد أرسل له زميله بالجريدة مقطع فيديو. به القدم فى المقبرة، وهو ما تأكد منه الضابط من زميله الذى ذهب ليتحقق بنفسه من الواقعة.

وصل الضابط أخيرًا إلى القسم وهو يشعر بالارتباك من ملابسات تلك القضية الغريبة وقرر أن يذهب أخيرًا إلى سيناء ليتعرف على المريض الثالث الذى قام بعملية بتر فى المستشفى وكان يدور فى ذهنه ذلك الهاجس الغريب ماذا لو لم يكن هو أيضا صاحب الساق ماذا سيفعل بها وكيف سيقفل القضية.
فى اللحظة التى وصل فيها سيناء كانت السيول قد اجتاحت المكان، وبينما كان متجها مع المشتبه فى انه صاحب الساق للمقبرة احتموا ببيت اللحاد، حيث جرفت السيول جثثًا لا حد لها. جثث بملابس عسكرية لشهداء حرب 67 وجثث لشهداء حرب 1973 وجثث لبدو كانت قد قتلتهم قوات إسرائيل وبقايا لأجزاء آدمية؛ أقدام، ورؤوس، وهياكل عظمية قام الناس بعد عمل مصدات للسيول بجمع الجثث والبقايا البشرية وقاموا بدفنها مرة أخرى عاد الضابط بعدما تأكد بأن الرجل البدوى كان قد دفن قدم ولم يرمها بشهادة الشهود الذين حضروا عملية الدفن وبعدما أيقن أن تلك القدم التى وجدها فى المستشفى هى دليل أكيد على وجود جريمة لم يعرف على وجه التحديد من قام بها. ربما تكون قدم شهيد أو ضحية لجانى لازال يعيش حرا طليقا.

ولكنة سيغلق المحضر منتظر حدوث أمرا جديدا بينما كان سعيد قد قرر البحث فى شوارع محمد محمود ومجلس الوزراء والعباسية وبورسعيد عن أى دلائل تشير إلى قدم مفقودة وان يتأكد من أن المصابين الذين غادروا المستشفيات لم يقم أحد منهم بعملية بتر ساق مستعينا بكشوف المصابين فى المستشفيات المختلفة