تزكية العقل بفعل ما يوصله إلى الحق

تقرأ في هذا الموضوع :
1- استعمال العقل :
2- بحث العقل عن الحقائق الكبرى المهمة :
3- توجُّه العقل والقلب والجسد إلى طلب الحق والهداية :
4- تزكية العقل وترقيته :
إن تزكية العقل إنما تكون باستعمال العقل على وجهه الصحيح، والاستفادة منه في الوصول إلى الصواب والحق، وأن يلازم استعماله في التوصل إلى الحقائق والانتفاع منها، مع تطهيره من التفكير المنحرف والنتيجة المنحرفة الخاطئة، فذلك الذي تبدأ به تزكية النفس، وهو الذي يقود إلى تزكية القلب وأحواله، وإلى تزكية الجوارح وأعمالها.
تزكية العقل والفكر هي هدايته إلى الحق والخير والصواب، في أهم الحقائق في هذا الوجود([1]).
وهذا تفصيل يبين الحال الذي يجب أن يكون عليها العقل، ليكون زكياً مهتدياً:
1 - استعمال العقل :

إن مَنْ خُلِق سوياً غير مجنون ولا مختل في عقله، فعقله فيه القدرة على معرفة الحق والصواب وطريق الهداية، وعلى الإنسان أن يستعمل العقل فيما أعطي من قدرة على التفكير والتمييز والوصول إلى الهداية.
والله تعالى حينما أمرنا بالتفكر في مثل قوله: ﴿ أفلا تتفكرون ﴾ ﴿ أفلا تعقلون ﴾؛ فإنما يحثنا على استعمال العقل، وينبهنا إلى أننا يمكن أن نصل إلى الحق باستعماله.
ونبهنا الله إلى أن عدم التعقل يمنع كل فائدة، حتى من الأنبياء، قال تعالى: ﴿ أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ﴾ [يونس: 42].

واستعمال العقل لا بد أن يكون استعمالاً سليماً منطقياً، حتى يصل إلى النتائج السليمة من خلال البدهيات التي أوجدها الله في عقل الإنسان، ومن خلال جمع الحقائق المعلومة الثابتة ثم استنباط نتيجة صحيحة منها، وباستعمال براهين وحجج وأدلة سليمة تدل على النتيجة، ومن خلال الاستقراء والاستنتاج، وبالاستفادة من الحقائق التي توصل إليها الآخرون.
كلما استفاد الإنسان من أسباب زيادة المعقولات والمعلومات، كلما كان أوسعَ معلوماتٍ وأقربَ إلى الهداية ، وخاصة إذا اعتنى بالبحث عن المعلومات الأهم

واستعمال العقل في التعقل والنظر والتفكر والتدبر والتذكر والتفهم والفقه([2])، كلما كان أكثر؛ كلما كانت نتائج المعرفة وإدراك المعقولات المهمة أكبر.



وكلما استفاد الإنسان من أسباب زيادة المعقولات والمعلومات([3])؛ كلما كان أوسعَ معلوماتٍ وأقربَ إلى الهداية، وخاصة إذا اعتنى بالبحث عن المعلومات الأهم.
واستعمال العقل في التعقل والنظر والتفكر والتدبر والتذكر كلما كان أكثر؛ كلما كانت نتائج المعرفة وإدراك المعقولات المهمة أكبر

2. بحث العقل عن الحقائق الكبرى المهمة:

العقل إذا استُعمِل ينفع صاحبه، لكنه إن اقتصر صاحبه على التفكير به في أمور خسيسة أو في جوانب دنيوية ولذَّات ومصالح قريبة؛ فإن فائدته تكون خسيسة أو متواضعة بقدر خسة ما فكر فيه.
وإذا أهمل الإنسانُ التفكيرَ بعقله في الأمور الخطيرة والمصالح الكبرى، وفي البحث عن الحقائق المهمة في الوجود؛ فإنه لا يكون قد استفاد من عقله الاستفادة المطلوبة.
والحقائق الكبرى التي يجب أن يهتدي إليها الإنسان ويبحث عنها هي أركان الإيمان، وما ينبني عليها، وما يَلْتَحِقُ بها، فإن أخطأها ولم يصل إليها فذلك هو الضلال والانحراف الكبير، فمهما أصاب الإنسانُ خيراً وعرف أموراً غير ذلك؛ فلن ينتفع منها، ما لم يصل إلى هذه الأمور التي هي أهم وأولى بالمعرفة([4])، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِوَمَلائِكَتِهِوَكُتُبِهِوَرُسُلِهِوَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً﴾ [النساء: 136].
3. توجُّه العقل والقلب والجسد إلى طلب الحق والهداية:

إذا أدرك الإنسان أن هناك حقائق كبرى لا بد أن يبحث عنها، فإنه لا يتحرك نحو البحثِ عنها وطلبِها إلا إذا رغب قلبه بذلك، فإذا تحركت رغبة الإنسان وإرادته ومشيئته إلى طلب الحق فهذا الذي يمكن أن يهتدي إليه بإذن الله، قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ،لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: 27-28]، ثم بين أن مشيئة كل واحد من العالمين متوقفة على مشيئة الله، فقال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29]، وليس المقصود من الآية أن يقول للناس إنكم حتى لو أردتم الهداية فإني أمنعكم إياها، فالله لا يظلم الناس مثقال ذرة، وإنما المقصود بيان إرادته ومشيئته المطلقة، وبيان أنه حتى مع إرادتك الهداية؛ قد تكون عندك أمور أخرى تمنع الهداية، فسنة الله أنه لا يهديك إلا إذا استكملت أسباب الهداية، وقد بينها جميعاً في كتابه، وهذه أهمها؛ توجهك إلى الحق ورغبتك بمعرفته والإيمان به، ومنها أن يسعى بجسده طالباً طريق الهداية باحثاً عنها وسائلاً.
ـ قد يستعمل الإنسان عقله كثيراً، وقد يستعمله أحياناً في البحث عن الحقائق المهمة، لكنه لا ينتفع منه الانتفاع المطلوب ما لم يكن حريصاً على أن يعرف الحق والخير والهداية، فواجب الإنسان أن يجعل التفكير متجهاً عنده إلى معرفة الحق والخير، وأن يجعل ذلك همَّه الأول.
إن حرصك على الحق، وطلبك الهداية إليه، وسلوكك سبيل معرفة الحق، وحرصك على العملِ به؛ سبب في أن يهديك الله أكثر، ويُعَلِّمَك ما لا تقدر على معرفته، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وآتاهم تقواهم﴾ [محمد: 17]، فمن بذل الهداية التي يستطيعها أعطاه الله من الهداية مزيداً.
ولما كانت التزكية والهداية بمعنى واحد، وتتضمن شيئاً واحداً، لكنها تسمى هداية من كونها توافق الحق، فمن وُفِّق إلى الحق في فكره وإرادته وعمله سمي مهتدياً، وتسمى تزكية من كونها يحصل بها تطهير النفس وترقيتها، وإنما تتطهر وتترقى بقدر موافقتها للحق، فإذا وجدت الهداية عند إنسان كان من أهل التزكية، والله تعالى جمع بين التزكية والهداية إشعاراً بتكامل المعنى بينهما حيث قال ذاكراً قول موسى لفرعون ﴿ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ [النازعات: 18-19] ؛ لما كانت الهداية والتزكية مترادفتان من حيث الحقيقة، فالحديث عن الهداية من الحديث عن التزكية.
ما من شيء جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلا وهو موافق للحق ، فجازت تسميته بالهدى ، ومن وصل إليه وأدركه فقد اهتدى ، ومن لم يصل إليه فقد ضل

والهداية تأتي في القرآن الكريم بمعاني متعددة([5])، أحدها أنها تأتي بمعنى هداية العقل وإعطائه القدرة على معرفة الحق والبحث عنه، فوُصول العقل إلى الحقائق هداية([6]).

والله تعالى أعطانا العقل الذي به الهدايةُ وبه التمييزُ بين طريق الخير والشر وطريق الثواب والعقاب، كما دل على ذلك قوله عز وجل : ﴿ إنا هديناه السبيل ﴾ [الإنسان: 3]([7])، وقوله سبحانه: ﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ [فصلت: 17]، أي أعطايناهم الأسباب التي تحصل بها الهداية والتعليم، فلم يهتدوا ولم يتعلموا([8]).
فسنة الله أنه لا يهديك إلا إذا استكملت أسباب الهداية، وقد بينها جميعاً في كتابه ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ،لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾

وما من شيء جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلا وهو موافق للحق، فجازت تسميته بالهدى، ومن وصل إليه وأدركه فقد اهتدى، ومن لم يصل إليه فقد ضل، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].
وواجب الإنسان أن يجعل أول اهتماماته وأول أعماله أن يهتدي إلى الحقائق الكبرى والعقائد المهمة، ولا يقدِّم عليها شيئاً، ومن استخف بذلك ورغب عن الهداية وقدَّم غيرها عليها فذلك الخاسر لأنه قَبِل الضلالة، قال تعالى: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 16].
فلا تنتظر أيها العاقل لتعرف الحق في الآخرة، فلا ينفعك ذلك هناك، بل ابحث عنه وتعرف عليه في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: ﴿ قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ﴾ [طه: 135]، ففي الآخرة تزول الغشاوات، ويدرك الإنسان من كان على طريق سوي في استعمال عقله وهدايته إلى الحق.
4. تزكية العقل وترقيته:
باستعمال العوامل المعينة للعقل، والتي تقرِّب إليه معرفة الحقائق أو تكون سبباً في انتباهه إليها:
ـ نظر العقل في الآيات الكونية والآيات القرآنية، ودلالاتِها:
إن التفكر في آيات الله التي بثها في الكون تثير العقل وتفكيره ليهتدي إلى الحق، أي إلى معرفة الحقائق الثابتة الموجودة، قال سبحانه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الحديد: 17]، فنبه بقوله: ﴿لعلكم تعقلون ﴾ على أن الآيات المبثوثة في الكون تثير العقل وتحركه نحو التفكير في الحقائق وإدراكها.
وقال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: 63]، فكان السؤال تنبيهاً إلى آيات كونية تدلُّ على الله.
فقد يتعرف عقل الإنسان على ربه بالنظر في هذا الكون مع التفكر والاعتبار: ﴿ ويتفكرون في خلق السموات والأرض﴾ فيؤديهم التفكر إلى الاستسلام للحق: ﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ﴾.
وقد يتعرف عقل الإنسان على ربه من خلال آيات القرآن الكريم، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور: 61]، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 219]، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103].
كما يعرِّف القرآن على صفات الله وأسمائه التي تذكر بها كثير من الآيات، كقوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: 23] .
ورغم أن الحقائق الكبرى يمكن معرفة أكثرها وأهمها بالعقل، فالله تعالى لم يتركنا إلى عقولنا وتقصيرنا في استعمالها، بل أنزل على لسان رسله تنبيهاً إليها وتذكيراً بها وتعليماً لها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴾ [يونس: 108]، فما على الإنسان إلا أن ينظر ليجد الحق في هذه الشريعة ويرى صحتها وصوابها، فإن اهتدى إليه فقد انتفع، وإن أضله وانحرف عنه فقد غوى وأخطأ الطريق السليم.
قال عز وجل : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 109]

وإلى مثل ذلك نبه قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ﴾ [الزُّمَر: 41].
وقد يتعرف الإنسان على نفسه ودنياه وسنن الله فيها من خلال الآيات، قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]، وقوله: ﴿فانظروا﴾ تنبيه لنا إلى استعمال عقولنا بالتفكر والنظر حتى يحصل الاعتبار والعلم من خلال ذلك، وقال عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 109].
والذي يرى آيات الله ويرفض دلالاتها يطمس الله على عقله فلا يهتدي إلى الحق، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل: 104].
ـ خضوع العقل للمعجزات:
يقول الله سبحانه: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73].
إن نظر الإنسان في المعجزات الخارقات للعادة التي أيَّد الله بها رسله عليهم الصلاة والسلام؛ توصله إلى أنهم حق مرسلون من عند الله، فما أجرى على أيديهم ما لا يستطيعه الخلق جميعاً إلا ليدلنا على أنهم مرسلون من عنده وصادقون فيما يقولون وفيما يخبروننا به عن الله، فالذي يلتفت إلى هذا فيعرف أن ما أُنزل من عند الله حق فهو ذو اللب والعقل والقلب: ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19].
فبدلاً من أن نبقى في غفلتنا أو ندعي عجز عقولنا عن الوصول إلى الحقائق أرسل الله الرسل لينبهونا إلى الحق ويخرجونا من غفلتنا: ﴿ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴾ [يس: 6].
ـ الرجوع إلى الوحي في معرفة الحقائق:
ما دام قد ثبت بالمعجزة صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يأتي بشيء من عنده، وإنما يأتي به من عند الله بالوحي، فلزم عقلاً أن يستسلم الإنسان لما يأتي من جهة الوحي، لأنه من عند الله، والله عز وجل أعلم منا وأعلم من جميع خلقه، فكيف نقدم علمنا وما استنبطته عقولنا على ما جاءنا من عند خالقنا.
والله تعالى ما أنزل القرآن ليصرفنا عن عقولنا، وإنما أنزله لعلنا نعقل ونهتدي به إلى الحق، ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]، فليس ما جاء به الوحي ـ من كتاب أو سنة ـ مخالفاً لما تصل إليه العقول، وإنما هو مثير للعقول ومنبه لها على الحقائق.
كما أن الوحي يدلُّ العقل على أشياء لا يمكن أن يصل إليها بفكره ونظره، كوصف الجنة والنار وبيان وجود الملائكة والجن، وغير ذلك ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 151]، ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [يونس: 20].
وما جاء به الوحي ولم تدركه العقول، فعلى العقول أن تسلم له، لأنه لا يتصور أن يكون خطأً لأنه من عند الله الخالق العليم الحكيم، فلا تجهد نفسك في التفكير والتوصل إلى الحقائق التي أبانها لك الوحي والشرع، بل خذها وأنت مرتاح مطمئن مستسلم مستيقن.
فلا تتساءل: لماذا جعل الله الصلوات خمساً، ولماذا جعل كل صلاة عدد ركعاتها كذا، ولماذا فرض الزكاة بمقدار كذا، ولماذا فرض الحجاب على النساء، ولماذا لم يأمر بتحرير كل العبيد، ولماذا أمر بالقتال على ما فيه من شدة، ولماذا أجاز للرجال زواج أربعة ولم يجز للمرأة إلا واحدة، ولماذا جعل الله ميراثاً للنساء، ولماذا جعل ميراث النساء نصف ما للرجال، ولماذا حرم الربا، وغير ذلك من التساؤلات الجاهلة، التي تحمل في طياتها الاعتراض على الله، واتهامه في تشريعاته،
من وصل إلى ما جاء به النبي وأدركه فقد اهتدى، ومن عمل به فقد زكى نفسه ، ومن لم يصل إليه فقد ضل

والتي ينسون معها أن الله مالك الجميع، فالحق له في أن يحكم فيهم ما شاء، وأكثر هذه التساؤلات وأمثالُها قد أجاب عنها العلماء وبينوا حكمتها، فهي لا تخفى على العقول، ولكن مع ذلك فواجب الإنسان ـ سواءٌ فَهِم الحكمة أم لا ـ أن يسلِّم لله فيما شرَّع وقدَّر.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي بشيء من عنده، وكل ما جاء به من عند الله، فما جاء به كلُّه حق وهداية، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، فمن وصل إلى ما جاء به النبي وأدركه فقد اهتدى، ومن عمل به فقد زكى نفسه، ومن لم يصل إليه فقد ضل.
ـ الاستفادة ممن أخذ عن الوحي وتعلم منه:
ومن أخذ عن الأنبياء وتبعهم وحمل علمهم من العلماء والدعاة والوعاظ الصادقين، فهم كذلك هداة إلى الحق، يقربون إليك ما يمكن أن يهتدي إليه العقل، قال تعالى: ﴿ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا ﴾ [الأنبياء: 73]، فالعاقل يستفيد منهم ويأخذ عنهم ما اهتدوا إليه من الحق، ويختصر على نفسه طريق الوصول إلى الحقائق، ويسألهم عن الحق فيدلونه، قال تعالى: ﴿الرحمن فاسأل به خبيراً ﴾، وقال سبحانه: ﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾.
وقد تأتيك هذه الحقائق بطلب أو بغير طلب منك، من خلال تعليم غيرك لك، أو من خلال تنبيه عالم أو داعية أو واعظ أو صديق، أو من خلال قراءة كِتاب.
ومن لم يهتد إلى الحق ولا اهتدى بهدى غيره فاتته الهداية قال تعالى: ﴿ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ﴾ [المائدة: 104]، تنبيها أنهم لا يعلمون بأنفسهم ولا يقتدون بعالم([9]).
ـ الرجوع إلى الله تعالى الذي يملك العقول ويقدِر على هدايتها:
إذا وصل الإنسان إلى معرفة الخالق من خلال العقل أو الوحي، وأدرك أن الله هو المالك لكل شيء وهو الذي بيده كل شيء، فعليه أن يتوجه بعقله إلى طلب الهداية منه، فهو يملك العقل وغيره ويملك هدايته، ورجوع العقل إلى الله وإنابته إليه من أعظم الأسباب التي تعطي الهداية، قال تعالى: ﴿ ويهدي إليه من أناب ﴾ [الرعد: 27]، ﴿ ويهدي إليه من ينيب ﴾، وقال تعالى في الحديث القدسي: « فاستهدوني أهدكم »([10])، فالله تكفل بهداية من يطلب الهداية منه، فواجبنا أن نرجع إلى الله طالبين منه أن يزكينا برحمته وفضله، قال تعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 21].
ومن صدق الطلب من الله أن نتخذ أسباب الهداية والتزكية التي أمرنا الله بها، فمن تتبع ما يرضي الله وبحث عنه وسعى إليه؛ كتب الله له الهداية وأخرجه من ظلمات الجهل إلى نور معرفة الحقائق والعلوم، قال تعالى: ﴿ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 16].
ـ تَنَبُّه العقلِ عند الأحداث والبلايا التي توقظ العقل:
جعل الله تعالى في هذا الكون وفي خلقنا من الأحداث والمواقف ما يوقظ العقل وينبهه، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾[غافر: 67].
ختم الله الآية بقوله ﴿ ولعكم تعقلون ﴾ تنبيهاً لنا أن في مراحل حياتنا وفي موتنا ما ينبه العقل، ويوقظ العاقل، ويلفت نظره إلى غيب يؤثر في عالم الشهادة، يمكن أن تدرك العقول أثره ووجوده.
والمواقف المنبهة لعقل الإنسان والموقظة له كثيرة، منها: موت قريب أو صديق، أو دفن ميت، أو حادث، أو مرض مفاجئ، أو خسارة تجارة، أو بلاء كبير، أو شيب الشعر، أو غير ذلك، ﴿ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءكم النذير ﴾.
ـ تنبه العقل من خلال الأثر الفطري في نفسه:
فالله تعالى خلق النفوس وفطرها على حب الحق والميل إلى العبادة، فمن لم تتأثر فطرته بالمؤثرات السلبية والعوامل الخارجية المفسدة؛ كان قريباً في نفسه من الحق، قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].
ـ إن استعمال العقل بالنظر والتفكير على وفق المنهج الصحيح الموافق للوحي، مع تجنب الأسباب والمؤثرات التي تحول دون الاستفادة من العقل والفكر؛ إن ذلك هو الذي يعطي علماً ومعرفة بالحقائق، التي تشكل في مجموعها القيم الكبرى التي هي أساس الثقافة الصحيحة، فهي تُكَوِّن القواعد الأساسية والضوابط في حياة الإنسان على كل مستوىً، سواء على مستوى باطن الإنسان أو ظاهره، قوله أو فعله، ما يخصه وما يعم المجتمع، ما يتعلق بالمؤمنين وما يتعلق بغيرهم، وفي تلك الحقائق ما يكوِّن النظرة الصحيحة إلى الدنيا، وما يدعو إلى استعمال الدنيا على وجه صحيح، ينشئُ حضارة ذات قيم وأخلاق وتقدم، وفي تلك الحقائق ما يكوِّن النظرة الصحيحة إلى الآخرة، ويدفع إلى الإعداد لها، والتأهل لنعيمها الدائم.

([1]) لذلك سيكثر الحديث عن الهداية في هذا المبحث، لأنها هي مظهر ونتيجة تزكية العقل والفكر.

([2]) هذه الوظائف كلها ذات علاقة بمعنى التعقل، وقد نبه الله تعالى إليها كثيراً.

([3]) وقد ذكرناه قبل قليل تحت عنوان أهم أسباب تفاوت المعلومات المعقولات من شخص إلى آخر.

([4]) بيَّن الراغب في مفرادات القرآن، ص 298 أن الضلال ضربان: ضلال في العلوم النظرية، كالضلال في معرفة الله ووحدانيته ومعرفة النبوة ونحوهما... وضلال في العلوم العملية، كالضلال في معرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات...

([5]) قال الراغب في مفردات القرآن، ص 538 : « وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه : الأول : الهداية التي عَمَّ بجنسها كل مكلف، من العقل والفطنة والمعارف الضرورية، التي أَعَمَّ منها كلَّ شيءٍ بقَدَرٍ فيه حسب احتماله، كما قال : ﴿ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ [طه: 50]. الثاني : الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله تعالى: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا ﴾ [الأنبياء: 73]. الثالث : التوفيق الذي يختص به من اهتدى، وهو المعني بقوله تعالى: ﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى ﴾ [محمد: 17]، وقوله : ﴿ ومن يؤمن بالله يهد قلبه ﴾ [التغابن: 11]، وقوله: ﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾ [يونس: 9]، وقوله: ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾ [العنكبوت: 69]، ﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ﴾ [مريم: 76]، ﴿فهدى الله الذين آمنوا ﴾ [البقرة: 213]، ﴿ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ [البقرة: 213]. الرابع : الهداية في الآخرة إلى الجنة، المعني بقوله: ﴿ سيهديهم ويصلح بالهم ﴾ [محمد: 5] ﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذا﴾ [الأعراف: 43].
وهذه الهدايات الأربع مترتبة، فإن من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية، بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله ».

([6]) قال الجرجاني في التعريفات: ص 319 ، رقم 1583: « الهداية: الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، وقد يقال: هي سلوك طريق يوصل إلى المطلوب ». وقال الراغب، مفردات القرآن، ص 538 : « الهداية دلالة بلطف ».

([7]) قال الراغب، مفردات القرآن، ص 540 : « وقوله عز وجل : ﴿ إنا هديناه السبيل ﴾ [الإنسان: 3] ﴿ وهديناه النجدين ﴾ [البلد: 10] ﴿وهديناهما الصراط المستقيم ﴾ [الصافات: 118] فذلك إشارة إلى ما عرف من طريق الخير والشر ( مجاز القرآن 2 / 299 ) وطريق الثواب والعقاب بالعقل والشرع ».

([8]) انظر: الراغب، مفردات القرآن، ص 540 .

([9]) انظر: الراغب، مفردات القرآن، ص 541، وقال: « ويقال المهتدي لمن يقتدي بعالم ».

([10]) أخرجه مسلم رقم 2577، جزء من حديث.