تمثال وخمسة أرواح

تفوح رائحة الدخان ، ومن البيوت تفوح رائحة المشاكل ، ومن الكنائس ، تفوح رائحة النفاق ، ومن الحانات تفوح رائحة القذارة ، أما من البـشر ،كانت تفوح رائحة الكـذب .

في القرن الثامن عشر عاش في إيطاليا وبالتحديد في البندقية شاب اسمه جاكلين ، تلك الحقبة ، التي كانت تفوح رائحة الغائط من الاماكن العامة ، ورائحة الجنس المحرم من الكنائس ، ورائحة البول من المقاهي والمطاعم ،كانت مكروهة بشكل لا يصدق .
جاكلين الذي أتم ربيعه التاسع عشر قبل اسبوعين ، لديه من الاخوة آيزاك وبيتراوس ، أما والداه ، فقد توفيا عندما كان عمره ثلاثة عشر عاما . كان جاكلين الاوسط بين أخويه ، وكان أخوه الاكبر ( أيزاك ) يعمل في حانة من حانات البندقية ، أما اخوه الاصغر ( بيتراوس ) فقد كان يجمع طوابع البريد ويبيعها بثمن زهيد ، أما جاكلين فـكان يعمل في محل صغير لبيع الاواني الخزفية وكان ثلاثتهم يتعاونون لمواجهة مصاعب الحياة الصعبة .

في يوم من الايام – وكباقي الايام – كان يجلس جاكلين في محله ينظف الأواني ويعيد ترتيبها لتأخذ شكلا يجذب الزبائن ، وفيما هو منهمك بعمله ، دخلت عليه فتاة طويلة القامة ، واثقة الخطوة ، شعرها لونه كسواد الليل ، يصل الى نهاية عمودها الفقري ، وعيناها كليلة مظلمة من غير ضوء قمر ، وشفتاها كدماء حيوان لا زال دمه ساخن .

الفتاة : مرحبا يا سيدي.
جاكيلين : أهلا يا آنستي.
الفتاة : هل أجد لديك يا سيدي بعضا من الصحون الخزفية ؟
جاكلين : أجـل آنستي ، لدي ولكن أمهليني دقيقة لأجلبها من المستودع .

ذهب جاكلين الى المستودع وقد تبعثر الكلام من شفتيه ، وكان إبتسامة السخرية على شفتي الفتاة ، وفي ذلك الوقت ، بينما كان جاكلين يبحث عن الصحون في المستودع ، بدأت تلك الفتاة بالتجوال في محله ، تتفقد الأواني والتماثيل الخزفية وتتأملها كنوع من الاعجاب .
عاد جاكلين من المستودع ببعض من الفرح لإيجاده للصحون ، فصاح : ها هي الصحون يا آنستي !
في ذلك الوقت ، كانت الفتاة تحمل تمثالا قديما يعود الى مئتي سنة ، ولما صاح جاكلين ، جفلت الفتاة ، ووقع التمثال منها ، حينها عم الصمت بينهما ثم صرخ جاكلين : أتدرين ما فـعلتِ ؟! ، لقد أوقعتي تمثالا يعود للقرن السادس عشــر! ، حينها ارتعشت الفتاة ، وبدا الكلام يتبعثر من شفتيها وقالت : أنا آسفة يا سيدي ، سأدفع ثمنه مهما كان ! .
قال جاكلين : هذا التمثال لا يقدر بثمن ، وفي الأساس هو ليس للبيع !
حينها بدأت الفتاة بالبكاء وهي تقول : إنني آسـفة ! ، حينها رق قلب جاكلين : وقال لها بعد ان خفت ملامح السخط عن وجهه ، وما فائدة الاسف الان ؟! .
استمرت الفتاة بالبكاء ، حينها لم يستطع جاكلين ان يتابع عتابة ، فسحب كرسيا من مكتبه واحضر كوبين من الشاي وجلسا وبدآ يتحدثان .
جاكلين : ما اسمك يا آنستي ؟
الفتآة ( ولم تجف الدمعة من عينيها ) : آرليت يا سيدي .
جاكلين : من أين انتِ ؟
آرليت : أصلي يا سيدي من روما ، ولكنني اقطن هنا مع أمّي العجوز على بعد شارعين من محلك يا سيدي.
جاكلين : نادني جاكلين وسأناديكي آرليت، من غير ألقاب ولكن لم تخبريني ، ماذا تعملين ؟
آرليت : حسـنا سيدي ،، أقصد جآكليـن ! ، انا اعمل في احدى الحانات في هذه المدينة !
جاكلين ( وهو يحاول تذكر اسم الحانة التي يعمل فيها اخيه ) : ولكن لماذا فتاة جميلة وبعمرك تعمل في حانة لا يأتيها الأ من هم قذرون ؟!
آرليت ( وقد خفضت رأسها ) : الظروف يا جاكلين ، تحتم علينا فعل اشياء لا نريد أن نفعلها !
جاكلين : افهم ما تعنيه يا آرليت ، لاني اعرف معنى الظروف !
آرليت : هل هذا محلك ؟
جاكلين : لا ، انه لرجل من اصحاب المال والنفوذ وإسمه آرين ، وأنا أعمل لديه ، ولهذا غضبت حين وقع التمثال ، ولا أدري الان ماذا سيحل بي !
آرليت : أنا آسفة جداً يا جاكلين ، ولكن بماذا أستطيع مساعدتك أو التعويض عنك !؟
جاكلين : لا يمكنك إنه رجل بيروقراطي ، ولا يرحم !!
آرليت : يا الهي ، لن استطيع النوم الليلة من ضميري وأرجو أن تسامحني !
جاكلين : لا تقلقي يا آرليت ، سأتدبر أمري وإني أسامحك من الآن !
عندما خرجت آرليت من محله ، دخل الخوف والحزن الى قلب جاكلين ، ولكن لم يكن يستطيع ان يفعل شيء ، فما كان منه إلا أن توجه لبيته مكسور الخاطر .
دخل جاكلين البيت ، ولم يكن في البيت إلا بيتراوس ، الذي كان قد بدأ بتحضير طعام العشاء .
جاكلين : كيف الحال يا بيترواس؟
بيترواس : بخير ، وأنت يا أخي ؟
جاكلين : بحال مزرية !
بيترواس : خير يا أخي ، ماذا حدث ؟!
جاكلين: جآءت فتاة الى محلي وقد كسرت إحدى التمثايل الباهظة من غير قصد ، ولم يعرف آرين بالذي حدث !
بيترواس : وماذا بعد ؟
جاكلين : ما تقصد ؟ لم يحدث شيء ، بدأت بالبكاء ، فشعرت بالحزن عليها ، فذهبت في حال سبيلها !
بيترواس : يا لك من ساذج ! ، أتركتها تذهب من دون دفعها لثمن للتمثال ، حقا لقد استطاعت ان تخدعك ببكائها يا ابلـه !

وفي هذه الأثناء ، دخل آيزك البيت ، وقبل ان يلقي السلام ، قاطعه اخوه جاكلين وسأله عن آرليت قائلا :
آيزك ، هل تعرف فتاة تعمل لديكم بالحانة إسمها ارليت ؟؟
آيزك : أجل أعرفها يا جاكلين ، ولكنها لا تعمل بحانتنا ، بل بالحانة التي بجانبنا ، ولكن من أين أنت تعرفها ؟؟
جاكلين : لقد أتت الى محلي اليوم ، وكسرت تمثالا قديماً ذو ثمن باهظ ! .
آيزك : وكيف حـدث ذلـك ؟؟
جاكلين : أعذرني يا آيزك ، لا اريد الكلام في الموضوع ، فإنّي مرهق ، وأريد أن أذهب للنوم ، !
بيترواس : وطعام العشاء يا أخي ؟؟
جاكلين : تناولو أنتم العشاء ، فأنا ليس لدي شهية للطعام أبدا !

توجه جاكلين إلى سريره مكسور الخاطر ومرهق ، والهموم على أكتافه وهو عاجز عن حملها ، وعندما وضع رأسه على وسادته ، غطّ في نوم عميق ، ولم يستفق الا في اليوم التالي على صوت بيترواس وهو يقول : إنها السّابعة يا جاكلين !.

خـرج جاكلين إلى عمله وهموم الدنيا على اكتافه مما سيحل به . فتح جاكلين محله ، وبدا بالعمل ، وبعد عدة ساعات جاء آرين ، وبدا بالتجوال بالمحل ، وفجأة سأل جاكلين :
أين تمثالي الخاص يا جاكلين ؟؟
بدأ جاكلين يتلعثم بالكلام ، ولم يعرف ما يقول ، حينها صرخ آرين قائلا : أيــن تمثااالي أيّها الغــبي !
حينها وقف جاكلين أمامه واخبره بكل ما حدث ، وقال له : ها أنا أمامك ، إفعل بي ما يحلو لك ، فأنا لا أملك ثمن التثمال !
صُعق أرين ، كالذي صُفع على وجهه ، ولكن لم يستطع ان يفعل شيء غير أنّه قال : أغرب عن وجهي أيّها الأحمق !


وبعدها بدقائق ، نادى آرين جاكلين وقال له :
ساسامحك يا جاكلين ، ولكن بشرط واحد !
جاكلين : وما هو الشرط يا آرين ؟؟
آرين : أن تحضر لي الفتاة التي كسرت التمثال وأتحدث معها !
جاكلين ( ظنا منه أنه يريد التفاهم معها ) : حسنا يا آرين ، سأحضرها في غضون ساعتين .
توجه جاكلين كالرياح إلى حانة أخيه آيزك ، وقصّ له ما حدث ، وقال له أريد أن أحضر الفتاة الآن ، لذلك خذني الى الحانة التي تعمل بها الآن .
وبالفعل ، توجه آيزك وجاكلين إلى حانة آرليت ، ودخلو عليها فوجودها تقف ساقية للمخمورين ، تراضي هذا ، وتسكب لهذا ، وتبتسم رغما عنها لهذا ، وتلمس يد هذا ، وتقبل هذا ، إرضاء للزبائن ومن أجل المال ، صُدم جاكلين ، وناداها بصوت عالي :
آرليــت !
آرليت ( في نفسها ) : إنهما جاكلين وآيزك ولكن ، ماذا يفعلان هنا معا ؟ ، وتوجهت نوحهم .
جاكلين : كيف حالك يا آرليت ؟
آرليت : بخير ، ما الذي جاء بك هنـآ ومن أين تعرف آيزك ؟؟
جاكلين : إن ايزك اخي ، وجئت هنا لأن آرين سيسامحني ولكنه اشترط رؤيتك !
آرليت : حسنا ، ولكن دعاني اسـتأذن ربّ عملي .
جاكلين : حسنا ولكن ارجوكِ بسرعة .
عآدت آرليت بسرعة وتوجّه ثلاثتهم إلى محل آرين ونظرات الخوف على وجه آيزك ، لعلمه بتصرفات آرين لأنه كان يعمل لديه في احدى محلاته .
دخلو المحل ، فوجدو آرين مشغول اليدين ، يدٌ بها كأس خمر ، ويدٌ يحتضن بها حسناوات البندقية !
جآكلين : آرين ، لقد وصلنا ، وها هي الفتاة التي أردت رؤيتها .
آرين ( باستحقار ) : اهلا اهلا بجاكلين وأخيه آيزك وفتاتنا الجميلة ،، ما إسمك يا عزيزتي ؟
آرليت ( بخوف وصوت منخفض ) : آرليت يا سيدي !
آرين : وماذا تعملين يا آرليت ؟؟
ارليت : سآقية يا سيدي .
آرين : ولماذا كسرتي تمثالي يا آرليت ؟!
آرليت ( والدمعة كادت تنسال من عينها) : لم اقصد ذلك يا سيدي ، وأنا آسفة جدا ، !
آرين : حسنا يا آرليت ، سأقبل أسفك ولكن بشرط واحد !
آرليت ( تمسح دمعتها ) : وما هو يا سيدي ؟!
آرين : ان تهب نفسك لي ليلة واحدة ، وسأنسى كل ما حدث !
عـمّ الصـمت في أرجاء المحـل ، وإستشـآط جاكلين غضبـآ وأراد ان يقتلع رأس آرين من محله ، ولكنّ موقفه لم يسمح بذلك ، بعدها بثواني حدثت المفـآجـأة ، حين قـالت ارليت :
أجل موافقة ، ولكن ما الذي سيضمن لي أنّك لن تتطلب مني هذا ثانية ؟!
آرين : لا أظن أنني أضمن لك هذا يا عزيزتي !
حيـنها غضب الجميع ولم يتحمل جاكلين ما حدث ، فقام بسحب خنجر معروض وزرعه في عنق آرين الذي لم يلبث إلّا أن سقط على الارض مصروعا ، وبعدها بدقائق معدوده ، بدأ حرس آرين وأتباعه باللحاق بأصدقائنا الثلاث ، حتى أمسكوهم ، ، وقرروا أن يعدموهم جميعا بمن فيهم أصدقائهم وأقرباهم ، وبعدها بيومين من التعذيب مع غياب العدالة والقانون ، علقت أربع مشانق عند ميناء البنقدقية ، شملت ، جاكلين ، ايزآك ، آرليت ، والصغير بيترواس ، ! وقبل أن يتم تنفيذ الحكم قآلت آرليت :
إنني آسفة على ما حدث بكم بسببي ، ولكني لم أكن أعلم أن تزهق ارواحكم بسبب ما فعلته !
جاكلين : النّدم لن ينفع الآن يا آرليت ، فبسبب تمثال لعين ، أًزهقت روحي وأرواح إخوتي كما تزهق أرواح البهائم عند الذّبح !
وبعدها تم تنفيذ الحكم ، وأعدم الثلاثة رجال والفتاة معهم ، وكانت هذه نهاية أربعة أشخاص في زمن قذر وفي حقبة قذرة ، لم يعرف فيها العدل والامان ولم يميز الحق عن الباطل ، فبسبب قطعة خزفية ، أزهقت أربعة انفس زكيّة ! .