الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله أجمعين، وبعد: فهذه مذكرة موجزة في الأدب والبلاغة نسأل الله أن ينفع بها.
الأدب
تعريف الأدب
قيمة الأدب في الحياة
موقف الإسلام من الأدب
العصور الأدبية وأبرز الفروق بينها
البلاغـــة
حكم تعلم علوم اللغة العربية، ومنها علم البلاغة
علاقة البلاغة بعلوم اللغة العربية
علاقة البلاغة بالعلوم الشرعية
علوم البلاغة وأبرز من ألّف فيها
طبيعة التحدي الوارد في القرآن الكريم
الفصاحة
البلاغة
علم المعاني
الإنشاء
علم البيان
علم البديع
......................
أولا :الأدب والنصوص:
*تاريخ الأدب (التعريف )
1.مفهوم الأدب
2.أنوعه
3.قيمته في الحياة
4.موقف الإسلام منه
5.العصور الأدبية وأبرز الفروق بينهما
*النصوص
1.خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
2.قصيدة مختارة
ثانياً:البلاغة
1.مفهوم البلاغة وأبوابها
2.فائدة البلاغة وصلتها بالعوم الشرعية
3.بيان صلة البلاغة بعلوم العربية الأخرى
4.عجز العرب عن الإتيان بمثل القران
5.عرض نماذج لإعجاز القران البلاغي :
(أ)المفردات (ب) التركيب (ج)الصورة .
6.دراسة موجزة للأبواب التالية من علم المعاني :
أ- الإنشاء والخبر ب- التقديم والتأخير ج- الإيجاز والإطناب
7.دراسة موجزة للأبواب التالية من علم البيان
أ- التشبيه ب- الاستعارة ج- الكناية
8. دراسة موجزة للأبواب التالية من علم البديع :
أ- التقابل ب- التورية ج- الجناس
المراجع :
1.الأدب في الجاهلية وصدر الإسلام، د .زكريا عبدالرحمن صيام، القاهرة ,دار النصر الإسلامية ,1978م.
2.الأدب وفنونه، د.عز الدين إسماعيل، القاهرة، دار الفكر العربي.
3.البلاغة الواضحة، لعلي الجارم .
4.البلاغة العربية في ثوبها الجديد (المعاني، والبيان، والبديع ) لبكري الشيخ أمين

..................
أولاً: الأدب
تعريف الأدب :
الأدب هو التعبير عن معنى من المعاني بأسلوب جميل مؤثر . أو هو التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية مؤثرة .
الأطوار التي مرت بها كلمة ( أدب ) عند العرب :
لقد مرت كلمة ( أدب ) في مدلولها اللغوي بأطوار متعددة ، منذ أن عرفت في العصر الجاهلي إلى أن استقرت في العصر العباسي ( عصر استقرار العلوم ) ؛ وذلك على النحو الآتي : - ففي العصر الجاهلي عرف العرب من معاني الأدب أنه الخلق المهذب ، والطبع القويم والمعاملة الكريمة للناس؛ نرى هذا في قول طرفة ابن العبد البكري (مفتخراً):
نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى
لا ترى الآدب منَّا يَنْتَقِرْ

والمأدَِبةُ هي : الطعام الذي يجتمع عليه القوم وهو من مكارم أخلاق العرب ، فصار كل ما يدعو إلى الفضائل ويرغّب فيها وينفّر من الرذائل ويباعد عنها أدباً ، وسميَ بذلك لأنه يأدِب صاحبه إلى محامد الخصال وينهاه عن قبائحها ؛ فاستقر في عرف العرب أن كل خلق حسن من قول أو فعل فهو أدب ، وضد ذلك قلة أدب أو سوء أدب .
ثم عرف الأدب في صدر الإسلام إضافة إلى التهذيب الخلقي عُرِف بمعنى الثقافة والتعليم من ذلك ما رُوِي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( إن هذا القرآن مأدبة الله فخذوا مأدبته ) رواه الدارمي وقوله ( ما نَحَل والدٌ ولده أفضل من أدب حسن ) رواه الترمذي وأحمد ، وقوله ( لَأَنْ يؤدب الرجلُ ولده خير من أن يتصدق بصاع ) رواه الترمذي وأحمد
* وظل معنى التهذيب والتثقيف مفهوماً من كلمة الأدب في العصر الأموي ؛ حتى أُطلق على طائفة من ممتازي الأساتذة اسم المؤدبين ؛ وهم القائمون بأمور التعليم على النحو المعروف في أيام بني أمية ، وهو التعليم بطريقة الرواية للشعر والأخبار وتعليمهما .
ومن ذلك قول معاوية رضي الله عنه : ( يجب على الرجل تأديب ولده أعلى مراتب الأدب ) وقال عبد الملك لمؤدب ولده ( وعلمهم الشعر يَمْجُدُوا ويَنْجُدوا ) أي يصيرون أماجد ويرتفع شأنهم في الأعين.
ثم تطور معنى الأدب في القرن الثاني والثالث فشمل مع الشعر والأخبار علوم اللغة وما تعلق بها ؛ فلما استقلت العلوم واحداً واحداً ضاق معنى الأدب وانحصر ؛ فاقتصر على الشعر وما يتصل به أو يفسره ، وأُضيف إليه النثر الفني والخطابة الرائعة وما يتصل بهما من تفسير للغريب أو شرح للمعاني .
هذا وقد تمايزت العلوم فاستقلت بشكل واضح في القرنين الرابع والخامس ، ثم أصبح الأدب يكاد ينحصر في الشعر والنثر كما هو الشأن في هذا العصر .
أنواع الأدب باختصار :
ينقسم الأدب إلى قسمين رئيسين:
الأول: الشعر وفنونه. الثاني : النثر وأنواعه.
فنون الشعر بإيجاز :
الشعر : هو القول الموزون المُقَفَّى المقصود إليه .
والشعر أقرب من النثر للتغني به ؛ فهو ألصق بالنفوس وأعلق بالقلوب ؛ ولهذا فإنه شديد الأثر بالغ الخطر .
أهم فنون الشعر هي:
1. الشعر التعليمي : وهو ما أنشئ لهدف تعليمي ؛ قصد منه نظم العلوم في قواعد شعرية لتكون أعلق بالذهن وأثبت للعلم .
الشعر الحِكَمِيّ : وهو خلاصة نظرات ناضجة نابعة من النفس والحياة ؛ لتقويم خلقٍ أو معالجة داءٍ في قالبٍ شعريّ ٍ مؤثر.
2. الشعر القصصي : وهو التعبير الفني بأسلوب شعري عن أعمال الناس وتصرفاتهم في الحياة .
أنواعه :
أ- الملحمة الشعرية ب- المسرحية الشعرية جـ- الأسطورة الشعرية
3. الشعر الغنائي :- وهو أقرب الأنواع لاسم الشعر ؛ لأنه نابع من نفس الشاعر صادر عن وجدانه منفعل بعاطفته .
ومن أنواع الشعر الغنائي :- الغزل والفخر والحماسة والمدح والهجاء ومنه أيضاً الشعر الوطني والوصفي والاجتماعي والسياسي والزهدي والجهادي.
أنواع النثر باختصار :
1- النثر القصصي 2- النثر غيرالقصصي.
أولاً: النثر القصصي / وهو الذي يصف أعمال الناس وتصرفاتهم بأِسلوب نثري مشرق.
ويندرج تحته أنواع : كالقصة والأقصوصة والمسرحية والرواية والمقامة والفكاهة والأمثال والسيرة الذاتية.
ثانياً: النثر غير القصصي / وهذا النوع لا يقل أثراً في الحياة عن النوع السابق، ومن أنواعه : الخطبة والوصية والرسالة والمقالة والحكمة والمحاضرة والحديث المسموع والمرئي والنقد الأدبي.
قيمة الأدب في الحياة:
للأدب وظائف عديدة ومجالات متعددة لا تقتصر على ناحية من نواحي الحياة ولا على جانب من جوانبها ، وبيان ذلك على النحو التالي :
أولاً : الأدب والعقيدة:
لقد خدم الأدب العقيدة منذ أن وجد الإنسان ، بل لقد نشأ الفن الأدبي في ظلال العقيدة . وما زالت هذه العلاقة وثيقة بينهما مرتبطة أشد الارتباط ، وقد نهض الأدب بخدمة الدين وسجل دعوته ورفع لواءه وبث شعائره بين البشر وشرح شرائعه ، وخير شاهدٍ على هذا هو الدين الإسلامي الحنيف ؛ فقد اعتمد على الأدب وعدّه عنصراً فعَّالاً ووظَّفه في مجالات متعددة ، فقام الخطباء في خطبهم ونهض الشعراء بقصائدهم كلٌ في مقامه يبين ويناضل ويعالج ويجادل وهدف الجميع هداية الناس إلى صراط الله المستقيم وتبصيرهم بدينهم القويم.
ثانياً : الأدب والمشاعر النفسية:
إن ميزة الأديب أنه يجد العبارة التي تعبّر عمّا في نفوسنا وتلبي عواطفنا وتحرك مشاعرنا ؛ فالأديب يصوِّر مشاعر الحزن والأشجان ويبرز تباريح الصدور من الأفراح والأتراح والحب والرضى أو الكراهية والسخط وغير ذلك من خبايا النفس البشرية ، وهذه وأمثالها ينبوع غزير ومعين لا ينضب من ينابيع الأدب . وعواطف الإنسان مجال واسع ؛ فالأديب يصول من خلالها ويجول ؛ فتارة يصور مشاعر الحب والخضوع والولاء لله وحده لا شريك له ، وتارة أخرى يبرز مشاعر الحب للنبي وصحابته الكرام والمؤمنين أجمعين ، وتارة ثالثة يحكي أحاسيس الأخوّة بين المسلمين في سرائهم وضرائهم.. وهكذا .
ثالثاً : الأدب ورحاب الكون :
للأدب صلة وثيقة بهذا الكون الفسيح ؛ فهو يستمد منه كثيراً من مقوماته وتعد مظاهره لبنة من لبناته فهذا الكون فسيح الأرجاء مترامي الأطراف فيه عناصر رائعة ومظاهر متآلفة يتناولها الأديب المسلم فيستشعر من عظمة هذه الأكوان الهائلة عظمة خالقها ومبدعها جل جلاله ؛ كما يحس بالألفة نحوها وأنه وإياها على دين واحد وهو الإسلام فهي مسلمة أمرها إلى الله عز وجل  وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً  الإسراء( آية : 44 ). فيشعر معها بروح المآخاة لا المعاداة ، والتوافق والترافق ، وليس الاختلاف والتشاقق.
رابعاً : الأدب والحياة الاجتماعية :
الأدب مرآة المجتمع يصور مشكلات هذا المجتمع وعلاقات بعضه مع بعض ويرتفع إلى مستواها عرضاً وتشخيصاً وعلاجاً وتحديدا بروح التفاعل والتفاؤل ، لا بروح البرود والتشاؤم.
خامساً : الأدب والقيم الخلقية :
يقال إن كل أدب ليست وراءه غاية خلقية يكون كسيحاً ضاراً . وأصدق الفضائل وأعلى الأخلاق ما دعا الله إليه، فإنه ما من خير إلا حث عليه، وما من شر إلا حذر منه، ووظيفة الأدب الرفيع الإرشاد إلى الفضائل وتزكيتها، والتحذير من الرذائل والتنفير منها ؛ وإذا فعل الأديب ذلك فكثر من سواد الخير وقلّل من صور الشر وأسهم في صلاح المجتمع وإصلاحه بالدعوة إلى القيم الخلقية العالية التي تحافظ على سلامة النوع الإنساني ، والتنفير من القيم الوضيعة الهابطة التي تفسد ولا تصلح ، وتهدم ولا تبني ؛ فإن ذلكم الفعل هو عين الدعوة إلى الأخلاق وتزكيتها في النفوس البشرية.
سادساً : الأدب والحياة السياسية :
للأدب وظيفة في مجال السياسة ؛ وقيمته تظهر في إسنادها وتثبيت دعائم الحق فيها وإيضاح إيجابياتها وعرض ثمارها على الجميع ، وبيان أن الأصلح والأوفق هو الائتلاف والاتحاد في ظل حاكم يسوس الأمور ؛ فيحقق المصالح ويدفع المفاسد وأن الشر كله في عكس ذلك .
سابعاً: الأدب والحياة الفكرية :
إن من أهداف الأدب تثقيف الأمة وتوعيتها بكل مفيد وجديد ، يبذل الأديب في هذا ما استطاع ، سالكاً كل طريق طارقاً كل وسيلة من صحافة أو إذاعة أو تلفاز أو قصص أو رواية أو شعر .... وهدفه تزويد الأمة بالمعارف النافعة والزاد الفكري النابع من تصوارت دينها وفي ضوء منهجها الإسلامي.
ثامناً : الأدب وتوسيع المدارك وزيادة التجارب :
الأديب المتميز هو الذي يعمق فهمنا للحياة ويزودنا بالتجارب المنوعة ، فيضيف إلى حياتنا أبعاداً جديدة ، وذلك بحسن عرض تجارب الآخرين وإبراز النماذج البشرية الفذة إبرازاً يقف العقل أمامها مبهوراً ، وعلى قدر قدرة الأديب في عرض هذه التجارب وتصوير تلك النماذج يكون التأثير والإثراء .
موقف الإسلام من الأدب:
إن الناظر في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله  يجد أنَّ جُلَّ ما ورد فيهما هو في شأن الشعر والشعراء ؛ ولذلك فسوف نتناول بعض ما ورد في شأن الشعر وهو أحد فنون الأدب،ثم ليُقَسْ غيره عليه وذلك على النحو الآتي:
أولاً: ما جاء عن الشعر والشعراء في القرآن الكريم:
لقد ورد ذكر الشعر في القرآن الكريم في معنيين اثنين:
أولهما: في معرض الذب عن المصطفى عليه الصلاة والسلام ونفي الشعر عَمَّا أوحاه الله إليه من قرآن وحكمة ، وهي تهمة أطلقها المشركون عليه عليه الصلاة والسلام دفعاً لدعوته وصداً لانتشارها ومن ذلك قوله تعالى بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ الأنبياء ( آية :5 ) وقوله تعالى وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ يس ( آية : 69 ) وقوله تعالى  وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ الصافات ( آية : 36 ).
ثانيهما: بيان حال شعراء الكفار وذكر نعوتهم ثم ذكر أوصاف شعراء المؤمنين وتحديد سماتهم وهذا ما جاء واضحاً في آخر سورة الشعراء وفيها يقول الله عز وجل  وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ الشعراء ( آية :224 - 226 ).
ومما جاء في تفسيرها في تفصيل إجمالي قول أبي السّعود فقد قال ما نصه وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ  استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم من أنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل بما مَرّ عن أحوالهم المضادة لأحواله ، والمعنى أن الشعراء يتبعهم – أي يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم – الغاوون الضالون عن السنن، الحائرون بما يأتون وما يذرون، لا يستمرون على وتيرة واحدة من الأفعال والأقوال والأحوال، لا غيرهم من أهل الرشد المهتدين على طريق الحق الثابتين عليه.
وقد كتب الشوكاني عن انتصار الشعراء من الظالمين كلاماً فيه شمول ودقة فقه وقد جاء فيه ما نصه : ( وانتصروا من بعد ما ظلموا كمن يهجو منهم من هجاه ، أو ينتصر لعالم أو فاضل كما كان يقع من شعراء النبي  فإنهم كانوا يهجون من يهجوه ويحمون عنه ويذبّون عن عرضه ، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم ، ويدخل في هذا من انتصر في شعره لأهل السُّنة وكافح أهل البدعة وزَيّف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم وهجو السنة المطهرة ، كما يقع ذلك كثيراً من شعراء الرافضة ونحوهم ، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة ، وفاعله من المجاهدين في سبيل الله المنتصرين لدينه ، القائمين بما أمر الله بالقيام به ).
هذا وقد أشار الإمام الشوكاني إلى أقسام الشعر من جهة الحِلِّ والحرمة قائلا : ( واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام : فقد يبلغ ما لا خير فيه إلى قسم الحرام ، وقد يبلغ ما فيه خيرٌ منه إلى قسم الواجب).
وأما ما ورد في قوله عز وجل  وما علمناه الشعر  فمعناه وما علمناه أن يَشْعُر أي ما جعلناه شاعراً. وهذا لا يمنع أن ينشد شيئاً من الشعر.
ثانياً : ما ورد عن رسول الله  في الشعر والشعراء :
إن مما ورد في ذم الشعر حديثاً صحيحاً ورد عند البخاري ومسلم ولفظه في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( بينا نحن نسير بالعرج إذ عرض شاعرٌ يُنشد فقال رسول الله  خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان لَـأَنْ يمتلئ جوف رجل ٍ قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً ).
وهذا الحديث من خير ما قيل في تأويله قول الإمام النووي: ( استدل بعض العلماء بهذا الحديث على كراهة الشعر مطلقاً قليله أو كثيره. وإن كان لا فحش فيه وتعلق بقوله  خذوا الشيطان . وقال العلماء: هو مباح ما لم يكن فيه فحش ونحوه) ثم قال: " وهو كلامٌ حسنه حسن وقبيحه قبيح ، وهذا هو الصواب ؛ فقد سمع النبي  الشعر واستنشده وأمر به حسان في هجاء المشركين وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار وغيرها، واستنشده الخلفاء وأئمة الصحابة وفضلاء السلف ، ولم ينكره أحد منهم على إطلاقة ، وإنما أنكروا المذموم منه وشعر الفحش ونحوه ، وأمَّا تسمية هذا الرجل الذي سمعه ينشد ( شيطاناً ) فلعله كان كافراً أو كان الشعر هو الغالب عليه أو كان شعره من المذموم ، وبالجملة فتسميته شيطاناً إنما هو في قضية عين تتطرق إليها الاحتمالات المذكورة وغيرها ولا عموم لها فلا يحتج به " . هذا وقد بوَّب البخاري لهذا الحديث باباً صار حكماً فقهياً ونصه ( باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن )، وقد وَجَّهَ ابن حجر العسقلاني تبويب البخاري المتقدم قائلاً ( ووجهه أن الذم إذا كان للامتلاء وهو الذي لا بقية لغيره معه دل على أن ما دون ذلك لا يدخله الذم ) . هذا وقد استمع النبي  للشعر وطلبه ، من ذلك ما رواه عمرو بن الشريد عن أبيه قال : ( ردفت رسول الله  يوماً فقال : هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء فقلت نعم فقال : هيهِ فأنشدته بيتاًً فقال : هيهِ ثم أنشدته بيتاً فقال : هيهِ حتى أنشدته مائة بيت ). وفي رواية قال ( استنشدني رسول الله  وذكر نحوه وزاد فقال : إن كاد ليسلم وفي رواية فلقد كاد يسلم في شعره ).
ومن فقه هذا الحديث وفوائده ما يلي :
أولاً: أن النبي  كان يعرف بعض شعراء زمانه ويميز بين أشعارهم فما حسن طلبه واستنشده وما قبح تركه وأعرض عنه كما فعل مع أشعار أمية التي كثر فيها ذكر الله والثناء عليه وذكر الآخرة .
ثانياً: عناية بعض الصحابة بالشعر وحفظهم له وإقرار الرسول  لذلك وتأييدهم عليه؛ باستنشاده منهم .
ثالثاً: أن الذي يقدم الشعر ما فيه من معانٍ حسنة مستطابة بغض النظر عن ناظمه فقد يكون كافراً كحال أمية الذي أدرك الإسلام ومات على الكفر ومع ذلك فقد استنشد الرسول من أشعاره ؛ لأن وِزْر الكفر يعود على صاحبه كما قال عز وجل  وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى  الأنعام : ( آية : 164 ) .
وأما الحق والحكمة من الأقوال والأعمال فإنها ضالة المؤمن يحرص عليها فإذا صدرت عن مسلم فإن ذلك نورٌ على نور ؛ وصاحبها عليها مأجور ، وإذا صدرت من غيره فتطلب ويستفاد منها قولاً أو فعلاً أو صناعة وما في حكم ذلك مما هو مفيد ونافع.
هذا وقد اتخذ الرسول من الشعر سلاحاً يدافع به عن الإسلام والمسلمين ويرمي به الشرك والمشركين فقد صح عنه قوله ( اهجوا قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق النَّبل ).
ومن كل ما تقدم نلمح سمة من سمات الإسلام في معاملة الملكات البشرية الأدبية وغيرها ؛ فإنه لا يكبتها ولا يحارب أهلها وإنما يحتضنها ؛ فيربيها على عقيدته ويؤدبها ثم يبعثها بعد ذلك لتصيب غرضها في توازن ؛ لتحقّق غايتها في اتزان بعد أن يأمن طيشان سهامها أو تجاوز حدودها ، ويطمئن على تحقيق مقاصدها العالية وإصابة أغراضها السامية.
العصور الأدبية وأبرز الفروق بينها:
اعتاد مؤرخو الأدب العربي أن يقسموا الأدب إلى عصور عدة ، وذلك بحسب الأحداث السياسية على الأغلب ؛ وأهمهما بإيجاز ما يلي:
أولاً : العصر الجاهلي :
ويحّدده كثير من مؤرخي الأدب بنحو قرنٍ ونصف قبل الإسلام ، وقد كان العرب أمة فطرية تعيش في أنحاء الجزيرة العربية على الكلأ ومواقع القطر ويحركهم الغيث لاعتمادهم على الرعي ، ومنهم من اشتغل بالتجارة كقريش بمكة الذين اشتهروا برحلتي الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام . هذا وقد كانت المُثُل القبلية تحرك القبائل العربية وتؤثر فيها وأبرزها الولاء للقبيلة والفروسية والمروءة ، ومن هذه المُثُل انطلق الشعر الجاهلي ودارت عليها كثير من معانيه ، وقد كان اعتناء العرب بالشعراء فائقاً ؛ فإذا نبغ في القبيلة شاعر أتت القبائل فهنأتها ، وصنعت الأطعمة ، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر ؛ كما يصنعن في الأعراس ، وتباشر الرجال والولدان ؛ لأنه حماية ٌ لأعراضهم وذبٌ عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة بذكرهم ، وكانوا لا يهنؤون إلا بغلامٍ يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج.
وقد برز فيهم شعراء خلد الأدب ذكرهم ؛ من أمثال امرئ القيس والنابغة الذّبياني وزهير بن أبي سلمى والأعشى وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة اليشكري وعنترة بن شداد وحاتم الطائي وطرفة بن العبد وغيرهم .
ثانياً: عصر صدر الإسلام:
ويمتد من السنة الثانية عشرة قبل الهجرة إلى سنة إحدى وأربعين هجرية وهو عصر ميلاد الإسلام ؛ الذي أحدث انقلاباً كبيراً في حياة العرب وغيرهم ؛ فهدم التصورات الخاطئة ، وأقام مقامها تصورات صحيحة كاملة شاملة للكون والحياة والإنسان ، وقد أثر ذلك التصور في كل شيء وبان أثره بشكل خاص في الأدب وتغيرت بناءً على ذلك أغراضه وتطورت ؛ لتأثرها ببيان القرآن العظيم الذي بهر العرب بنصاعة أسلوبه وفصاحة كلماته وبلاغة معانيه إلى حد الإعجاز كما ظهر في هذا العصر البيان النبوي الشريف ؛ الذي تأثر بالقرآن ؛ فانطبع أسلوب النبي  ببيان القرآن وتأثر بأنماطه ؛ فظهر فيه جوامع الكلم وأنواع الحكمة وسائر صور الفصاحة والبيان ، فحل في المرتبة الثانية بعد بلاغة القرآن الكريم ، فكان لهذا وذاك أثر بالغٌ على فصاحة الخطباء وبلاغة الشعراء وأحاديث القصَّاص ؛ فانصرف الشعراء عن الأغراض التي يأباها الإسلام كالغزل الفاحش والهجاء المقذع إلى أغراضٍ أعلى قيمة وأرفع مكانةً كمعاني الجهاد وأنماط الدعوة إلى الله تعالى ، وأشعار الحكمة وركّز الخطباء على التفقيه والوعظ والإرشاد وأساليب القصص النافعة ، وكان من أبرز خطباء ذلك العصر المتميز المصطفى عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه الأربعة الراشدون من بعده وكثير من الصحابة رضي الله عنهم ومن أبرز الشعراء شاعر الإسلام حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير وعبد الله بن جحش رضي الله عنهم أجمعين.
ثالثاً : العصر الأموي من ( 41-132هـ ):
العصر الأموي هو امتداد لعصر صدر الإسلام ، وهو يجمع كثيراً من سمات ذلك العصر ، ولكن أدبه يختلف في مراحله ؛ فكان في مبدئه قريباً من عصر صدر الإسلام ، ثم صار في وسطه يجمع بين سمات هذا العصر والعصر الجاهلي ، وفي ثلثه الأخير يعود إلى المعاني والأغراض التي كان بعضها سائداً في العصر الجاهلي.
أما حال الأدب في هذا العصر فكان متأثراً بمعاني الإسلام ، كما أنه بدأ يتأثر بآداب الأمم والحضارات التي دخلت شعوبها في الإسلام بعد الفتوحات الإسلامية. وأهم خصائصه تبدو في ازدهار الخطابة ؛ حتى قيل : إن هذا العصر هو عصر الخطابة العربية ، ومن أبرز خطبائه: الخلفاء الأمويون والحجاج بن يوسف الثقفي ، وزياد بن أبيه وعبد الله بن الزبير وقطري بن الفجاءة .
وفي هذا العصر نشأت المدرسة الأولى للكتابة على يد : عبد الحميد الكاتب، كما كثرت الرسائل الإخوانية والتوقيعات القصيرة التي يكتبها الخلفاء والولاة . ومن أشهر الشعراء في هذا العصر جرير والفرزدق والأخطل وعمر ابن أبي ربيعة ومن أشهر الوعاظ الحسن البصري والشعبي وابن سيرين وغيرهم.
رابعاً : العصر العباسي ( 132-656هـ ) :
العصر العباسي يعد أزهى العصور الأدبية وذروة المجد الحضاري والثقافي والفني ، وقد ازدهرت فيه الحياة ، واتسعت المعارف ودُوّنت الكتب ، ووضعت العلوم الدينية واللسانية و تعددت الثقافات وامتزجت الشعوب والأمم ، وكثر العلماء والأدباء على تعدد مشاربهم واختلاف مذاهبهم ؛ فتكوَّن على إثر ذلك نتاج علمي رائع ترك أثراً فكرياً عظيماً.
أما تأثر الأدب بسمات هذا العصر فقد كان بيِّناً ظاهراً ؛ فاستفاد من تلك العلوم وأثَّرت فيه تلك المعارف ، وبان فيه أثر الحضارات وألوان الثقافات ، وكان النثر الفني أكثر إزهاراً ونمواً حتى قيل : إن هذا العصر هو عصر النثر الفني ؛ ففيه ظهرت مدرستا الجاحظ والبديع النثريتان ، كما أن الرسائل قد نمت وتعددت أغراضها ، وأما حظ الشعر فقد كان وافراً ؛ بل إن ثورة على الشعر القديم قد ظهرت على يد طائفة من الشعراء ؛ من أمثال أبي تمام وأبي نواس وبشار ابن برد ومسلم بن الوليد ، وصار الشعر يُعنى بالبديع ويحفل بالمنطق والفلسفة ويركز على ترابط أجزاء القصيدة ، وظهر ضرب من الشعر يسمى : الشعر التعليمي والشعر الحِكَمِيّ وشعر الطرديات والزهديات وبدا نوع من المجون والخلاعة عند بعض الشعراء كأبي نواس وبشار بن برد.
وظهر الشعر الوصفي الخاص بوصف الطبيعة ومناظرها الخلابة عند طائفة من الشعراء كابن الرّومي والبحتري وأبي بكر الصنوبري وقد خُدِمَت الحياة الاجتماعية والأخلاقية بأدب القصص والمواعظ ومن أبرز القصاص : الأوزاعي والمفضّل الضبي والفضيل بن عياض ، وهشام الكلبي وغيرهم.
خامساً : الأدب الأندلسي : (92-897هـ) :
الأندلس هو فردوس الدولة الإسلامية ؛ لأنها ذات مظاهر طبيعية خلابة ، وقد كانت وريثة ثقافات قديمة ؛ فلما فتحها المسلمون واستقروا فيها أثرَّ فيهم ذلك .
ويتسّم الأدب الأندلسي بالعناية الفائقة بوصف الطبيعة، والتفنن في ذلك حتى وجد عندهم ما يسمى " بالنَّورِيَّات " ومن خصائص هذا الأدب بروز نظم الفنون والعلوم ، فهذا ابن عبد ربه ينظم في العروض والتاريخ ، وذلك الشاطبي ينظم في القراءات ورسم المصحف ، وأبو طالب عبد الجبار ولسان الدين بن الخطيب ينظمان في التاريخ والسِّيَر ، وابن مالك ينظم في النحو والصرف.
ومن سمات هذا الأدب البكاء المُرّ على الديار ، والرثاء الحار للممالك البائدة ؛ إضافة إلى الأغراض الأخرى كالفخر والهجاء والغزل والنسب وغيرها . ومن أشهر شعراء الأندلس ابن عبد ربه وابن هانئ وابن زيدون وابن حمديس وابن خفاجة ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم .
سادساً : العصور الوسطى (656 هـ - 1213هـ):
وقد جعلها بعضهم عهدين:
العهد المغولي ( 656هـ-922هـ ) ، والعهد العثماني ( 922-1213هـ ) ، ولا يكاد يوجد بينهما فرق؛ إلا أنَّ الثاني نهاية الأول، والإبداع الأدبي فيه أقل من سابقه.
وتعد هذه العصور من أضعف العصور الإسلامية أدبياً وفكرياً وثقافياً ودينياً واجتماعياً ، وقد اتسمت بأنها عصور جمع وتسجيل وترتيب للمنتج العلمي والأدبي ؛ ولم تكن عصور إبداع وابتكار ؛ ولعل مردّ ذلك راجع إلى أنّ المغول والنصارى عندما حاولوا القضاء على التراث الإسلامي ؛ العلمي والأدبي شعر كثير من العلماء بواجب تسجيل تلك المعارف وحفظها ؛ فألّفوا الكتب الجامعة و الموسوعات العلمية ، والمعجمات اللغوية؛ فحفظت كثيراً من التراث الإسلامي بفنونه المتعددة ، ومن تلك الكتب الجامعة نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري ، وخزانة الأدب للبغدادي ، ولسان العرب لابن منظور .
كما وجد علماء موسوعيون بلغت مؤلفاتهم المئات ، فقد وصلت كتب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى قريب من خمسمائة كتاب ، وألف السيوطي قرابة ستمائة كتاب .
ومن خصائص هذه العصور عناية الأدباء بالتقليد والسجع ، والإسراف في التنمق اللفظي ، وإظهار البراعة في استعمال الألفاظ والأساليب ، وعنايتهم بالألقاب المفخّمة .
ومن الأنواع الأدبية في هذا العصر المقامات والمدائح النبوية مستقلة حيناً ومقرونة بالبلاغة حيناً آخر ، كما شاع الأدب الصّوفي والزهديات ووصف الطيور والأزهار والحيوانات وإجراء الكلام على ألسنتها .
سابعاً : العصر الحديث من ( 1213هـ إلى وقتنا الحاضر):
لقد برزت في أوائل هذا العصر عوامل كثيرة مؤثرة ، وأهمها الاستعمار الذي استعمر معظم الأقطار العربية والإسلامية ، فجعل يمتص دماء أهلها ويستغل خيراتها ، ويهين شعوبها ، وكان من أهم أهدافه زحزحة المسلمين عن دينهم ، وانتهاب خيراتهم ، وأول ما فعل الاستعمار إدخال الطباعة في الشرق ، ومن أهدافه نفث سمومه من خلال ما يطبع من صحف ومنشورات تزيّن ما لدى الغرب من الأفكار وتثير الشبهات حول الإسلام والمسلمين ، ثم كثرت الإرساليات التبشيرية والمدارس التابعة للاستعمار في بعض البلدان ، إلا أن هناك عوامل إيجابية تحرّكت للتصدي لتلك الهجمات ومقاومة هذه التوجهات ، منها ما كان مستقلاً أصلاً عن حركة الاستعمار كحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – الدعوية الإصلاحية عندما تعاهد مع الإمام محمد بن سعود – رحمه الله – على قيام الدعوة والدولة في قلب الجزيرة العربية عام 1157هـ ؛ فقد كان لهذه الحركة الإصلاحية أثرٌ إيجابي بالغ على الحياة الدينية والاجتماعية و السياسية والفكرية والعلمية والأدبية في نجد في بداية الأمر ثم في سائر أنحاء الجزيرة العربية ، بل وفي خارجها.
وقد تأثر الأدب بعوامل النهضة المتقدمة ومرّ بأطوار عدة ؛ فكان في بداية الأمر يتبع المنهج التقليدي المحافظ ؛ من أمثال البارودي والمنفلوطي وشوقي وحافظ وأحمد محرم ومصطفى صادق الرافعي ، ثم كان هناك المجددون الذين يدعون إلى التوجه نحو الأدب الغربي ؛ من أمثال قاسم أمين وطه حسين وجل شعراء المهجر ، وهناك مدرسة نهجت نهج التجديد المعتدل ؛ دعت إلى دراسة الأدب العربي القديم والاستفادة منه ولم تهمل الأدب العالمي ، بل نظرت إليه ودعت إلى الإفادة منه ، وأبرز هؤلاء المازني وأحمد أمين والعقاد والزيات.
هذا وقد تطورت الفنون الأدبية في هذا العصر ، وتنوعت أنماطها ، كالقصة والأقصوصة والمقالة الفكرية والأدبية والروايات والحكايات والخطابة والشعر القصصي والتمثيلي والاجتماعي والسياسي والوصفي ؛ إضافة إلى الأغراض التقليدية القديمة . وقد اتسم الأدب في هذا العصر بوحدة الموضوع والترتيب والتنسيق.
ولا يخفى أنه قد تكالبت على الأمة الإسلامية في هذا العصر محن متعددة وصنوف من الابتلاءات متنوّعة مما أثرَّ على الأدباء من شعراء وكتّاب وصار كل إناءٍ بما فيه ينضح ، وأصبح كل شاعر بقيثارة الشعر يصدح وبدا ذلك جلياً واضحاً في الصحف والمجلات والأندية والإذاعات وفي كثير من القنوات الفضائية بل ومواقع شبكة المعلومات المتعددة ؛ مما لا تخفى مضامينه على كل قارئ أو متابع ؛ فيه غثّ وسمين ، وباطل وحق ، وضار ونافع.
وما زال الأمر قائماً نسأل الله تعالى أن يكشف الغّمة وأن يوحّد الأمة، وأن يجعل العاقبة حميدة للإسلام وأهله ؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
*
*
*
ثانياً / البلاغـــة
حكم تعلم علوم اللغة العربية، ومنها علم البلاغة:
اللغة العربية هي أكمل اللغات وأشرفها وأجملها وأدقها ، ويكفيها فخراً وذكراً أنها لغة القرآن الكريم ولسان سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام ؛ فقد قال سبحانه وتعالى {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } الزخرف(آية : 44 ). وقال سبحانه وتعالى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلسَان عَرَبِيّ مُّبِين} الشعراء ( آية : 193-195 )، ولقد كان السلف ينظرون إليها على أنها من الدين ؛ فقد قال أبو بكر : " لَتَعلُّم إعراب القرآن أحب إليّ من تعلم حروفه " وقال عمر  : "تعلموا العربية فإنها من دينكم " .
وقال أبيّ بن كعب  : " تعلموا العربية كما تتعلمون حفظ القرآن ".
وكان السلف يرون أن حفظ العربية والعناية بها من تمام حفظ الإسلام والعناية به ؛ لكونها وسيلة لفهم القرآن وفقه السنة ؛ ومعلوم أن فهمهما والعمل بأحكامهما واجب بالجملة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ؛ ولهذا صار حكمها واجباً على سبيل العموم ، فإذا تصدى للعلم بها وتعليمها من يكفي سقط الإثم عن البقية وما عدا ذلك فوجوبها على سبيل الكفاية، وإلاّ فإنه ينال الأمة من الإثم على قدر قدرتهم وتقصيرهم ؛ وأما الوجوب العيني: فإنه خاص بنطق العربية في بعض الشعائر التعبدية وذلك كقراءة القرآن في الصلاة ، وكالتشهد والتكبير والتسبيح والأذان ونحوه فأداء ذلك بالعربية واجب على قدر الطاقة ؛ إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
علاقة البلاغة بعلوم اللغة العربية:
علوم اللغة العربية وحدة متكاملة ، بعضها مكمل للآخر فلا تكاد تتجزأ ، ولكن طبيعة الدراسات الحديثة المبنية على التخصص الدقيق اقتضت إفراد كل علم منها بدراسة مستقلة بحسب طبيعته وبما يعتني به .
فعلم الصرف / يُعْنى بصحة الكلمة المفردة وسلامة بنائها لغوياً ، وميزانها الصرفي ؛ ولهذا سمي صرفا.
وعلم النحو / يُعْنى ببناء الجملة العربية على نحو ما أُثر عن العرب في طريقة كلامهم ؛ ولهذا سمي نحوا .
وعلم البلاغة / مكمّل لعلم النحو زائد عليه ؛ فهو يُعْنى بتعلّم أصول لسان العرب، ومعرفة طرائقهم في التعبير والوقوف على أساليبهم البيانية المؤثرة ؛ وذلك كالعناية بمسائل الفصاحة وما يتعلق بها ، ومعرفة كيفية بناء الجمل من خلال مراعاة المقامات ، وفقه أسرار التقديم والتأخير والإظهار والإضمار والتعريف والتنكير والتعليل لتلك الأساليب وغير ذلك مما لا تدرس في علم النحو مقاماته وتعليلاته .
وأعظم ما سعى فيه هذا العلم وأقبل عليه واعتنى به هو محاولة الكشف عن وجوه الإعجاز البيانية في القرآن الكريم ، بل إن هذا هو سبب نشأة هذا العلم والتدوين فيه .
وأما الأدب فإنه نتاج ما يصدر من إقامة علم النحو واستثمار أساليب البلاغة ؛ وذلك بتحليل النصوص من خلال دلالات المعاني وصور البيان وفنون البديع ، والتأريخ لفنون الأدب ودراسة ظواهره ورجاله وأعصره.
علاقة البلاغة بالعلوم الشرعية
تتضح العلاقة بين البلاغة والعلوم الشريعة وفق التفصيل الآتي :
أولاً : البلاغة والتفسير:
ليس من المبالغة القول إن علم التفسير قائم على إتقان علوم البلاغة والتمكن منها ؛ وبهذا قال أهل النَّظر ؛ فقد قال بدر الدين الزركشي : ( علم البيان والبديع أعظم أركان المفسر ؛ فإنه لا بد من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز من الحقيقة والمجاز وتأليف النظم. ) ، وقال السيوطي : ( لا يعرف بلاغة القرآن وأساليبه إلا من أتقن علمي المعاني والبيان ).
ثانياً : البلاغة والحديث النبوي :
إن دارس الحديث الشريف والمختص في علومه من أولى الناس بدراسة علم البلاغة والإحاطة بأساليبها ؛ لأن هذا العلم يأخذ بيد الدارس إلى التعّمق في فهم دلالات البيان النبوي ، والتعرف على خصائصه البلاغية ، ومن ثم يتسنى له استنباط الأحكام الشرعية وفقه التوجيهات النبوية والوقوف على المقاصدالشرعية من دلالات النص النبوي .
ثالثاً : البلاغة والفقه :
مما ذكره العلماء أن من شروط المجتهد أن يكون ماهراً في العربية ذا مُكْنة في أساليبها عالماً بوجوه المعاني واقفاً على دقائق الأساليب وما تتخرج عليه هذه الأساليب ؛ كدلالات الخبر وصور الإنشاء ومقتضيات الأمر والنهي ؛ ليتسنى له بعد ذلك الاستنباط الحسن والقياس الصحيح وإلحاق الفروع بالأصول ، وترتيب الأحكام الشرعية عليها.
رابعاً : البلاغة وأصول الفقه:
لا تجد في علمين من التشابه والتداخل مثل ما تجده بين البلاغة وأصول الفقه؛ فكثير من المباحث التي يتحدث فيها الأصوليون موجود في علم البلاغة ؛ كالحقيقة والمجاز والكناية والتعريض والمعاني المجازية للحروف والصيغ ؛ ولهذا قيل إن أغلب مَنْ مَهَر في علم الأصول كان ممن تمكّن في البلاغة كالفخر الرازي والبدر الزركشي والسعد التفتزاني .

علوم البلاغة وأبرز من ألّف فيها
تنحصر علوم البلاغة في ثلاثة علوم ؛ هي :
1. علم المعاني 2. علم البيان 3. علم البديع.
وأما أبرز رجالها فمن أشهرهم : عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة 471هـ في القرن الخامس الهجري وله كتابان مشهوران في البلاغة :
1- أسرار البلاغة 2- دلائل الإعجاز.
ومنهم : أبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626هـ ، وله كتاب [ مفتاح العلوم ] وهو أشهر ما أُلّف في زمانه في البلاغة والذي يتعلق بالبلاغة هو القسم الثالث منه، ومنهم الخطيب جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني المتوفى سنة 739هـ وقد ألف كتابيه المشهورين:
1- تلخيص المفتاح. 2- الإيضاح في علوم البلاغة .
ومن المعاصرين أحمد مصطفى المراغي ألف كتاب ( علوم البلاغة ) والسيد أحمد الهاشمي ألف كتاب ( جواهر البلاغة ) والدكتور فضل حسن عباس ألف كتاب ( البلاغة فنونها وأفنانها ) وهو من أوسع الكتب المعاصرة ومن أيسرها تناولاً وعرضاً.
س/ ما طبيعة التحدي الوارد في القرآن الكريم ؟ ولمن ؟
لقد أنزل الله عز وجل القرآن العظيم على قلب سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام بلسان عربي مبين ، وجعله حجة نبيه البيانية على الناس أجمعين إلى يوم الدين ، وتحدّى الله عز وجل العرب وهم أهلُ اللّسانِِ والفصاحة أن يأتوا بمثله أو بسورة مثله ؛ فقال جل وعز { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }البقرة(آية:23). ثم أخبر بعجزهم، وقطع به قائلاً:{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}البقرة(آية:24). بل أبان الله عز وجل أن التحدي معجزٌ للثقلين كافة فقال: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} الإسراء ( آية : 88 ). فكتاب الله تعالى معجزٌ للخلق قاطبة ببديع نظمه ، وحسن تأليفه ، وجمال إشراقه ، وقوة تأثيره ، وإحكام آيه ، كما أنه معجزٌ بحقيقته ومجازه ، وجمله ومفرداته ، وخبره وإنشائه ، وتقديمه وتأخيره ، وإطلاقه وتقييده ، وقصره والتفاته ،وفصله ووصله ، وإيجازه وإطنابه وسائر فنون بيانه وبديعه.
نموذج لإعجاز القرآن البلاغي :إنَّ القرآن الكريم كله معجز كما ذكرنا واقعاً وإخباراً من الله عز وجل، وبرهان ذلك هو آي الذكر الحكيم منفردة أومجتمعة ، ولعلنا نتناول آية لنبين بعض وجوه الإعجاز فيها ، وهي قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} الصف ( آية : 4 ) .وبيان ذلك في النقاط الآتية في صورة أسئلة وأجوبة ؛ على النحو التالي :
1. ما سر افتتاح الآية بحرف التوكيد ( إنَّ ) ؟
- لعل تصدير الآية بحرف التوكيد الواقع على الجملة الخبرية زيادة تقرير لما يحبه الله عز وجل ويرضاه وتوكيد لنوعه ، وحفز إليه وترغيب فيه وفي ذلك إثبات لصفة المحبة لله عز وجل على الوجه اللائق بجلاله وعظمته ، وتنبيه لطالبيها .
2. لماذا جاء اسم الموصول بصيغة الجمع ( الذين ) دون الإفراد ؟
لعل من أغراض ذلك تنبيه المؤمنين إلى أن قتال العدو يفتقر إلى الاجتماع على إمام واحد ، وقائد واحد يسيرون خلفه ويأتمرون بأمره ابتداءً وانتهاءً ، وفي ذلك إيماء إلى أن الفُرْقَة شرّ والافتراق خطر ، كما أن الانشقاق ، أو إعلان الحرب ، على أي عدو كان دون إذن الإمام داعٍ من دواعي الهزيمة ، ونوع من أنواع استعداء الأعداء على المسلمين دولاً كانوا أو جماعات دون استعداد لذلك ؛ مما يوقع الفساد والهلاك بالمسلمين أو ببعضهم ؛ كما هو مشاهد في بعض البقاع الإسلامية.
3. لماذا وقع فعل المقاتلة بصيغة المضارع ( يقاتلون ) ؟
إن الفعل المضارع في اللغة العربية يدل على استحضار الصورة كما يدل على تجدد الفعل وحدوثه، وفي ذلك إشعار بأنّ من صفات هؤلاء أنهم يفعلون القتال ويتقدمون إليه كلما طلب منهم، وفور قيام دواعيه، مرة تلو أخرى، وليس مرّة ثم تنقضي.
4. أين مفعول ( يقاتلون ) ؟ وما الغرض البلاغي من حذفه ؟
إنّ مفعول ( يقاتلون ) محذوف ، والغرض البلاغي من حذفه هو إرادة العموم والشمول ، فليس القتال مقصوراً على عدوّ معيّن بل يقاتلون كلَّ من ظهرت المصلحة الشرعية في قتاله ، لدفع فتنته أو كَفّ ضرره أو القضاء على فساده ، ولو كان ذلك المُقَاتَلُ مسلماً ، كما لو كانوا بغاةً أو خوارجَ ، او قاطعي سبيل ، أو مَنْ في حكمهم والذي يقرر أمر قتالهم هو ولي أمر المسلمين ؛ بناءً على مشورة أهل الحَلّ والعقد من العلماء المعتبرين.
5. أين متعلق الجار المجرور في قوله ( في سبيله ) ؟ وما فائدته البلاغية ؟
الجار والمجرور متعلقان بالفعل ( يقاتلون ) ، ومعنى ذلك أنّ فعل القتال مقيَّد بكونه في سبيل الله ؛ فالجار والمجرور حَرَّرَا نية المُقَاتِل ؛ وهي أن تكون لله وفي سبيله ، فإذا شابها شيء من حظوظ الدنيا ، أو غلب عليها الرياء ، أو داخلتها مقاصد أخرى ؛ فحري بصاحبها ألا يكون ممن ينال محبة الله ، بل أحرى به أن يُحَاسَب على انحراف نيّته وسوء مقصده يوم القيامة.
6. ما نوع الإضافة المتمثلة في قوله تعالى ( سبيله ) ؟ وما غرضها البلاغي ؟
إضافة السبيل إلى الضمير العائد على لفظ الجلالة المتقدم هي إضافة تشريف ؛ فلا أسمى ولا أشرف من أن يكون جهاد المؤمن في سبيل ربه جل وعلا ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، ومقتضى ذلك أن ما سوى هذا السبيل مفسد للنية محبط للأجر ، موجب للإثم ؛ على قدر المقاصد المنحرفة ؛ فمن قاتل رياءً أو لسيادة ، أو لوزارة ، أو ليقال شجاع ، فكل ذلك في غير سبيل الله.
7. ما إعراب ( صفاً ) ؟ وما علاقتها بمعنى الآية ؟
هذه الكلمة حال من فاعل ( يقاتلون ) وفائدتها أن محبة الله تعالى مترتبة على كونهم حال قتالهم صافّين متراصين ؛ فإذا كانوا كذلك رَمَوا عدوهم من قوس واحدة، وهذا أَحَدُّ للشوكة وأوقع للرمية ، وأنكى للعدو وأحفظ للبيضة .
8. ما فائدة التشبيه في قوله ( كأنهم بينانٌ مرصوص ) ؟
إنّ من فوائد تشبيه المقاتلين بالبنيان المرصوص تقرير حال كونهم صفّاً مترابطاً ولُحْمَةً واحدة ، وتأكيداً على مبدأ إحكام النظام ودقة حال المقاتلين في أثناء القتال وأن أيّ خلاف أو اختلاف يؤثر تأثيراً سلبياً عليهم في المعركة .
9. ما سر اختيار ( البنيان ) دون غيره ليقع التشبيه به كالجبال مثلاً فإنها أصلب صخراً وأرسخ جذراً ؟
الذي يظهر – والعلم عند الله – أنه قد لُمِحَ في التشبيه حال المشبه وحال المشبه به ؛ بحيث يكون بينهما أكبر قدر ممكن من التناظر والتطابق ، وهذا متوافر في البنيان أكثر من توافره في الجبال ؛ ذلك أن الجبال وإن كانت تفوق البنيان في صلابة الصخر ، وثبات الموقع ؛ إلا أن التفاوت بينهما شديد الظهور ، فصخور الجبال غير منتظمة ؛ فمنها ما دَقّ في صغره ومنها ما يصل في حجمه حجم جبل صغير ، وأما البنيان فلبناته منتظمة تتساوى في حجمها ، وتتقارب في شكلها ، مما يجعل الرجال في انتظامهم وتقارب أشكالهم أشبه ما يكونون بها . وأمر آخر هو أن الجبال ليست منتظمة في خطها ، بل منها المتقدم والمتأخر مما يجعل الفجوات تتخللها ، وهذا يقدح في جوهر التشبيه وينال من صورته بخلاف سطر البنيان الذي يمكن التصرف في استقامته وتداخل لبناته وتراص أجزائه ؛ حتى يستتمّ مرصوصاً بشكل يجعله أليق بأحوال صفوف الرجال ؛ ولهذا وقع تشبيههم به موقعاً حسناً ؛ فلو أدرت لسان العربية على أحسن منه لم تظفر به.
10. لمَ وصف البنيان بكونه مرصوصاً ؟ ولَمْ يوصف بكونه مشيدا ؟
إن وصف البنيان بكونه مرصوصا أليق وألبق من وصفه بكونه مشيداً ؛ لأن اللفظ الأخير إنما يطلق على البنيان بعد اكتماله وارتفاعه وأخذه طابعاً آخر هو " القصر " فعندئذ يوصف بأنه مشيد ومنه قوله عز وجل { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}الحج ( آية : 45 ). وكلمة مشيد لا تصلح لأن تكون وصفاً دقيقاً للبنيان وإنما اللفظ الصالح لهذا الوصف هو لفظة " مرصوص " فإنها ينعت بها البنيان الذي بنيت لبناته ورص بعضها على بعضٍ بقوة وتداخل حتى أصبح كالرصاص أو في قوته ، وبذلك تدرك دقة اصطفاء كل كلمة في الآية حتى اكتمل التشبيه بما لا مزيد عليه ، ثم إن التشبيه في الآية تمثيلي فهو تشبيه صورة بصورة ، ووجه الشبه فيه منتزع من عدة أشياء متناسقة مضموم بعضها إلى بعض في تداخل ودقة تماسك ؛ مع انتظام وظهور إحكام ، وبذلك تظهر وجوه الإعجاز في الآية ، سواء في اصطفاء مفرداتها أو حُسْن انتظامها، أو جمال التصوير فيها المفضي إلى الغرض الرباني منها ؛ ولا غَرْوَ في ذلك ولا عجب فإن هذا القرآن العظيم كتاب أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .
الفصاحــــــة
تعريف الفصاحة لغةً واصطلاحاً :
لغةً : تطلق على معانٍٍ منها الإبانة والبيان والظهور والانكشاف ومنه قوله عز وجل {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} القصص ( آية : 34 ) . أي أبين وأظهر.
اصطلاحاً : الفصاحة هي الألفاظ البينة الظاهرة المتبادرة إلى الفهم والمأنوسة الاستعمال بين الكتاب والشعراء لمكان حسنها.
والذي يوصف بالفصاحة هو الكلمة والكلام والمتكلم ؛ فيقال كلمة فصيحة ومتكلم فصيح وكلام فصيح .
فصاحة المتكلم :
هي ملكة يقتدر بها صاحبها على التعبير عن المقصود بكلام صحيح؛ يوضح مراده في أي غرض كان .
البلاغـــــة
تعريف البلاغة لغة واصطلاحاً :
لغة : الوصول والانتهاء إلى الشيء يقال بلغ فلان مراده إذا انتهى إليه . وبلغ الراكب المدينة إذا وصل إليها ، ومبلغ الشيء منتهاه .
اصطلاحاً : هي مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال . أو هي سوق الكلام الفصيح على مقتضى الحال بحسب المقامات.
والذي يوصف بالبلاغة هو المتكلم والكلام فقط فيقال :- متكلم بليغ وكلام بليغ ، ولا توصف الكلمة بالبلاغة ؛ لأنها لا تستقل بالمعنى المؤثر ؛ إذ المعنى المؤثّر لا يكون إلا بكلام يناسب الحال.
يشترط للكلام البليغ شرطان :
الأول : فصاحة ألفاظه " مفردها ومركبها ".
الثاني : مطابقتها لمقتضى الحال الذي قيلت فيه ؛ معنى ومقاما.
بلاغة المتكلم :
هي ملكة في النفس يقتدر بها صاحبها على توظيف الكلام الفصيح ؛ ليطابق مقتضى الحال في أي موضوع كان.
عــلم المعانـــــي
تعريف علم المعاني لغة واصطلاحاً:
لغة : جمع معنى ، والمعنى هو الشيء المقصود.
اصطلاحاً : هو علم يعرف به كيفية مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال .
أبرز مباحث علم المعاني :
أبرز مباحثه الخبر و أضربه ، والإنشاء وفنونه ، والتقديم والتأخير ، والتعريف والتنكير ، والذكر والحذف ، والإطلاق والتقييد ، والقصر ، والفصل والوصل ، والإيجاز والإطناب والمساواة.
فائدة علم المعاني:
يفيد علم المعاني في الآتي :
أولاً : التعرف على ملامح إعجاز القرآن الكريم والوقوف على سمات البلاغة النبوية.
ثانياً : إدراك أسرار البلاغة ولطائف التعبير في المنثور من كلام العرب والمنظوم.
ثالثاً :-تنمية الذوق البياني عند الدارس ، وتزويده بآلاته وتعريفه بمقاماته.
التعريف المختار للخبر والإنشاء :
عرف البلاغيون الخبر / بأنه ما احتمل الصدق والكذب لذاته.
والإنشاء / بأنه ما لا يحتمل الصدق والكذب.
ولكن هذا التعريف يلحظ عليه أمران:
الأول : أنه يصطدم بأخبار الله سبحانه وتعالى ورسوله  فإنها صدق حقا لا تحتمل الكذب ولو على سبيل الافتراض من أجل هذا التعريف.
الثاني : أن هذا التعريف يخالف الغرض الأصلي للخبر فإنه الفائدة وإنما الكذب والصدق عوارض لا تجعل أساساً في التعريف كالمرض والصحة بالنسبة للإنسان ، لا يصح أن يجعلا مقياساً لتحديد مفهومه .
وعلى هذا فإن التعريف المختار للخبر هو أنه: ما تركب من جملة أو أكثر وأفاد فائدة مباشرة أو ضمنية .
الأغراض البلاغية التي من أجلها يُلقى الخبر :
يلقى الخبر لأحد غرضين رئيسين :
‌أ)الفائدة المباشرة : لمن يجهل الخبر أصلاً كأن تسوق حديث " الدين النصيحة " و " البر حسن الخلق " لمن يجهلهما .
‌ب) الفائدة غير المباشرة (الفائدة الضمنية) ويسميها البلاغيون: لازم الفائدة ، وتكون في حق من عنده علم مسبق بالخبر كأن تقول لتلميذٍ أخفى عليك خبر نجاحه " أنت نجحت في الاختبار ". وقد تكون للخبر أغراض بلاغية أخرى غير ما ذكر تستفاد من سياق الكلام ومن قرائن الأحوال؛ ومنها:
أولاً: الاسترحام : مثل " أنا فقير إلى عفو ربي ".
ثانياً: التنشيط وبعث الهمة : كأن تقول لتلميذك " طالب العلم ذو همة عالية ".
ثالثاً: التحسر والتأسف : كقوله عز وجل على لسان امرأة عمران " إني وضعتها أنثى " آل عمران ( آية : 36 ).
رابعاً : التوبيخ: كأن تقول لكثير العثرات " الشمس طالعة " أو " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " .
الإنشــــــاء
تعريف الإنشاء لغة واصطلاحاً:
لغة : الإيجاد والابتداء والشروع.
اصطلاحاً :- الإنشاء ما سوى الخبر مما أفاد طلباً أو قسيمه.
أقسام الإنشاء:
ينقسم إلى قسمين :
أولاً: الإنشاء الطلبي ؛ وأنواعه خمسةٌ: هي الأمر والنهي والتمني والنداء والاستفهام، وهذا القسم يتضمن طلباً.
ثانياً: الإنشاء غيرالطلبي: وهو الذي لا يتضمن طلبا وذلك كالتعجب والقسم والترجي وألفاظ المدح والذم.
الفرق بين الإنشاء والخبر :
الإنشاء والخبر يجتمعان ويفترقان ؛ فهما يجتمعان على الإفادة فكل واحد منهما مفيد ، ولكن طبيعة الفائدة في الخبر لا تتوقف على المخبر بها بل هي موجودة قبله وبعده غالبا وليس له إلا فضل ذكرها .
وأما الفائدة في الإنشاء فإنها تتوقف على المتكلم به ؛ فهو الذي يأمر أو ينهى أو يتمنى أو ينادي أو يستفهم أو يتعجب أو يقسم وعلى هذا فإن الفائدة في الإنشاء تنطلق من المتكلم ابتداء وإيجادا ؛ بخلاف الخبر فلا تتوقف الفائدة فيه على المخبر.
الفرق بين الإنشاء الطلبي وغير الطلبي :
الإنشاء الطلبي : هو الذي يستدعي مطلوباً غير حاصلٍٍ قبل الطلب كالأمر والنهي؛ فدلالة الأمر على طلب الفعل ودلالة النهي على طلب الكفّ عن الفعل .
الإنشاء غير الطلبي :
هو الذي لا يستدعي مطلوباً كالمدح أو الذم أوالتعجب، وهذا النوع أقرب إلى الخبر.
الفرق بين الإيجاز والإطناب والمساواة:
كل ما يجول في الصدر من المعاني لا يعدو التعبير عنها طريقاً من طرق ثلاثة:
أولاً : إذا جاء التعبير عن المعاني بألفاظ مساوية لأصولها غير زائدة ولا ناقصة فهذا هو المساواة. كقوله تعالى{ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } الطور ( آية : 21) .
ثانياً : إذا زاد التعبير عن المعاني بألفاظ زائدة على أصلها ؛ لفائدة بلاغية ؛ فإن هذا هو الإطناب؛ كقوله تعالى:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} البقرة (آية:238).
ثالثا: إذا نقص التعبير عن المعنى بلفظ أقل من أصله مع الوفاء به ، فإن هذا إيجاز ؛ كقوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ } البقرة ( آية :179).
والبليغ يختار عند التعبير عما في نفسه طريقا من هذه الطرق المتقدمة وذلك بحسب ما يستدعيه الحال ويتطلبه المقام فإن البلاغة تدور على ذلك ، فإذا اقتضى المقام إيجازاً فإن مكمن البلاغة في أَنْ يوجز ، وإذا تطلب المقام إطناباً فأسلوب الإطناب هو الأبلغ ؛ وإذا كان المقام يستدعي المساواة كانت المساواة هي الأنسب ؛ فلكل مقام مقال ، وبكلٍّ ورد التنزيل، وتكلم البلغاء.
تعريف الإيجاز في اللغة وفي الاصطلاح مع ذكر أقسامه على سبيل الإيجاز :
الإيجاز لغة: التقصير.
اصطلاحاً: قصد اللفظ مع الوفاء بالمعنى أو يقال في تعريفه: هو التعبير عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة وافية .
أما أقسامه فينقسم إلى قسمين :
1- إيجاز قِصَر. 2- إيجاز حذف.
* أما إيجاز القِصَر: فإنه يكون بتضمين العبارات القصيرة معاني كثيرة من غير حذف كقوله تعالى { َألاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } الأعراف ( آية : 54 ).
* وأما إيجاز الحذف : فإنه يكون بحذف شيء من العبارة أو العبارات مما لا يخل بالفهم مع قرينة تعيّن المحذوف . ثم إن المحذوف إما أن يكون حرفاً أو جملة أو جملاً فأما الحرف كقوله تعالى {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } مريم ( آية:20) ؛ فأصلها أكن .
والجملة مثل قوله تعالى {َكانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ}البقرة ( آية : 213).
أي فاختلفوا فبعث الله ، والجُمَل كقوله تعالى { فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } يوسف ( آية : 46 ). أي فأرسلوني إلى يوسف لأستعبر الرؤيا فلما جاءه قال يوسف أفتنا في سبع بقرات...
تعريف الإطناب وذكر بعض أنواعه :
لغة : الزيادة .
وفي اصطلاح البلغاء : زيادة الألفاظ على المعاني لفائدة بلاغية .
وله أنواع كثيرة منها :
أولاً : ذكر الخاص بعد العام. كقوله تعالى { َتنزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}القدر( آية : 4 ). فإن الروح وهو جبريل عليه السلام قد ذكر مندرجاً في عموم الملائكة لأنه منهم ثم ذكر اسمه الخاص مرة أخرى بعد ذلك العموم ؛ إشعاراً بفضله وتنويهاً بشأنه.
ثانياً : عكسه وهو ذكر العام بعد الخاص ويشهد له قوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } النور ( آية : 56 )
ونكتته البلاغية هي / شمول أفراد العام بالاهتمام والعناية مع زيادة الاعتناء بأمر الخاص لذكره مرتين:
أولاً : باسمه الخاص.
ثانياً : باندراجه في عموم العام ؛ فإن الخاص وهو الصلاة والزكاة قد ذكر أولاً ثم ذكر العام بعده وهو طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك للإشعار بشمول الاعتناء بما جاء به الرسول غير الصلاة والزكاة مع الاهتمام بهما لأنهما مندرجتان في هذا العام ؛ حتى لا يتوهم أن المطلوب هو إقامة الصلاة والزكاة فقط.

علم البيــــــان
البيان لغة: الإيضاح.
وفي الاصطلاح : علمٌ يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرقٍ مختلفة في وضوح الدلالة عليه ، وإن قلت : إنه علم الصورة ، أو فنّ التصوير للمعاني لم تخطئ.
وأشهر فنونه ثلاثة:
1. التشبيه. 2. المجاز. 3. الكناية.
أولاً/ التشبيـــه
ويمكن تعريفه بأنه :
في اللغة : التمثيل.
وفي الاصطلاح : هو إلحاق أمرٍ بأمرٍ آخر في صفة أو أكثر ؛ بأداة ملفوظة أو ملحوظة. ومن هذا التعريف تظهر أركان التشبيه الأربعة :
‌أ)المشبه : وأشير إليه بـ( إلحاق أمر ).
‌ب) المشبه به ، وأشير إليه بـ ( بأمر آخر ).
‌ج) وجه الشبه ، وأشير إليه بـ( في صفة أو أكثر ).
‌د) أداة التشبيه ، وأشير إليها ( بأداة ملفوظة أو ملحوظة ) .
وبالمثال يتضح المقام فقولك : زيد كالأسد في الشجاعة ؛ تظهر فيه أركان التشبيه الأربعة ؛ " فزيد " مشبه
و " الأسد " مشبه به
و"الكاف" أداة التشبيه ،
و " في الشجاعة " وجه الشبه .
والتشبيه أنواع : فمنه التشبيه المرسل ؛ وهو ما ذكرت فيه الأداة ، والمؤكد وهو ما حذفت منه الأداة ، والمجمل وهو ما حذف منه وجه الشبه، والمفصل وهو ما ذكر فيه وجه الشبه، والبليغ وهو ما حذفت منه الأداة ووجه الشبه وهو أبلغها كقولك محمد بحر.
ومن أنواع التشبيه :
التشبيه التمثيلي وهو ما كان فيه وجه الشبه منتزعا من أجزاء متعددة يُضَم بعضها إلى بعض ؛ حتى تعطي صورة مُتَآلفة ؛ مثلما مر معنا في تحليل آية الصف { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } الصف ( آية : 4 ) .
التشبيه المقلوب كقول البحتري في وصف بِرْكَة المتوكل :
كأنها حين لجت في تدفقها
يد الخليفة لما سال واديها

فقد قلب الشاعر التشيبه ؛ فإن الأصل أن يشبه الشاعر يد الخليفة في جوده ونواله ببركة الماء في غزارتها وتدفق مائها ولكن الشاعر قلب التشبيه؛ لغرض المبالغة والادعاء بأن الممدوح في غزارة عطائه وكثرة نواله أعظم من البركة و ما فيها من المياه الوافرة .
ومن خصائص التشبيه البيانية إخراج الخفي في صورة الجلي ، وإبراز المعنوي في صورة الحسي المرئي وتجسيد المعاني وتقريرها في الأذهان وكأنها مشاهدة في عالم الحواس فهو فن التصوير للمعاني.
ثانياً / الاستعــارة:
أشهر أنواع المجاز الاستعارة، وتعرَّف بأنها:
اللفظ المستعمل في غير ما وضع له؛ لعلاقة المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ؛ مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
وأشهرها قسمان : التصريحية والمكنية.
فأما التصريحية فهي التي صُرِّح فيها بلفظ المشبه به وحذف المشبه ، مثاله قوله تعالى{اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } الفاتحة ( آية : 6 ). فقد استعير الصراط للإسلام بأن شبه الإسلام بالطريق البيِّن السليم من العوج ، بجامع الوضوح والسلامة من المهالك في كلٍ ؛ على سبيل الاستعارة التصريحية ؛ لأن المذكور هنا هو المشبه به والمشبه محذوف.
وأما المكنية فهي التي ذكر فيها المشبه وحذف فيها المشبه به ،ورمز إليه بلازمٍ من لوازمه ؛ كقوله تعالى : { وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ }الأعراف ( آية :154 ). فقد شبه الغضبُ بإنسان بجامع الهدوء والانفعال في كلٍ ، ثم حذف المشبه به وهو الإنسان ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو السكوت على سبيل الاستعارة المكنية .
ومن أنواع الاستعارات : الاستعارة التمثيلية وهي تركيب استعمل في غير ما وضع له ؛ لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي . كقولهم في المثل : ( أنت تَرْقُم على الماء ). تقوله لمن يلحّ في شأن لا يمكن الحصول منه على غاية .
ففي هذا المثل وما ضرب له استعارة تمثيلية ؛ فقد شبهت حال من يلحّ في الحصول على أمر مستحيل بحال من يرقم ( يكتب ) على الماء ؛ بجامع أن كلاً منهما يعمل عملاً غير مثمر ، ثم استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية والقرينة حالية.
ومن الخصائص البيانية للاستعارة أنها تبرز المعاني في صورة حسّية مجسمة ؛ وكأنها مرئية مشاهدة . كما أنها أوقع في النفس وآكد من الحقيقة ، ثم إنها أوجز في الدلالة على المعاني وأكثر إبقاء للمعنى ، وأقرب تشخيصا لدقائقه ، وأجمع لأطرافه ، ولهذا وردت في التنزيل ، وفي الحديث الشريف ، وفي منظوم العرب ومنثورها.
ثالثاً / الكنــــــاية:
الكناية في اللغة بمعنى: الستر والتغطية،
وفي الاصطلاح : لفظٌ أٌطلق وأريد به لازم معناه مع قرينة لا تمنع من إرادة المعنى الأصلي.
ومثال ذلك قولهم : فلان كثير الرماد ؛ كناية عن كرمه ، وقولهم : فلان نظيف اليد؛ كناية عن نزاهته ، وفلان طاهر الذيل ؛ كناية عن عفَّته. ومنه قوله عز وجل: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}البقرة ( آية : 223 ). كناية عن العشرة الزوجية .
ومن الخصائص البيانية للكناية أنها تعطي الحقيقة معزَّزةً بالدليل ؛ فكثرة الرماد مثلاً دليل وبرهان على الكرم ، ومن خصائصها أنها طريقٌ مؤدّب للتعبير عمَّا يُسْتَحى من ذكره، كقوله تعالى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } البقرة ( آية : 187 ). كنّى بذلك عن المعاشرة الزوجية بأسلوب مؤَّدب غاية في الجمال.
ومن الكناية ما يسمى بالتعريض وهو المعنى المفهوم عند اللفظ لا به ؛ كأن ترى مؤذياً يؤذيك أو يؤذي غيرك ؛ فتسوق في حقه الحديث: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) تعريضاً به ، وبأذيّته .
علم البديع
هو الفن الثالث من علوم البلاغة وقد عُرّف بأنه: علم يعرف به وجوه تحسين الكلام من جهة لفظه ومعناه ؛ المطابق لمتقضى الحال .
وينقسم إلى قسمين : البديع المعنوي : وله فنون متعددة منها الطباق والمقابلة والتورية والمزاوجة واللف والنشر ، والمبالغة ، وغيرها .
والقسم الثاني : البديع اللفظي ؛ وله فنون متعددة – أيضاً – ؛ منها الجناس والسجع ورد الأَعْجَاز على الصدور وغيرها .
التقابل أو المقابلة:
ومن فنون البديع المعنوي التقابل أو المقابلة ؛ وهي أن يُؤْتَى بمعنيين أو أكثر ؛ ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب ؛ كقوله تعالى في وصف النبي عليه الصلاة والسلام {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } الأعراف ( آية : 157 ). فإن ( يحرم ) يقابل (يحل) و(عليهم) يقابل (لهم) و(الخبائث) تقابل (الطيبات) .
ومن فوائد المقابلة تمكين المعاني في الذهن ؛ فإنّ الضِّد يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُ ؛ فيتقرّر المراد ويستقر المعنى بيسر وسهولة .
التـــوريـــة:
ومن البديع المعنوي التورية وهي أن يَذْكُر المتكلمُ لفظاً له معنيان: قريب ظاهر لكنه غير مراد ، وبعيد خفيّ هو المراد ؛ مثال ذلك أن تقول لمفتخر بآبائه وأجداده : آباؤك عظام . فإن التورية وقعت في لفظ " عظام " ؛ فله معنيان قريب تعني به العَظَمة ؛ فتوافق بذلك فَخْر المفتخر ، وبعيد ؛ تعني بذلك جمع عَظْم ؛ وهو المراد ،فأنت تريد أنهم– مهما فخرت بهم – سيكونون عظاماً بالية .
ومن فوائد التورية إيهام المُتَحَدَّث معه أنك توافقه في معنىً يذهب إليه كما في المثال السابق ، ولكنك تريد معنى آخر فتنجو من آفة الكذب ، وتحقق المراد من غير إثارة أو بلبلة أو إساءة وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعملها أحياناً ؛ وبخاصة في الغزوات؛ تحقيقاً للمصالح ودفعاً للمفاسد .
الجناس:
ومن المحسنات اللفظية: الجناس وهو أن يتشابه اللفظان في اللفظ: ويختلفا في المعنى. والمشهور منه نوعان:
جناس تام: وهو ما اتفق فيه اللفظان في أمور أربعة: وهي نوع الحروف وشكلها وعددها وترتيبها؛ كقوله تعالى { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } الروم ( آية: 55 )؛ فقد اتفق اللفظان في الأمور الأربعة واختلفا في المعنى ؛ فإن ( الساعة ) هي يوم القيامة ، و( ساعة ) هي الجزء المعروف من الوقت.
وجناس غير تام: وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحدٍ من الأمور المتقدمة ؛ كقوله تعالى: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } الضحى ( آية : 9 -10 )؛ فالاختلاف وقع بين الكلمتين في حرفي القاف والنون ، مع الاتفاق في بقية الأمور .
ومنه قول حسان رضي الله عنه :
وكنا متى يَغْزُ النبيّ قبيلة
نصل جانبيه بالقنا والقنابل
فالاختلاف وقع بزيادة الباء
واللام في اللفظ الأخير ، مع الاتفاق ببقية الأمور .
ومنه قولهم : ( جُبَّةُ البُرْدِ جُنَّةُ البَرْد ) ؛ فالاختلاف وقع في الحركات بين البُرد والبَرْد ، كما وقع الاختلاف في الحروف بين جُبَّةُ وجُنَّةُ.
ومن فوائد الجناس البلاغية أنّ له أثراً حميداً في نظم الكلام ، وفي تناسب أجزائه ، فإن اقتران الأشباه و النظائر يجعل النفوس تميل إليها بالفطرة وتأنس بها ، كما أنّ التجانس في الألفاظ يُفْضي إلى تماثلها ، وظهور معانيها ؛ مما يُطْربُ الأذن ويؤنس النفس ويُرَقّص القلب ، ويخادع الأذهان ببديع الأفكار ؛ فالمُجَانِسُ في كلامه كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها ، ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفَّاها.

اسأل الله أن ينفع الجميع ويزيدهم علماً وتقوى ويوفقهم لما يحبُ ويرضى والله ولي التوفيق والحمد لله رب العالمين ..

اللهم اغفر لي ما به من زلل وأعف عني فما كان من صوابٍ فمن الله وحده وما كان من خطأ وسهو ونسيان فمن نفسي والشيطان اسأل الله أن يعفو عني وعنكم وشكراً لكم