النتائج 1 إلى 6 من 6
  1. #1
    الصورة الرمزية شذى22
    شذى22 غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    7,799

    افتراضي ( القصــر المهجــور )

    ~الفصـــل الأول~


    ( القصــر المهجــور )



    " ليتــني لم أفتح ذلك الباب و لكن....هل ينفع الندم الآن؟!...."


    هذه هي الكلمات التي تصف قصتي بأدق معنى يمكن أن تتوصلوا إليه, مؤكد أنكم تشعرون بالحيرة, و الضياع, و أرجح أن أفواهكم مفتوحة على وسعها و أعينكم متسعة من كلماتي, معكم كل الحق, فأنتم لا تعرفون عن أي باب أقصد, و لا تعلمون القصة, لذا , سوف أحكي لكم حكايتي من البداية...


    .....


    - لقد عدت يا أبي...


    قلتها بصوتٍ مرتفع, حتى يستطيع والدي سماعي, هذا بعد أن أغلقت باب المنزل خلفي و دلفت داخل بيتنا الصغير, ليأتي صوته من غرفة المعيشة, كعادته الدائمة, فمؤكد أنه يتابع الأخبار على التلفاز, صائحاً بنبراته الحنونة: - مرحباً بعودتكِ كلير, إن غدائكِ في المطبخ عزيزتي


    صمت عن الكلام, بينما وضعت حقيبتي على المقعد السكري, الموجود بالصالة, و المحاذي للنافذة المطلة على الشارع, و قبل أن أدخل إلى المطبخ, سمعت أبي يتساءل صائحاً من الداخل:


    - و لكن عزيزتي, ما الذي أخركِ هكذا؟!



    ابتسمت و أنا أقول :



    - هذا بسبب المغفل كريس


    و يبدو أن أبي لم يسمعني جيداً, فصاح متسائلاً بصوت مرتفع:


    - ماذا؟!


    فرفعت صوتي و أنا أضع بيدي على فمي, حتى يستطيع سماعي, قائلة:


    - لقد تأخرت بسبب كريس الأحمق, لقد تسبب في تأخيرنا بالمعمل, لأنه لم يتقن عمل التجربة, فاضطررت أن أبقى معه



    صمت أبي و لم يقل شيئاً, فتنهدت, ثم دلفت إلى المطبخ, و تناولت غدائي, أو لنقل عشائي, بمفردي, في هدوء..


    كنت أقلب الطعام بملعقتي, و أنا شاردة في اللاشيء, حانت نظرة من عيني نحو الموقد, فقفزت بداخلي ذكرى أمي, فانتابني الحنين, الحنين إلى الماضي, و بداخلي شعرت بالحزن و التعاسة, لفقدانها, " آه يا أمي, كم اشتقت لكِ و لكلامكِ, اشتقت لرؤيتكِ, و لأحضانك.."


    قلتها في سري, بينما تلألأت عيناي بالدموع, و بدأت تنزف, على وجنتي, كما نزف قلبي من الألم, و لكن الغريب في الأمر, أن هناك أشياء محيت من ذاكرتي, مثلاً كوقت وفاتها, و كيف توفيت هي و شقيقي الأكبر, و كذلك لا أذكر كيف هو شكلها, فلقد توفيت هي و أخي منذ زمن, فقط كل ما أعرفه أنه كان حادثاً مروعاً, و كأن ذاكرتي قد تم غسلها, أو لنقل حجبت الذكريات السيئة, و لم تترك إلا السعيدة فقط, مثلها مثل المصفاة, و الأغرب في الأمر أنني كلما سألت أبي عن موتهما, يأثر الصمت و تتجهم ملامحه, و يشرد, و لا يجيبني, و لكنني أريد أن أعرف, يحق لي أن أعرف كيف ماتا؟!...


    زفرت في ضيق, ثم نهضت, بعد أن شعرت أنه لا رغبة لدي في الأكل, ثم توجهت نحو غرفتي لأبدل ملابسي و أنام على الفور...


    و بداخل غرفتي التي احتل اللون الأزرق عليها, آويتُ إلى فراشي الأزرق كذلك, أجل أنا أحب اللون الأزرق كثيراً, ثم أغمضت عيني, بعد أن غلبهما النعاس, مستسلمةً للنوم..


    و بداخل أحلامي رأيتها, كانت فتاة, و لكن ليست كأية فتاة, ذات شعر أشقر كالشمس عندما تتكبد السماء, يصل لأسفل كتفها, و عينان بلون البنفسج , و لكن الحزن أطفأ نورهما, و من ملامحها الطفولية شعرت بأن عمرها يتراوح ما بين الرابعة عشر و السادسة عشر, و قد كانت ترتدي فستاناً زهرياً طويلاً, يزينه شريط أخضر على الرقبة, بينما تزين الأكمام شرائط بيضاء اللون, و حول شعرها التف شريط أزرق اللون, كانت تقف بحديقة بدت مألوفةً لي, و كأنني رأيتها من قبل, بينما أخذت تشير بإصبعها المرتجف, إلى قصر مخيف, غطته الأشواك...نظرت لوهلةً إلى القصر, بينما دق قلبي من منظره المخيف, فأعدت النظر إلى الفتاة مجدداً, لتلتقي عيناي بعينيها الدامعتين, بينما الحزن قد غلف وجهها البريء, " لماذا أشعر بأنني أعرف تلك الفتاة؟!, أشعر أنني رأيتها من قبل..و لكن لماذا؟!...", كان هذا ما يتردد داخلي, عندما وجدتها تحرك شفتيها و كأنها تتكلم, اقتربت أكثر منها حتى أسمع ما تقول, و لكن لا جدوى, فلم يكن هناك أي صوت, فنظرت إليها ثانيةً, و أنا أميل برأسي نحو اليمين قليلاً, بمعنى ماذا تقولين؟!, فشعرت بأن اليأس قد تمكن من الفتاة, عندما نظرت نحو الأرض, بينما تساقطت دموعها, فخبأت عينيها بكفيها, و لكم أن تتخيلوا مدى الأسى و الشفقة التي انتابتني, و أنا أراها تبكي هكذا, فدنوت منها أكثر, ثم جثوت أمامها, حتى أصل لمستواها, و وضعت بيدي على كتفها, حتى أهدّئ من روعها قليلاً, ثم قلت بحنان:


    - لماذا تبكين عزيزتي؟!, ماذا بكِ؟!, ماذا تريدين مني؟!


    أزاحت الفتاة يديها عن وجهها, ثم نظرت إلي بعينين متورمتين و منتفختين من البكاء, و من ثم التفتت برأسها نحو القصر, فلفت رأسي بالتبعية معها, و كأنني أصبحت آلة تتحرك بالسيطرة, و نظرت صوب القصر المخيف, و فجأة صدر صراخٌ كسر حاجز الصمت, و شوب سكونه, و جعل الرعب يتغلغل بقلبي, لم يكن صراخاً عادياً, بل معذباً أجل معذب....


    فتحت عيناي و صرخت صرخة مكتومة, كردة فعل على ما حدث, فوضعت بيدي على فمي, حتى أوقف الصراخ, عندما تداركت أنني لا أزال بغرفتي الصغيرة و على سريري الدافئ, كان قلبي يدق بسرعة, متعالي صداه في المكان, يكاد من بالشارع أن يسمعه, بينما أخذت ألهث من ذلك الحلم, أي حلم هذا بل إنه كابوس مخيف, " رباه ما هذه الصرخات؟!, و ما هذا القصر؟!, بل ما هذا الحلم؟!.." , صدقاً لقد كان حقيقياً أكثر من كونه حلم, لقد كنت أشعر بكل شيء, و بداخلي قفزت صورة الفتاة ثانيةً, و هي تتمتم بفمها و تتكلم, و لكن لم يخرج صوتها, فتساءلت بسري, " ترى ماذا تريد تلك الفتاة مني؟!, و لماذا حلمت بها؟!..."


    نظرت إلى ساعة الحائط, لأجد أنها تشير إلى الثالثة فجراً, فتمتمت قائلة..." يجب أن تخلدي إلى النوم, فغداً يومٌ شاق بالجامعة..."


    أعدت رأسي على الوسادة, ثم خلدت في نومٍ عميق.....


    ...............



    فتحت عيني على صوت أبي الذي جلس بجواري على السرير , و أخذ يهزني برفق حتى أنهض من نومي, قائلاً: - استيقظي أيتها الكسولة, و إلا فاتتكِ المحاضرة الأولى


    هببت فزعةً, من على السرير و أنا أقول في توجس و هلع و تسرع: - ماذا؟!, أين؟!, كيف؟!, متى؟!


    لتنطلق ضحكات من أبي, و التي بدت أن نوعها خبيثة, و تأكدت من ذلك عندما نظرت للساعة, لأجد أن الوقت ما زال مبكراً, فأعدت النظر إليه, و أنا أشعر بالغيظ يقتلني, فقال أبي معتذراً: - آسف كلير, و لكنكِ تعلمين أنني أحب رؤية الارتباك على وجهكِ, تبدين كالأطفال صغيرتي


    تصنعت الغضب و أنا أقول له في مزاح: - كفى أبي أنا لست طفلة


    ثم ضحك و ضحكت معه, آه كم أحب رؤية أبي يضحك بتلك الطريقة, و كم أحب رؤية وجهه, إن ملامحه الطيبة تلك تريحني كثيراً, أعلم أنه يفتقد والدتي و أخي الكبير, و أعلم أن الحزن يختلج بقلبه على فقدانهما, و لكنه لا يحب أن يبين ذلك لي, و لذلك هو دائم المزاح معي, لم يعد لي غيره, و لم يعد له غيري, أنا و أبي فقط, بذلك المنزل, الذي بدا كبيراً, واسعاً, فارغاً, بالرغم من صغره....


    توقفت عن الضحك, لأقول: - حسناً سوف أبدل ملابسي, و أستعد للجامعة


    فحرك أبي رأسه بايمائة خفيفة, ثم نهض و هو يقول: - و أنا سأخرج , لأعد لكِ الفطور


    خرج أبي من الغرفة, و أغلقها خلفه, بينما توجهت إلى مرآتي المعلقة, و تناولت فرشاتي , و أخذت أصفف شعري الأسود القصير, بينما كانت عيناي تراقبان وجهي الذي بدا عليه الإرهاق في المرآة, و لاحظت تلك الهالات التي رسمت كخط أسود تحت عيني, فتمتمت ساخرة بنفسي," جميل تبدين كالمشردين يا كلير...", سقطت الفرشاة مني على الأرض, عندما لمحت شيئاً ما يقف خلفي, فدققت النظر بالمرآة, و احرزوا ماذا وجدت؟!, أجل إنها الفتاة التي رأيتها بحلمي, كانت ترمق انعكاسي, في حزن شديد, " هل أنا أحلم الآن؟!, تباً ماذا تريدين مني؟!...", قلتها بسري و أنا أراها تقترب بخطوات, بدت و كأنها تطير لا تمشي, فالتفت خلفي, لأراها, و لكني لم أجد شيئاً, و لا أثر لفتاة, و كأنها لم تكن موجودة, " جميل إذاً أنا أهذي...", قلتها بسخرية من نفسي, ثم ارتديت بعدها سروالي الجينز الأسود, و قميصي الكحلي, ذو الاكمام القصيرة, و أخذت بعدها حقيبتي, ثم ودعت أبي بعد أن تناولت الفطور معه, و خرجت من المنزل قاصدةً الجامعة...


    و في طريقي إلى الجامعة, كنت شاردة البال بذلك الحلم, و تلك الفتاة التي لا أعرف من هي و لماذا تقصدني؟!, و لكن فجأة توقفت بالطريق, عندما لمحت قصراً ضخماً, بدا مهجوراً, و مخيفاً كذلك, كانت تحيط به حديقة واسعة لكنها مخيفة بعض الشيء, و كذلك الأشواك كانت تحيط بالقصر, و سور حديدي التف حول الحديقة, ظللت للحظات أتأمل ذلك القصر, الذي كان قابعاً, بعيداً عن أي منزل, أو بيت, أو حتى محل, فتذكرت حلمي الذي شاهدته اليوم, و فجأةً لمحت شيئاً ما كان واقفاً يراقب من وراء نافذة القصر, اختفى ذلك الشيء بمجرد النظر إليه, و من ثم شعرت بشعورٍ غريب, و كأن القصر يناديني لأدخله, و شعرت كذلك بأن ذلك الشيء كان يراقبني أنا....


    اعتراني الفضول لدخول ذلك القصر المخيف...و لكنني ترددت باللحظة الأخيرة, عندها شعرت بيدٍ تطبق على ذراعي, فارتعدت في خوف, و انتصب الشعر في مؤخرة رأسي, فالتفت بحركة سريعة, لأرى من يمسك بي, لأجد سيدة عجوز, بدت كفيفة, بل هي فعلاً كفيفة, فشعرت بالشفقةِ عليها, فلربما تريد مني أن أساعدها في تعدية الطريق, و قلت بشيءٍ من التهذيب: - آسفة, يا خالة, لم أقصد أن أفزع منكِ


    ثم تساءلت بنفس النبرة المهذبة: - هل أستطيع مساعدتكِ؟!


    لم تبتسم تلك السيدة, و لم تتغير ملامحها, بل قالت لي في صوتٍ بارد متحشرج: - لا تقتربي من ذلك المكان, و لا تدخلي إلى ذلك القصر مهما كان...


    " حسناً إما أنني من أرى ذلك فقط, أو أن بالفعل هذه السيدة غريبة الأطوار...و لكن مهلاً, كيف عرفت أنني كنت أنوي دخول ذلك القصر؟!...", نظرت لها, ثم دققت النظر بعينيها البيضاء, التي لا ترى, مع أنني بدأت أشك في ذلك, و بداخلي أكملت, " هل فعلاً هذه العجوز, كفيفة؟!, أم أنني أتوهم؟!..."


    قررت أن أزيح الصمت, بسؤالي لها, قائلة في استفسار: - لماذا؟!, ماذا في ذلك القصر؟!


    فشعرت بها تضغط على ذراعي المسكين, الذي كاد أن يتهشم من قبضتها, " وااو , إن هذه العجوز لهي بقوة مئة رجل, و لا أشك في أنها تستطيع أن تغلب كريس...", قلتها في نفسي و أنا أستمع إلى صوتها البارد, المرتعش ,يقول في تحذير: - ليس على المرء أن يعرف كل شيء..إن الفضول قد قتل القط, فقط لا تقتربي يا بنيتي...فالداخل مفقود و الخارج مولود...


    اتسعت عيناي, من تلك الكلمات, التي ظلت تتردد صداها داخل أذناي, " الداخل مفقود و الخارج مولود..", بينما أخذت أراقبها, و هي تبتعد عني, حتى اختفت عن ناظري, شعرت بعدها بقشعريرة, سرت في جسدي, و أنا أرمق القصر مرة أخرى, و أتذكر تحذير العجوز, و بالطبع لم تعلم تلك السيدة, أنني من النوع الذي يحب التحدي, فكلماتها تلك, لم تجعلني أتراجع عن الفكرة, بل حفزتني لأدخل و أكتشف ماذا تقصد؟!, و لكن لن أدخل بمفردي, ضحكت بخبث, و أنا أقول: - بل يجب أن تأتي معي رفقة, تشاركني في تلك المغامرة


    أكملت الضحكات الخبيثة, و بالطبع من غير كريس أقصده... إنه الوحيد الذي أستطيع أن أجعله يرافقني للجحيم, تابعت طريقي إلى الجامعة, و الفضول يقتلني, و يشعل حماسي, إن هذا القصر مهجور منذ زمن, و هذا واضح, ترى ما حكاية ذلك القصر؟!, و لماذا أشعر بأن هناك شيءً ما يريدني أن أدخله؟!, إنه شعورٌ غريب يتولد داخلي, " حسناً, سنكتشف سرك أيها القصر, هذه الليلة.." قلتها محدثةً نفسي, دون صوت, و لم أشعر بأنني قد دخلت الجامعة, إلا عندما أفقت على صوت كريس صديقي و هو يقول في هلع و قلق, قاطعاً شرودي:


    - أيتها الحمقاء, لماذا تأخرتِ؟!, إن المحاضرة الأولى قد انتهت, لقد اتصلت بالسيد أندرسون, و سألته عنكِ, فقال أنكِ خرجتِ منذ الصباح الباكر, أين كنتِ يا كلير؟!, إن المسافة بين جامعتنا و منزلكِ لهي قصيرة, أجيبيني أين كنتِ؟!, لقد جعلتيني..أأأ..أقلق عليكِ..كثيراً..جداً


    نطق كريس آخر كلامه بخفوت و ارتباك واضح, و لكنني لم أعر ذلك اهتمام, فلقد اتسعت عيناي, و أنا أقول له في تساؤل و ذعر: - ماذا قلت؟!, هل أنا بالجامعة الآن؟!, و كم الساعة؟!, لقد فاتتني المحاضرة الأولى, يا إلهي...لماذا لم تتصل بي يا كريس؟!


    قلتها بصياح و غضب في وجهه, فرمقني كريس باستنكار, ثم قال: - أوتظنينني لم أفعل؟!, انظري لهاتفكِ النقال يا آنسة أندرسون, ستجدين مئة اتصال من السيد كريستوفر كولنز الذي ظل يتصل بكِ, حتى كاد هاتفه ينتحر من عدم الرد عليه


    رمقته بنظرات تعجب, ثم أخرجت الهاتف من حقيبتي, و نظرت بها, لأجد أن كلامه صحيح, فتقارب حاجباي من بعضهما, و أنا أقول في دهشة: - ك..كيف؟!, أنا لم أسمع هاتفي يرن...


    - هذا طبيعي جداً, لأنكِ خرقاء


    قالها كريس في سخرية, فحدجته بنظرة غاضبة, فأكمل متسائلاً: - حسناً, لماذا تأخرتِ؟!


    تبدل الغضب, إلى علامات مرتبكة, عندما تذكرت القصر, فقلت بصوتٍ شارد: - القصر


    - ماذا؟!, أي قصر؟!, هل بدأ وقت الهلوسة؟!


    قالها كريس مقاطعاً أياي, بطريقته الساخرة, كعادته, فشعرت بالحنق منه, و هو لا يأخذ كلامي على محمل الجد, بل يسخر فقط, عندها استدرت و أوليته ظهري و أنا أقول في ضيق: - إذا كنت ستظل هكذا, فلن أحكي لك شيئاً..


    ثم أخذت أسرع بخطواتي نحو قاعة المحاضرات, و يبدو أن كريس شعر بتأنيب الضمير, فأسرع هو الآخر خلفي, و أخذ يقول معتذراً: - أرجوكِ يا كلير أنا آسف, توقفي أرجوكِ


    و لكنني لم أعره أي انتباه, و واصلت سيري, عندها أمسك بكتفي, فحثني على الوقوف, ثم قال و هو يحاول التقاط أنفاسه من الركض خلفي: - أنا أعتذر عما بدر مني, أرجوكِ سامحيني


    ثم نظر لي و رسم ابتسامة على شفتيه, و هو يقول: - حسناً, أكملي كلامك, سأستمع إليكِ حتى النهاية


    نظرت بعينيه الخضراوين, ثم تصنعت أنني أفكر بكلامه و أقرر هل أسامحه أم لا؟!, بينما بداخلي, قلت ساخرة, " أحمق, لقد سامحتك من قبل أن تقولها...", توردت وجنتاي و أنا أراه يتمعن بنظراته, فأشحت بنظري بعيداً عن عينيه, بينما أشرت نحو مقعد خشبي, قابعاً تحت ظلال الأشجار, و قلت آمرة: - حسناً, تعال لنجلس حتى أقص عليك ما حدث معي...


    أومأ كريس بإيمائة خفيفة, ثم ذهبنا نحو المقعد و جلسنا بجوار بعضنا, و أول شيء قاله كريس:


    - هيا هاتي ما عندكِ


    سحبت الهواء و حبسته لثوانٍ في رئتي, لأشعر به يتغلغل داخلي, ثم أطلقته في قوة, و أنا أقول بعد أن رسمت ملامح الجد:


    - حسناً إليك ما حدث....


    بدأت أحكي لكريس كل شيء بالتفصيل الممل, من أول الحلم الغريب الذي راودني, حتى تلك السيدة العجوز, التي قابلتني, و حذرتني من دخول القصر, ثم أنهيت كلامي قائلة و قد بان الإصرار على ملامحي: - و كما ترى, أنا أريد أن أدخل ذلك القصر, فأنا أشعر بشيءٍ ما, يدعوني للدخول


    - تقولينها بكل بساطة و كأنكِ تقولين, أنه يدعوكِ لحضور حفل راقص مثلاً


    قالها كريس, و فيما معناه, " لا أريدك أن تذهبي إلى القصر, و انسي يا كلير ذلك..", فرمقته بنظرات من أعلى لأسفل, ثم قلت بسخرية: - أوه, إذاً أنت خائف


    فقاطعني كريس بغضب صائحاً: - لست خائفاً, و لكن ألم تسمعي تحذير تلك السيدة, الداخل مفقود و الخارج مولود, و هذا معناه كالآتي: " آنسة كلير الذكية, لا تدخلي هذا القصر لأنه خبيث و مروع و مخيف و متوحش , يلتهم أي أحد يدخله, و من يدخله يموت..." انتهى


    نفخت أوداجي, في غضب, ثم وقفت بحركة تعني, أن الحديث انتهى, و قلت: - شكراً على النصيحة سيد شجاع


    ثم عندما هممت بالمغادرة, أمسك كريس بيدي, مانعاً إياي من الابتعاد, فالتفت له, و أنا أقول بضيق: - ماذا الآن؟!, ألم تنهي النقاش بيننا؟!


    تحرك قلبي من نظرات كريس الجادة, و كاد أن يخرج عندما سمعته يقول لي بشيءٍ من الاهتمام:


    - أرجوكِ كلير, أنا خائفٌ عليكِ من فضولك هذا, أنا لا أيد أن...أفقدكِ


    عندها أمسكت بيديه و جذبته لينهض من على المقعد, و قلت في صوتٍ مرح: - لا تقلق, لأنك ستكون معي


    اتسعت عينا كريس, و هو يقول باضطراب:


    - م..ماذا؟!...سأكون ماذا؟!...هل قلتِ سأكون معكِ أم أنني أتخيل؟!..ياللمصيبة!!


    - هيا أيها الجبان.. إذا لم تأتي معي فسوف أذهب بمفردي, و لكن عندها لا تسأل عني, لأنني لن أكلمك ثانيةً


    - و لكن يا كلير..


    - يبدو أنه لا فائدة منك


    - حسناً, لقد قررت أن أذهب معكِ


    قالها كريس بخيبة أمل, فصحت في انتصار قائلة:


    - مرحى...حسناً, سنذهب اليوم بعد منتصف الليل, سأتسلل من بيتي حتى لا أوقظ أبي, و سأنتظرك عند أول شارعكم...


    ثم أكملت بنبرات تحذيرية:


    - و إذا لم تأتي يا كريس فلسوف...


    قاطعني كريس قائلاً بذعر: - ماذا؟!, منتصف الليل؟!...و لماذا لا نذهب بالنهار؟!


    - حتى لا يرانا أحد أيها الذكي


    قلتها في حنق, و كنت أود أن ألكمه في أنفه, من الغيظ, فقال في استسلام:


    - حسناً, لا تقلقي...سأذهب معكِ بمنتصف الليل


    .........






    حل الليل و توغل ظلامه, حتى خرجت أصوات الحشرات الليلية, عازفين سمفونيتهم المشهورة, نظرت بقلق نحو الساعة, لأجدها قد أصبحت بالثانية عشر, فتمتمت بصوتٍ منخفض:


    - إنها ساعة الصفر...


    كنت قد ارتديت ملابسي, منذ ساعات, و انتظرت حتى خلد أبي لفراشه, ثم أخذت نفساً عميقاً و أطلقته, و أنا أتجه نحو نافذة غرفتي, و أفتحها ببطء, حتى لا تصدر صوتاً, قد يوقظ أبي, كان قلبي يدق مع دقات عقارب الساعة, و الخوف ينتابني, من مجرد التفكير, بالغضب الذي قد ينتاب أبي, إذا ما رآني أتسلل كالمجرمين, ازدردت لعابي, ثم أكملت تسللي, و أنا أحمد الله أن النافذة قريبة من الأرض, و ليست مرتفعة, و إلا تحطمت عنقي..


    و ما أن لامست قدماي الأرض, المكسوة بالأعشاب الخضراء, حتى زفرت في ارتياح, ثم واصلت التسلل و خرجت من باب الحديقة الخلفي, و بعدها أخذت بالركض حتى وصلت إلى شارع كريس, لأجده واقفاً منتظرني, وضعت بيديّ على ركبتيّ, عندما أنهكني الركض, و أخذت ألهث طالبةً المزيد من الهواء, بينما تساقطت قطرات العرق, فالتصقت خصلاتي السوداء برأسي, عندها سمعت صوت كريس يقول متسائلاً في قلق: - هل أنتِ متأكدة أنكِ تريدين الذهاب إلى هناك الآن؟!


    عندها شعرت, بالفعل, أنني أود أن أتناول أي صخرة بالشارع, و أفتح بها رأسه, بالله عليكم, كم مرةً, سألني بها كريس ذلك السؤال؟!, و كم مرة عليّ أن أجيبه, "أجل أيها الذكي أريد أن أذهب", و لكنني كتمت غيظي, ثم قلت باصرار: - نعم, أود و أحب أن أذهب لذلك القصر, و اطمئن و ارح بالك, لأنه لن يحدث لنا شيئاً, و ذلك لأنه لا يوجد أي شيء مخيف غير عقلنا الباطن...لذا, لا ترعب نفسك من الآن, و لا تخيفها, وامحو تلك الأفكار و اصمت, لأنني لن أتراجع عن القرار...


    ابتلع كريس ريقه, بصعوبة بالغة, ثم تمتم بخوف: - حسناً, لنذهب...


    ........



    وصلنا للقصر على الساعة الثانية صباحاً, و دجى الليل قد توغل أكثر, فبدا القصر مرعباً عن السابق, لا حركة, لا أنفاس, لا شيء, فقط هدوء و صمت يصم الأذان, سرت قشعريرة بجسدينا, عندما هبت رياح باردة, " رياح باردة في الصيف؟!..غريب!!.", قلتها بداخلي حتى لا يسمعني كريس, و يخاف, ثم نظرت نحوه, فوجدت خصلاته البنية, تتحرك بفعل تيارات الهواء, فتحرك قلبي معها, و خفق خفقاً شديداً, بينما ظللت أتأمله في صمت, و لكنني أفقت على الفور و أنا أقول بسري, " هل هذا وقته أيتها الفتاة؟!..", ثم قلت بجد: - حسناً, هيا لندخل


    - و كأنكِ تقولين لي هيا لنلعب أو هيا لنغني, أو هيا لنمرح


    قالها بنفس السخرية, عندها دهست على قدمه, من فرط الغيظ, فتأوه كريس من الألم, فقلت له, متصنعةً الاعتذار: - أوه آسفة, لم أرى قدمك بهذا الظلام


    ثم تقدمته, نحو البوابة الكبيرة, و حاولت بكل جهدي أن أفتحها, و لكن لم أستطع, فنظرت نحو كريس, فجاء و ساعدني, و بالفعل انفتحت البوابة بعد جهد جهيد, و لكن كريس قال لي شيئاً, جعلني أشعر بالتوجس: - غريب, أليس من المفترض أن يضعوا قفلاً حديدياً, على البوابة؟!


    " إذاً, هل القصر بالفعل يود مني الدخول؟!, لأنه لم يمنعني..."


    توترت نبضات قلبي, فابتلعت ريقي, حتى أسكت الخوف, و أنا أقول: - هيا لندخل


    و بالفعل, دلفنا إلى الداخل, لنجد الحديقة المخيفة, " هذه الحديقة تشبه التي رأيتها بحلمي.. غريب", كان هذا ما دار بعقلي, عندما كنا واقفين نحدق بالحديقة و القصر, اللذان كانا يبدوان مخيفان, كمساكن للأشباح...


    " لا لا أنا لا أؤمن بوجود الأشباح..", قلتها بداخلي و أنا أشعر بأن قلبي ينقبض..


    مر بعض الوقت,علينا و نحن واقفين بمكاننا, لا نتحرك, فسمعت كريس يقول, قاطعاً الصمت المخيم حولنا:


    - ما رأيكِ أن نعود أدراجنا, و نكتفي بذلك القدر من الرعب؟!


    حدجته بنظرات تطاير الشرر منها, نحو كريس, ثم قلت بانفعال: - ماذا تقول؟!, لا لن أذهب بل سأدخل..إن أردت أن ترجع, فارجع بمفردك, أما أنا فلن أعود للبيت الآن


    في استسلام أطرق كريس رأسه للأرض, و قال بخيبة أمل: - حسناً, لندخل..



    قمنا بفتح باب القصر, و الذي بدا أنه لم يفتح منذ قرون عديدة, فأحدث ذلك الصرير المخيف, و هذا بسبب قدم مفصلاته, و بداخل القصر, كان كل شيء غارقاً بظلام دامس, فأخرجت من حقيبتي كشافاً صغيراً, و أشعلته, لتتضح الرؤية, كان كل شيء بالقصر غارق في كمية كبيرة من الغبار الكثيف, و الحشرات التي تتجول بحرية في القصر, و كأنها صاحبته الآن, بينما عششت العناكب في كل شبر منه, تقززت ملامح كريس من المكان, و كذلك أنا, حتى أنني لا أخفيكم سراً, شعرت بالخوف بعض الشيء, فاقتربت من كريس, حتى التمس الأمان, " و لكن ما هذا؟!.."...


    قاطع كريس أفكاري و هو يصيح برعب: - ما..ما..ما هذا؟!...ه...هل رأيتِ ذلك يا كلير؟!


    قالها و هو يشير باصبعه نحو الدرج, " إذاً, لست الوحيدة التي رأت ذلك الشيء, أو الظل, الواقف فوق الدرج..."


    أكمل كريس كلامه في رعب: - لقد اختفى ذلك الشيء, بمجرد أن نظرنا له...و لكنني لم أتبين ملامحه


    دنوت أكثر من كريس, و أنا أقول مشجعةً إياه, أو مشجعةً نفسي: - ربما هو خداع بصر, ربما سقط ظل أحدنا و ارتسم على الجدار الذي فوق الدرج


    - يا سلاام...و كأنكِ تقنعين طفل بالثالثة من عمره, حتى الطفل لن يصدق, فأي ظل هذا الذي ينبعث منه وهيج أحمر؟!


    قالها بسخرية و انفعال, ثم أكمل: - ألم أقل لكِ أن هذا القصر خطير و به أشباح؟!


    عندها أمسكت به في عصبية, و قلت صائحة: - اسمع يا كريس, لا وجود للأشباح..أنا لست طفلة لأصدق بوجودها, و هيا تعال معي, لنستطلع ماذا يحدث؟!


    و قبل أن يتفوه كريس بكلمة, ترفع ضغطي, أمسكت يده , ساحبةً إياه, و صعدنا درجات السلم الخشبي, و لكن بحذر, حتى لا ينكسر, فالله أعلم, كم من الزمن مر على ذلك السلم, المتهتك...


    كان السلم يصدر صريراً خافتاً, بسبب صعودنا عليه, و مع كل درجة نصعدها, يصبح الجو بارداً, و كأننا بقلب الشتاء...و كأن هناك عائق يمنعنا من الصعود و لا يريدنا أن نظل بالقصر...و لكننا لم نأبه, أو لم آبه بذلك, و استمررت بالصعود و أنا مشددة على يد كريس, حتى وصلنا للطابق العلوي, و الذي كانت به غرف كثيرة...


    تساءل كريس في حيرة: - ترى أي غرفة سندخل؟!


    هممت أن أجيب سؤاله, بقول.." لا أعرف..دعنا ندخل أية واحدة..", و لكن قاطعني صوت أحد الأبواب يفتح, فنظرت خلفي لأجد أن الغرفة التي بآخر الممر, مفتوحة على وسعها, و كأنها تنظر إلينا بتحدي من بعيد, و تقول بكل تهكم, " هل تجرأون على دخولي؟!, أروني قوتكم أيها البشر...", شعرنا بهلع شديد, فمن الذي فتح الغرفة؟!, هل هناك أحد غيرنا هنا؟!, و لكن مع ذلك استمر الفضول داخلي, يدفعني لمعرفة ماذا يحدث؟!, فتقدمت نحو الغرفة, و لكنني لم أشعر بأنني أتحرك و أنني لازلت بمكاني, " هل هناك عائقٌ ما؟!...", قلتها داخل عقلي, ثم نظرت نحو كريس, لأفهم , لماذا أنا واقفة و لا أتحرك؟!, بالطبع, إنه كريس, لقد وقف بمكانه ثابتاً, فمنعني من الحركة, عندها نظرت له متسائلة, فأردف في توتر: - هل جننتِ؟!, هل ستدخلين إلى غرفة قد فتحت نفسها؟!, أين عقلك؟!


    قطبت حاجباي, بعد أن شعرت بالانزعاج منه, فتركت يده, و تقدمت و أنا أقول: - حسناً, ابق أنت هنا أيها المغوار, و أنا سأذهب بمفردي


    و يبدو أن كلامي أثر به, ككل مرة, " جيد إن هذه الطريقة دوماً تنجح معه..", قلتها في نفسي, و أنا أكتم ضحكتي الخبيثة, عندما سمعت صوت خطواته خلفي...


    وصلنا للغرفة التي احتلت آخر الممر, فسمعت كريس يتساءل: - لمن هذه الغرفة يا ترى؟!


    عندها لمحت عيني, الاسم المكتوب على الباب.." لورين..إذاً, هي غرفة لفتاة أو سيدة تدعى لورين...", كنت أحدث نفسي, عندما قاطعني كريس قائلاً: - هل سندخل؟!, ما رأيكِ أن...


    لم أجعله ينهي كلامه, فقد سحبته و دخلت إلى الغرفة بالفعل, و بالداخل, كان كل شيء مغلف بالظلام, مثله مثل كل شيء بالقصر, و الغبار كذلك عالق بالهواء, وجهت بعدها الكشاف, في كل ركن من أركان الغرفة, حتى أستكشف تفاصيلها, فوجدت سريراً صغيراً, قد نال الغبار منه و ارتاحت العناكب فوقه, و خزانة ملابس صغيرة بالية, و مكتب عليه بعض الدفاتر و الكتب, و لكن يبدو أنهما لما يمسان منذ زمن, حتى ذوت صفحاتهم, و على الأرض كانت تجلس بعض الألعاب المتربة, " إذاً هي غرفة لطفلة اسمها لورين..", قلتها بنفسي مفكرةً, و أنا أتأمل الجدران, و من ثم تركزت عيناي كما تركزت بقعة الضوء من كشافي, على لوحة زيتية معلقة, اقتربت من اللوحة أكثر, لأدقق بالرسمة, التي كانت لطفلة جميلة و مبتسمة, ذات شعر أشقر كالشمس التي تتكبد السماء, و عينان بلون البنفسج, و لكنهما ليسا مطفأتين, بل تشعان بريقاً, " إنها هي...أجل هي ...", قلتها بداخلي, ثم ناديت على كريس, و قلت له بصوتٍ بانت الدهشة فيه: - كريس, انظر إلى تلك الفتاة التي بالصورة, إنها هي, الفتاة الحزينة البكماء, التي كانت بحلمي...أقسم أنها هي...


    وقف كريس بجواري, و قد شعرت بالحيرة في ملامحه, ثم قال في تعجب: - ماذا؟!, و ما علاقتكِ بها؟!


    هززت كتفي, و أنا أقول في حيرة: - لا أعلم...


    ثم نظرت ثانيةً للصورة, و أنا أفكر بسؤال كريس, " فعلاً ما علاقتي بها؟!, و لماذا ظهرت هي بالذات في حلمي؟!, و ما حكايتها؟!, لقد كانت سعيدة, هذا يبدو من وجهها بالصورة, إذاً, لماذا كل ذلك الحزن الذي رأيته فيها بالحلم؟!..."


    فجأة انغلق باب الغرفة علينا بشدة, قاطعاً تفكيري, و شرود كريس, و كذلك محدثاً بعض الرعب في قلبينا, و بخوف صحت:


    - يا إلهي...كيف سنخرج من هنا؟!



    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


  2. #2
    الصورة الرمزية شذى22
    شذى22 غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    7,799

    افتراضي


    ~الفصـــل الثانـي~



    ( دمـــاء!! )




    - قلت لكِ بأن المكان خطير و لكنكِ لم تستمعي إلي...قلت لكِ بأن نعود أدراجنا و لكنكِ لم تعيرينني أي انتباه..رباه ما العمل الآن؟!



    كانت هذه هي الكلمات المنفعلة التي خرجت من فم كريس و هو ينظر إلي في غيظ و عتاب, و قد


    تمكن الهلع منه, بعد أن انغلق باب الغرفة خلفنا, و حبسنا بالداخل, كان كريس غاضباً أشد الغضب,


    و أخذ يرغي و يزبد, بينما أنا أخذت أنظر حولي في المكان علني أجد شيئاً ما ينقذنا من هنا, ثم


    قاطعت انفعاله و صياحه و أنا أقول بصوتٍ جعلته هادئ إلى حدٍ ما, حتى أعطيه بعض الأمل:



    - أرجوك يا كريس لا تخف...سنحاول فتح الباب معاً..و إذا لم نستطع, عندها سنخرج من النافذة...أو...



    كنت أحاول تهدئة كريس و طمأنة قلبه و لو قليلاً, و لكنه قاطعني قائلاً بحدة:



    - أمازال لديكِ أمل في الحياة؟!...لماذا لم تستمعي لي منذ البداية؟!...كلير إذا متنا هنا , فأنتِ من سيكون السبب



    احتشدت عندها الدموع في مقلتي, و أنا أنظر إليه, و الشعور بالذنب يجتاحني, و كذلك لم يسبق لي أن رأيت كريس بهذه القسوة, فلقد كان تعامله معي رقيقاً ,

    " أنا السبب بالفعل..و لديه كل الحق إن كرهني أو غضب مني حتى..."

    , كنت ألوم نفسي بسبب أنني ورطت كريس معي بتلك المغامرة الغبية, قبل أن أسمعه يقول لي بصوتٍ معتذر:



    - أنا...أنا آسف يا كلير...لم أقصد أن...



    عندها قاطعت كلامه, و أنا أقول بندم على ما حدث:



    - لا تعتذر يا كريس..فأنا من يجب أن يعتذر..لقد كان معك حق...و ليتني لم أصر على دخول هذا القصر..



    أطرقت برأسي للأسفل, و أنا أشعر بأن الدموع تخنقني, و أنني انسانة غبية, بكل ما تحمله الكلمة من معنى, عندها شعرت بيد كريس تمسك بوجهي و ترفعه, و اليد الأخرى

    تمسك بيدي في حنان, كنت خجلةً من النظر إليه, و لكنني بالرغم مني, رفعت رأسي أكثر, فالتقت عينانا, و تعانقت نظراتنا, مطولاً, و كأنها لم تلتقي منذ زمن, رأيته يبتسم لي بحنان شديد,

    " آه كم اشتقت إليك يا كريس..."

    صحت بها داخل قلبي الذي كان يخفق معه, ثم ارتميت على صدره, بعد أن شعرت بالضعف الشديد يختلج داخلي, و أخذت أبكي و أبكي بحرقة و حرارة, أخرج ما بي من يأس

    و حزن في دموعي, التي بللت قميص كريس السماوي, ثم أخذت أقول بصوتٍ يخنقه الدموع و أنا أضغط على قميصه بيدي:



    - أنا آسفة يا كريس...أرجوك سامحني..كريس..أنا...



    وضع كريس بيده على فمي, حتى أسكت عن الكلام, و بيده الأخرى ربت على رأسي و هو يقول بحنان:



    - ششش..لا تبكي يا حمقاء, فأنا لست غاضباً منكِ, و سوف أكمل معكِ مغامرتكِ المجنونة..هيا ابتهجي



    كان كريس, يحاول تهدئتي, بكلماته هذه, مثلما دائماً يفعل معي, يساندني و يدفعني للأمام,

    " كم أنت طيب القلب يا كريس.."

    هذا ما وددت قوله و أنا أنظر بداخل عينيه الباسمتين, ثم مسحت بعدها دموعي, و ذهبنا, نحو الباب, و حاولنا فتحه معاً..



    بالبداية حاولت أن أدير مقبض الباب, مرة و اثنتين و ثلاث, و لكن باءت المحاولة بالفشل, فلم ينفتح الباب مطلقاً, و كأن المقبض أبى أن يدور ليفتح الباب اللعين,

    صرخت بداخلي في حنق, " تباً لك أيها الباب..", بعد أن اشتعل غضبي منه, عندها قرر كريس أن يحاول هو فتحه, فاندفع بكل قوته و ارتمى بجسده على الباب, و لكن لا أمل...

    أخذ كريس يكرر المحاولة, و لكن لم يتزحزح الباب شبراً واحداً, عندها استسلم كريس, و جثى على الأرض, منهكاً, ثم رفع برأسه و نظر لي نظرة موحية باليأس, و كأنه يقول لي,

    " ما العمل؟!...يبدو أننا سنظل هنا..."

    , فنظرت لكريس بدوري, مفكرة, و من ثم نظرت للنافذة, و قلت بعد أن حسمت أمري:



    - يبدو أنه ليس هنالك حل آخر..سوى هذه النافذة, فما رأيك؟!



    نظر كريس نحو النافذة, و يبدو أنه قد اقتنع بفكرتي, فقال مؤيداً:



    - حسناً, لنفتح النافذة و نخرج منها...سأخرج أولاً حتى أستطيع أن ألتقطكِ



    ابتسمت لكريس, حتى في مثل هذه الأوقات, لا يتخلى عن مرحه, و من ثم جذبته من على الأرض, و ذهبنا بعدها نحو النافذة, وقفنا نتأملها قليلاً, و بداخلنا ندعو الله, ألا تخذلنا, و تنفتح, ثم حاولنا بكل جهدنا, فتحها, و لكن..



    أجل, أجل كما حرزتم, لم تنفتح هي الأخرى, و كأن كل شيء يعاندنا, و يريدنا أن نظل محبوسين بتلك الغرفة الكئيبة..



    و لكن يبدو أن كريس لم يستسلم, فقد أحضر كرسي المكتب الخشبي, ثم اتجه نحو النافذة, بعد أن أصبح في ذروة غضبه, و هوى بالكرسي على الزجاج حتى يهشمه, و لكن

    فجأةً, اختفت النافذة و كأنها لم تكن موجودة, " يا إلهي ما هذا؟!.."




    - م..م..ما هذا؟!..إنها...إنها...



    - دماء!!!



    قلتها في دهشة و استغراب, متممةً لكلمات كريس, الذي كان مشدوهاً, و مأخوذاً هو الآخر, و نحن واقفين مذعورين و متحجرين بمكاننا, نحاول أن نستوعب ما حصل و ما

    يحصل, فلقد اختفت النافذة, و تحول المكان كله, فجأةً من حولنا, إلى دماء... دماء صبغت الجدران, و حتى الكرسي كان مغطاً بالدماء, كالسرير, الذي امتلأ به, و الوسادات

    ممزقة, شر تمزيق, فانتشر قطنها, داخل الغرفة الدامية, و بصمات لأيادي ملوثة بالدماء, أيادي صغيرة و كبيرة, على الأرضية, و على الحائط, و كأنها كانت تطلب النجدة و

    العون, و من ثم سمعنا فجأةً, صوت...لا لا, بل أصوات ركض, مريب, و مرعب, خارج الغرفة, ثم تلتها صرخات و عويل, هزت أفئدتنا, صرخات خرجت من كل مكان, حتى

    كدت أن أجزم, أن الجدران هي التي تصرخ, صيحات صغيرة طفولية, و صرخات كبيرة أنثوية,

    " يا إلهي ما الذي يحدث؟!.."

    , هذا هو السؤال الذي يتردد بداخلنا الآن, و نحن واقفين مصدومين مما يحصل أمامنا, و فجأةً, لمحت باب الغرفة الملوث بالدماء, ينفتح بقوة, و يبدو أن كريس لاحظ ذلك,

    فأمسك بيدي, و انطلق يعدو, خارجاً من الغرفة, بل من القصر المشؤوم نفسه, دون أن يفكر...



    ركضنا و ركضنا, بكل ما أوتينا من قوة, و كأننا كالغريق الذي يتشبث بقشة, حتى خرجنا بالنهاية من الغرفة, فتنفست الصعداء, و أنا أقول بداخلي,

    " لقد حسبت أننا لن نخرج أبداً منها.."

    , أخذت أنظر حولي فوجدت أننا بالردهة العلوية, و لكن هل تظنون أن الأمر انتهى إلى هذا الحد؟!...لا, بل إن ما حدث كان البداية فقط...

    .....


    جذبني كريس, مكملاً ركضه, عندما أخذت نوافذ القصر و الأبواب, تنغلق و تنفتح من تلقاء نفسها, بشدة و عنف, حتى كادت أن تتحطم, و تحطم أعصابنا معها, بينما اهتز

    القصر اهتزازاً شديداً, و تعالت أصوات الصيحات و الصرخات المكتومة, و أنين يصدر من كل مكان, ثم بدأت الدماء تزحف على الجدران و الأسقف, و الأسطح, و الأرضية,

    لقد كانت تزداد مع ازدياد الصرخات و البكاء...بكاء يقطع الأكباد, بكاء أناس تطلب الغوث و لا تجده,

    " لماذا أشعر بالألم في قلبي؟!, لماذا رأسي يؤلمني؟!, هل بسبب تلك الدماء؟!, أم بسبب الأنين الذي أسمعه؟!.."

    , دارت هذه الأفكار برأسي, عندما ملأت رائحة العطن المكان كله, و كلما حاولنا الخروج..كلما ازدادت رائحته المقززة, و ازدادت الصيحات و البكاء, و اشتدت الأبواب و

    النوافذ في ارتطامها, فوضعت بيدي على أذني, حتى أحجب تلك الأصوات عن عقلي, عقلي الذي كاد أن ينهار, بينما انتابتني حالة هستيرية من البكاء, و أنا أردد بداخلي,



    " يا إلهي ماذا حدث هنا؟!...يا إلهي أنقذنا...لا أريد الموت...لا أريد...لاااا.."



    كنت أصرخ بداخل عقلي, حتى قطع صراخي صوت تقطيع, إنه ذلك الصوت الذي يصدر, من أي لحم يقطع بأداة حادة, بل جسد يقطع بفأس أو ساطور ربما, ارتجفت رعباً من تلك الفكرة,



    " هل هناك مجنوناً ما يقطن هنا؟!..",



    لم تعد أعصابنا تحتمل تلك الأصوات التي اختلطت ببعضها, و فجأةً, هوت ضربة شديدة على رأسينا, من الخلف, أفقدتنا توازننا, فوقعنا أرضاً أنا و كريس, و عندها شعرت

    برأسي يدور, و يتألم, فرفعت ببصري للأعلى, كان لابد لي أن أرى من صاحب الضربة؟!, إنه الفضول كما تعلمون, فوجدته يقترب و يدنو مننا, لم أتبين ملامحه بوضوح, فقد

    كان مهمشاً, ربما بسبب الضربة التي نلتها, و لكنه كان واقفاً أمامنا, و شعرت بنظراته تخترقني,

    " ترى من هذا؟!.."

    كان هذا السؤال على لساني, قبل أن أشعر بالنعاس, و تسقط أجفاني.....

    .....



    فتحت عيناي المثقلتان, ببطء, و أنا أشعر بالوهن في كل أنحاء جسدي المتراخي,

    " أين أنا؟!.."

    , نهضت بتثاقل من على الأرض, لأجلس و أرى أين أنا؟!, لقد كانت غرفة واسعة, و لكنها لم تكن غرفة لورين الصغيرة, أخذت أجول ببصري, أتفحص المكان, فوجدت عند

    إحدى الأركان, مكتبة صغيرة, وقفت مستندةً إلى الجدار, كانت تحوي كتباً كثيرة, بدت أنها كتب علمية و ثقافية, و بمحاذاتها مكتب أنيق, من الأبانوس, موضوعاً عليه غليون, و عوينات, لها إطار مذهب,



    " يبدو أننا نقلنا إلى غرفة المكتب...مؤكد أنها لصاحب القصر, و يبدو أنه مولعاً بالعلم و الثقافة..."

    , كانت هذه هي الأفكار التي استطعت تجميعها, داخل عقلي, و لكنني قطعت تفكيري, عندما شعرت أن هناك شيء ما ينقصني,

    " أين كريس؟!.."

    , تساءلت في نفسي, ثم أخذت أدير بصري بالغرفة ثانيةً, حتى وجدته, بجانبي على الأرض,ممدداً, كان لا يزال مغشياً عليه, تأملته بشفقة و أنا أقول

    " أوه, مسكين أنت يا كريس, يبدو أن الضربة كانت شديدة عليك..."

    , زحفت حتى وصلت إليه و أصبحت بجواره, ثم أخذت أهزه برفق, إلى أن فتح عينيه المذعورتين, ثم نظر لي بعدم فهم, و من ثم هب جالساً في موضعه فجأةً, و أخذ يردد برعب:



    - أين نحن؟!...هل مازلنا أحياء؟!...أمي...أبي...كلير..!!!



    - كريس لا تنفعل و اهدأ قليلاً..لا تخف أنا هنا



    قلتها حتى أوقفه عن الصراخ, ثم أكملت كلامي قائلة بهدوء:



    - نحن مازلنا محتجزين, لذا, دعنا نفكر كيف نخرج من هنا؟!



    - و و لكن أين نحن؟!...ألم نكن بالردهة ؟!...ما الذي جاء بنا لهذه الغرفة؟!



    قالها كريس متسائلاً, في ذعر, فأكملت تساؤله, و أنا أقول بحيرة:



    - و الأهم من هذا...من الذي هاجمنا؟!



    أخذت أنا و كريس ننظر لبعضنا البعض, محاولين تجميع و تفسير الأحداث...كان ذهننا يعج ببحور و محيطات من الأسئلة,

    "فإذا كان هناك شخص يريد قتلنا, لماذا لم يقتلنا و نحن فاقدين الوعي؟!, لماذا ضربنا؟!, و من هو؟!"



    , قطع كريس الصمت قائلاً و هو يقطب حاجبيه:



    - إذاً...لسنا الوحيدين هنا بالقصر...هناك من يسكن هنا...هذا ما ستقولين, أليس كذلك؟!



    - بلى و لكن...



    - و لماذا لا تعترفين بأنها أشباح؟!...صدقيني إنه مكان ملعون



    قالها كريس في انفعال مقاطعاً إياي, فصحت به في غيظ:



    - و لماذا تضربنا الأشباح أيها الذكي؟!...لماذا لا تهاجمنا مباشرةً من أمامنا؟!



    صمتُ قليلاً, و أنا أحاول تهدئة أعصابي, ثم أكملت في لامبالاة:



    - و على العموم, أنا لا أصدق بافتراضية الأشباح...



    جز كريس على أسنانه و هو يقول بعد أن نلت منه:



    - يا لكِ من عنيدة..بعد كل ما مررنا به من أحداث, و لازلتِ لا تصدقين بوجودها



    تنهد بتعب, ثم أكمل و هو يمد بيده نحوي, و باليد الأخرى يضعها على الأرض لينهض:



    - حسناً, هيا لـ....



    ( تك..تك...تك...تك...تتك....تك)



    صوت خطوات بطيئة, تمشي خارج الغرفة, قطعت كلام كريس, فجعلت قلوبنا ترتجف,

    " هل ممكن أن تكون تلك الخطوات للشخص المجنون؟!..."

    , كان هذا ما يدور بداخلي, عندما تكلمت بصوتٍ منخفض و مرتجف من الخوف قائلة:



    - أأ..أسمعت هذا؟!..يبدو...يبدو



    - يبدو أن أحداً ما قادماً



    قالها كريس بصوت منخفض, فأكملت مقترحةً:



    - حسناً, ما رأيك أن نفتح باب الغرفة ببطء حتى نرى من القادم؟!



    مط كريس شفته و هو يفكر في الاقتراح, الذي يبدو أنه لم يرق له, فنظرت له نظرة رجاء, عندها همهم موافقاً, و نهضنا من على الأرض بعدها, و اتجهنا صوب الباب...



    فتح كريس باب الغرفة ببطء و حذر شديد, بعد أن حبس أنفاسه, حتى لا يسمعنا ذلك القادم, ثم أطل برأسه في حذر كذلك, و أخذ يجول ببصره في الأنحاء, أنا كذلك, أخرجت رأسي معه, حتى أرى, و لكننا لم نجد أي شيء,

    " غريب إذاً, من كان يمشي؟!, هل أصبنا بهلوسة سمعية؟!.."

    قلتها بداخلي, و من ثم قررنا أن نخرج من هذه الغرفة, بعد أن اطمأن قلبينا, و لكن ليتنا لم نفعل..



    فعند الممر, فوجئنا بخيال ما مر من أمامنا, جعلنا نتسمر بأمكننا, متجمدين, و من ثم اختفى ذلك الخيال, لنسمع صوتاً يدندن, برقة, صوتاً جميلاً, أنثوياً و حنوناً, و لكن بنفس الوقت, شعرت بأنه بارد...



    ( همممم..هممم....هممممم....همممم...)



    تعالت الدندنة أكثر و أكثر...( همممم...هممممم...هممممم)




    و فجأةً وجدت نفسي, من دون وعي, أسقط على الأرض أمام مرأى من كريس, الذي اندهش و فزع مما حدث لي, و أخذت أصرخ و ألتوي بجسدي على الأرض, كالتي

    أصابتها حالة جنون, بينما أخذت عيناي تذرفان الدموع, و أنا أتأوه بشدة, كان قلبي ينبض بشكل غير طبيعي, حتى آلمني, و مع ازدياد صوت الدندنة, يزداد صراخي, و تزداد

    تشنجاتي المرعبة, على الأرض, فأيقنت أن ما يحدث لي هو بسبب ذلك الصوت الذي يدندن الآن, فوضعت بيداي على أذناي, حتى لا أسمع, و أنا أصرخ أمام كريس قائلة في تألم:



    - كفى..كفى..هذا يكفي...أوقفوا الصوت...كفى..كفى...لا أريد أن أسمع



    " غريب لماذا أفعل ذلك؟!...لماذا تلك الدندنة تؤلمني أنا بالذات؟!...هل هو سحر أم مرض أصابني؟!.."

    , هذا ما كان يدور داخل عقلي, الذي كان سينفجر, بسبب الضغط الهائل الذي أشعر به, يقع عليه, فضغطت أكثر بيداي على أذناي, أما كريس فقد جلس بجواري يهزني في قلق, و يصيح برعب:



    - كلير...كلير..ماذا حدث لكِ؟!...أرجوكِ اهدأي قليلاً...كلير...



    و لكن لا فائدة, فقد أخذت أتلوى أكثر على الأرض كالمجنونة, و أخذت أصرخ قائلة و الدموع تفيض أكثر من عيني:



    - لا أحتمل...أنا لم أعد أحتمل...أبعدها...أرجوك أبعد ذلك الصوتي...لا أريد أن أموووت...لا أريد



    استمر كريس بهزي, بكل قوته, و صفعي مراراً, حتى أفيق , و لكن دون جدوى, عندها جذبني من على الأرض, و أمسك بكتفي و صرخ في وجهي قائلاً, حتى أسكت عن النواح و التلوي:



    - كلير اسمعيني..هذا يكفي, أنا هنا..لا تخافي أنا هنا...بجواركِ...هيا افتحي عينيكِ..انظري إلى وجهي



    ثم أمسك بيدي و جعلها تتلمس وجهه, حتى أصدق, بالبداية كنت أرتجف, و لكن ما أن شعرت بملمس جلده, حتى توقفت عن الصياح, ثم أخذت يدي تتحسس خصلات شعره,

    و كأنني لا أصدق أن كريس موجوداً معي, ففتحت عيناي ببطء شديد, لأجده ممسكاً بي, يحدق بوجهي, و الرعب و القلق و الهلع, بادٍ على ملامحه, بينما تقارب حاجبيه من

    بعضهما, بسبب الذعر, الذي سببته له, و بصوتٍ متسائل, قال حتى يطمئن قلبه:



    - ك..كلير...هل أنتِ بخير؟!



    رميت نفسي بين أحضانه, و أنا لا أصدق أنني لم أمت و لازلت حية, ثم طوقته بذراعي, و أنا أنشج من البكاء, و أقول:



    - كريس لا تبتعد عني...ظل معي...أرجوووك..لا تبتعد



    بالطبع لم يفهم كريس أي شيء من ذلك التصرف الغريب الذي فعلته, و قد ظل فاتحاً فاهه و عينيه, بسببي, و لكنه سرعان ما بدلهما إلى ابتسامة عذبة, و هو يربت على رأسي في حنان قائلاً:



    - أيتها المجنونة, لقد جعلتيني أقلق عليكِ...كاد قلبي أن يتوقف و أنا أراكِ هكذا



    شددت بقبضتي على قميصه السماوي, و أنا أقول:



    - عدني بأنك لن تبتعد



    - لن أبتعد عنكِ...لا تقلقي



    قالها كريس, بخفوت, جعل وجهي يتضرج بحمرة الخجل, بينما خفق قلبي, و أنا أستمع إلى نبضات قلبه , و أشعر بأنفاسه الهادئة, تتدفق و تتغلغل داخل أوردتي و شراييني, فقلت بداخل قلبي,



    " أحبك أيها الأحمق الكبير..أحبك..."



    و لكن سرعان ما أبعدت نفسي عنه, عندما شعرت بالخجل يعتصرني, فتنحنحت , ثم قلت بارتباك:



    - هيا, لنكمل طريقنا...



    كانت الدندنة لا تزال موجودة, و لكن حِدة الصوت, انخفضت قليلاً, فأكملت متسائلة:



    - ترى من التي تدندن؟!...هل هناك سيدة موجودة هنا بالقصر؟!



    زفر كريس, معبراً عن مدى حيرته, ثم علق شارداً:



    - و الأهم من هذا , ما ذلك الخيال الذي مر بنا؟!...



    التفت إلي, بعد أن فاق من شروده, ثم أكمل قائلاً و قد رسم الجد على ملامحه:



    - كلير من الأفضل لنا أن....



    و لكنه لم يكمل كلامه, عندما اتسعت عيناي, في رعب, فمال برأسه نحو اليمين متسائلاً , بمعنى ماذا هناك؟!, فقلت بصوتٍ مرتعش و أنا أشير بإصبعي خلفه:



    - ك..كريس..ه..هناك..ش..شيء غريييب..متوهج...ينظر باتجاهنا...إ..إ..إنه ييي..يقتررب..



    قطب كريس حاجبيه, ثم التفت بحركة سريعة للخلف, ليرى إلى ماذا أشير, و ماذا أقصد بكلامي؟!, ليشخص بصره هو الآخر, من فرط الفزع, ثم صاح قائلاً:



    - يا إلهي...هذا ما كان ينقصنا!!....هيا لنهرب قبل أن يصل لنا هذا الشيء




    ـــــــــــــــــــــــــــــــــ


  3. #3
    الصورة الرمزية شذى22
    شذى22 غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    7,799

    افتراضي


    ~الفصـــل الثالـث~



    ( أشبــاح...و...أوهـام )





    " ما هذا الشيء المتوهج؟!...ما هي كينونته؟!...هل هي أشبـ...لا لا أنا لا أصدق بها"



    كنت أكلم نفسي, بل أصارع أفكاري و أنا أقف كالصنم بمكاني, أحدق في ذلك الشيء المتوهج, و يبدو أنني قد نسيت نفسي أمامه, و لم أركض مع كريس هرباً, بل كل ما فعلته هو الوقوف بمكاني, و التحديق, بذلك الشيء, الذي أخذ يقترب مني,

    " لماذا أشعر بأن هناك شيءٍ ما يناديني؟!..لماذا أشعر أنني أسمع أصواتاً بداخله...أصواتاً مألوفةً لي؟!.."



    هذا ما سطع بداخلي, عندما ظل ذلك الشيء يقترب, و أنا أحدق, يقترب و أحدق, " لماذا لا أتحرك؟!.."



    انتبه كريس لعدم وجودي بجانبه, فنظر خلفه, ليجدني لاأزال واقفة, و لا أتحرك, فاتسعت عيناه, مندهشاً, من تصرفي الأحمق ذلك, ثم عاد أدراجه, مسرعاً, نحوي, و هو ينادي بعلو صوته:



    - كليييييير...أفيقي يا كليييير...تحركي أيتها المجنونة



    كان الشيء قد دنا مني أكثر, حتى أصبحت المسافة بيننا لا تتعدى سنتيمترات بسيطة, و قبل أن يلمسني ذلك الوهيج, شعرت بيدٍ تطبق على معصمي, و تنتشلني من بحر

    الضياع الذي كنت سقطت فيه, أخذت أرمش بعيني, أكثر من مرة, عندما لم أفهم ما حصل؟!, ثم نظرت بجواري, لأجد كريس يجذبني, و هو يقول بانفعال:



    - ليس هنالك وقت للأسئلة...هيا اركضي بأقصى ما لديكِ



    لم أحرك فاهاً, و بالفعل, حثثت قدماي على الركوض معه, و انطلقنا عدواً, نازلين على سلالم القصر, هروباً من ذلك الشيء الذي يلاحقنا, و لكنني بين الفينة و الأخرى, كنت ألفت رأسي, لأرى هل هذا الوهيج مازال يطاردنا أم لا؟!, لأصاب بخيبة أمل..



    " يا إلهي, ألن ينتهي هذا الكابوس؟!.."



    قلتها في تملل و خوف, مما سيحدث, و مما يحدث, كانت نبضات قلبي تتعالى, و أنفاسي تتسارع في الخروج, ليعلو صدري و يهبط, من شدة الانفعال..



    " و لكن..لماذا أشعر بأننا لا نتحرك و نركض في أماكننا؟!..."



    هذا ما كان بداخلي, و أنا أرى ذلك الشيء يقترب, و نحن لا نبتعد, ربما كان ذلك خداع بصر, أو ربما بالفعل لم نكن نتحرك, أو أن ذلك الوهيج الملعون, سريع للغاية, أطلقت

    زفرة طويلة, حتى أخرج بها القلق الذي أشعر به, ليقاطعني كريس متسائلاً, و هو يلهث من التعب, و يمسح قطرات العرق التي تصببها, من على جبينه:



    - كلير, ما العمل؟!...إن هذا الشيء لازال يطاردنا, و قد اقترب منا كثيراً...و...و أنا قد تعبت لذا...



    صمت قليلاً, ثم أمسك بكتفي, و نظر بعيني, و ابتسم, ثم قال بهدوء:



    - اهربي أنتِ, و انجي بحياتك...سوف أبقى هنا لأشتت انتباهه..و...



    - لااا...لن أتركك بمفردك...لن أتخلى عنك حتى لو حانت النهاية



    كنت أصرخ و أنا أقاطعه, و أبعد يديه, بينما أذرف الدموع من عيني, عندما تفوه بتلك الكلمات, و بداخلي صرخت أكثر, و أنا أقول

    " ما هذا الهراء الذي تتفوه به يا كريس, أيها الأحمق , الغبي...كيف لي أن أتركك؟!..هل جننت؟!"



    كنت أشعر بنياط قلبي يتمزق, من مجرد الفكرة فقط, فكرة ابتعاد كريس عني, فما بال لو حدث ذلك بالفعل...و ضاع كريس مني؟!...



    نظرت في عينيه, لأجد الدموع قد غزت عيني حبيبي, أجل إنه الشخص الذي أحبه, كيف لي أن أدعه يموت, و يضحي, لا لن أحتمل ذلك..



    ابتسمت له, حتى أخفف عنه, ثم قلت له , حتى أطمئنه و أنا أمسح دموعه بيدي:



    - لا تقلق يا كريس, فكل شيء سيكون على ما يرام...و أنا واثقة بأننا سننجو معاً



    ابتسم كريس عندها لي, " رباه ما أجمل ابتسامته, إنها تشعرني بالحياة و الراحة و الأمان....أرجوك يا كريس ظل مبتسماً للأبد...", قلتها بداخلي و أنا أبادله الابتسام بدوري, عندما قال و هو يطبق على يدي:



    - كلير, مهما حدث...فأنا أثق بكِ



    أخذنا نركض بعدها مجدداً, مسرعين باتجاه باب القصر الكبير, و لكنني بحق, شعرت و كأننا في فيلم مطاردة, كمطاردة القط و الفأر, فلقد كان ذلك الشيء يلاحقنا كالكابوس, و لكن لا بأس, فهاهو باب القصر أمامنا, لقد صار على بضع خطواتٍ قريبة منا, و سنخرج من هنا أخيراً و نتحرر...



    هل قلت ذلك؟!...ليتني لم أقل ذلك, و ليتني لم أكن متفائلة إلى هذه الدرجة...



    لقد شعرت ببرد, بل جليد يتسلل إلى عظامي, و ينخر بها, ثم يدب بأنحاء جسدي, ليتجه مسرعاً, نحو قلبي, الذي سمعت صدى ضرباته, يدق في أذني, بل إن كل خلية بجسدي كانت تنبض و تنتفض,



    " رباه, أهذه هي النهاية؟!..هل سأموت في ذلك المكان؟!...ياللسخرية.."



    كان قلبي يتجمد برداً, و من ثم شعرت بتثاقل في جسدي, منعني من الحركة, عندها لفت رأسي للخلف, فوجدت ذلك الشيء, لا يزال موجوداً, و لكنه اقترب أكثر من السابق, اقترب و بشدة...



    " ماذا الآن ؟! هل سينتهي كل شيء...بهذه السهولة؟!.."



    لا أعرف هل كنت أسخر من نفسي؟!, أم أنا حزينة و سأنفجر من الحزن؟!, فبعد كل ذلك الركض, و الحذر, سننتهي, أو ربما أنا من ستنتهي..



    " الآن أرجوك انقذ نفسك يا كريس...انقذ نفسك من هذا الجحيم..."



    كانت هذه هي آخر أمنية تمنيتها, و أنا أتهاوى بجسدي على الأرض, ثم شعرت بثقل أجفاني, كانت تريد النزول, لم تعد تحتمل أن تظل مفتوحة, تريد أن ترتاح, فلبيت رغبتها, و أغلقتها, أو سقطت هي, و لكن ببطء...و لكن مهلاً, مهلاً, يجب أن أرى كريس للمرة الأخيرة, حتى أحفظ وجهه بداخلي, ليرافقني إلى العالم الآخر...



    لفت رأسي بجانبي, لأجد كريس, و لتنتابني صدمة, كانت كالصفعة القاسية, فلقد كان هو الآخر ساقطاً على الأرض, إذاً, لم ينجو أحد, و سنموت كلانا, شعرت بالحزن من أجله, و لكنني ابتسمت له, حتى أودعه, و بداخلي أتساءل..

    " ترى هل سأراك ثانيةً؟!.."



    ثم أغمضت عيني بالنهاية, بعد أن ضممت يد كريس, بيدي, حتى تظل روحي معه, و لكنني كنت قد شعرت بذلك الوهيج يجثم فوقي, أشعر بأنه احتواني كلياً, و من ثم لم أعد

    أرى شيئاً, سوى الظلام...ظلاام...ظلام دامس, و بحر من عتمة الديجور, يلفني, فقط سمعت صوت الدندنة, يزداد ثانيةً, و فجأة....لم أعد أشعر بشيء...



    .....



    " أسأل نفسي...ما هو الفرق بين الحياة و الموت؟!...هل هو التنفس؟!..هل هي نبضات القلب؟!...أم ترى هناك فرق آخر؟!...."



    لم أعرف كم مر من الوقت علينا و نحن على هذه الحالة البائسة؟!, حالة انعدام روحي, حالة فقدان وعي, نشعر و لا نشعر, لا ندري هل نحن موتى أم...لا زلنا أحياء؟!...



    و لكن كل ما أعرفه, هو أنني صحوت من غفوتي, إذا أحببتم أن أسميها غفوة, و لكن بالنسبة إلي, أشعر بأنني كنت قد مت, و لكن لم يكتمل موتي....



    و فتحت عيناي, بتثاقل, لأجد كريس بجانبي, كان يبكي و يهز جسدي, حتى أستيقظ, نظرت في وجهه, لأجد الهلع, يشع من عينيه, فلقد كان قلقاً علي, كان يظن أنني قد مت و تركته, و ما أن رآني أنهض, حتى ابتسم و اتسعت ابتسامته, ثم أخذت دموعه تنهمر, و هو يقول بسعادة و نشوة:



    - يا إلهي, أخيراً استيقظتِ, أشكرك يا إلهي...لقد خفت كثيراً عليكِ...لقد ظننت...ظننت



    - ظننت أنكِ قد ذهبتِ مني للأبد



    قالها في حزن و تألم, و هو يغمض عينيه, بل يعتصرهما, حتى يبعد فكرة الموت عن رأسه, فنظرت له و ابتسمت قائلة في مزاح:



    - لا تخف...فأنا لا أنوي أن أريحك مني بهذه السهولة



    صمتُ عن الكلام, ثم أخذتُ أنظر حولي, لأجد أننا بمكان غريب, لم أعرف أين نحن؟!, و لكنني أتذكر أننا آخر مرة كنا ببهو القصر, أمام الباب, الذي كان يبعد عدة سنتيمترات عنا, فقلت متسائلة باستغراب:



    - ما هذا المكان؟!...أين نحن؟!...إنه أشبه بــ...



    - بالقبو؟!



    قالها كريس, مجيباً تساؤلاتي, التي تحاصر عقلي, فنظرت له بدهشة, لأجده يقول, مجيباً كذلك تساؤلي, عن كيف عرفت؟! :



    - هذا بسيط...مكانٌ رطب...و مظلم...به معول...رائحته عطنة...كلها أمور تشير إلى القبو...يشبه قبو المنازل المرعبة التي أراها بالأفلام...




    " جميل نحن إذاً, بقبو...و لكن لماذا انتقلنا للقبو و كيف ؟!"



    كان هذا ما يطرحه عقلي, عندما, اتسعت أعيننا فجأةً, و نحن نرى المكان أصبح مشوشاً, بالبداية ظننت أن هناك عيب في النظر, و أنني ربما أصبت بمرض في عيني, أو

    ربما أشعر بدوار, و لكنني تأكدت أنني سليمة, عندما رأيت الدهشة و الرعب على وجه كريس, ففهمت, أن ما نراه الآن حقيقة تحدث, و أن العيب بالمكان, و ليس بنا...



    كنا واقفين متجمدين بمكاننا, بلا حراك, نشاهد فقط, و كأنه عرض سنيمائي يجري أمامنا, كانت صورة المكان تهتز, و تتداخل مع صورة مكان آخر...

    " هل يعقل هذا؟!..هل هناك شيء اسمه تداخل مكانين؟!..."



    دققت ببصري أكثر, لأفهم ما هو المكان الذي يتداخل مع القبو؟!, لتسقط الحروف من فمي في توجس و خوف:



    - م...مقابرررر



    اختفى القبو تماماً, و وجدنا أنفسنا, بالمقابر..كانت مظلمة و موحشة, و لم يكن يوجد قمر حتى, لينير لنا, و بجواري هتف كريس بفزع:



    - كيف انتقلنا إلى المقابر؟!



    - لا أعرف..و لا أفهم شيئاً



    قلتها و أنا أتأمل, منظر شواهد القبر الرخامية, و المكان المقفر الذي نحن فيه, ثم وجدت نفسي, أتقدم نحو الأمام, نحو المقابر, و كأنني مسيرة, و مسيطراً علي, فهتف كريس متسائلاً بجزع:



    - إلى أين تذهبين يا كلير؟!



    بحق, لقد كنت أتصرف بغرابة شديدة, و لا أعرف لماذا؟!, و لا حتى ماذا حل بي؟!...



    كان الجو بارداً, و سقيماً, و لازلت أسير بخطوات بطيئة, نحو المقابر, وسط نداءات كريس علي, و عندما شعر أنني, لن أستجيب له, لحق بي, ثم أمسكني من ذراعي, فأوقف حركتي, على الفور, و كذلك, شعرت أنني قد أفقت من تلك السيطرة, فالتفت نحوه و تساءلت بدهشة:



    - ماذا هناك؟!



    و قبل أن يتكلم كريس, وجدنا صورة المقابر تهتز و تصاب بتشويش, حتى أصبحت ضبابية, كما حدث من قبل, و من ثم ظهر القبو ثانيةً..



    لم نعد نعرف أين نحن؟!, و لم نعد نفهم شيئاً...فجأة, نجد أنفسنا بالمقابر, و تارةً بالقبو, ظل ذلك التردد و التداخل يحدث, حتى شعرت برأسي يدور, فوضعت بيدي على رأسي, و ضغطت عليها, و يبدو أن كريس لاحظ تعبي المفاجئ, فتساءل بعد أن ساوره القلق:



    - كلير ماذا بكِ؟...هل أنتِ بخير؟!



    - رأسي...ستنفجر...رأسي..رأسي...إنها تؤلمني و تحرقني



    كنت أقولها و أنا أصرخ, و أصر على أسناني و أئـن من الألم, الذي كاد أن يفتك بي, و لكن تلاشى إحساسي بالوجع و الألم, فور ظهور ضوء أزرق, أضاء المكان المظلم....



    أبعدت يدي عن رأسي, و نظرت لذلك الضوء, أو بالأصح الطيف الأزرق, و من ثم أخذت أحدق به, لأتبين ما كنهه, اقتربت منه, و لم أستمع لتحذيرات كريس, كعادتي...



    وقفت أمام الطيف, لأجد أنه لم يكن سوى تلك الفتاة الصغيرة لورين, و قد أحيطت بهالة زرقاء, متوهجة, كانت تنظر لي بدورها, و أقسم لكم أنني شعرت بأنني سمعت

    صوتها, مع أنها لم تتكلم, و لكنني شعرت أنني سمعت ما يدور بعقلها, أشعر بأن هناك نوعاً من التواصل الروحي بيننا, مع أنني لست من المصدقين بوجود ذلك, المهم أنها

    كانت تريد مننا اتباعها, و بالفعل أخذت أسير خلفها, عندما استدارت و أخذت تمشي, أو بالأصح تطير على الأرض, عندها قاطعني كريس صائحاً:



    - أيتها المجنونة لقد اتعبتني..متى ستستمعين إلي؟!...بالله عليكِ أين تذهبين؟!..هل ستتبعين شبحاً؟!



    توقفت بمكاني, و لكنني لم ألتفت لكريس, فقط أكتفيت بقول:



    - سوف نتبعها...إنها تريد منا ذلك



    قلتها بحزم, و شعرت بأن كريس قد أصاب بجلطة من كلامي, فصاح برعب قائلاً:



    - يبدو أنكِ جننتي بالفعل...إنها شبح يا كلير, هل سنذهب وراء شبح؟!



    - و ماذا سنخسر؟!..فمن الممكن أن تدلنا على مكان الخروج...أنا أشعر بأنها فتاة طيبة



    - ولكن...



    - أرجوك ثق بي يا كريس



    قلتها راجية و مقاطعة كلام كريس, عندما التفت له, فتنهد بعد أن غلب على أمره, و قال باستسلام:



    - حسناً...هيا, لنذهب



    ابتسمت له, ثم التفت ثانيةً, لأجد لورين, قد صعدت سلم القبو الخشبي, و فتحت الباب الذي فوقه, فتنهدت في راحة, و هتفت بداخلي في سعادة,

    " أخيراً, سنخرج من ذلك القبو المميت..."



    صعدنا السلم خلف لورين, و من ثم دلفت بنا إلى الردهة, المؤدية على بهو القصر, فقلت لكريس حتى أطمئنه:



    - أرأيت...لقد أخرجتنا الفتاة من القبو...و سنخرج من القصر بعد قليل



    همهم كريس, همهمةً قصيرة, و كأن الكلام لا يعجبه, أو فيما معناه, " لا تتفاءلي كثيراً, و دعينا نرى ما سيحدث", فشعرت بالغيظ منه, كنت أود أن أدهس قدمه, و لكنني

    بدلاً من ذلك, أسرعت خطواتي, متقدمةً نحو الأمام, و متبعةً, لورين, التي خرجت بنا نحو البهو الواسع, ذلك المكان, الذي فقدنا فيه الوعي أنا و كريس, قبل أن نتمكن من

    الهرب, و لكن أصابتني الحيرة, و الدهشة, و الصاعقة, عندما وجدت لورين تتجه, نحو درج القصر, المؤدي للغرف, بدلاً من ذهابها نحو الباب, فتسمرت بمكاني, و من ثم أخذت أنادي على لورين قائلة:



    - هييه, لورين...أيتها الفتاة, إن باب القصر هنا



    قلتها و أنا أشير نحو الباب بيدي, فقد كنت معتقدة أن الفتاة, قد اختلط عليها الأمر, و لكنني كنت مخطئة, فقد ظلت لورين تصعد للأعلى, دون أن تلقي لي بالاً,

    " إذاً, لم ينتهي الكابوس بعد!!.."



    زفرت بحنق, فوجدت لورين قد وقفت بمكانها, و من ثم التفتت, و نظرت إلي, شعرت بنظراتها تخترقني, و تتغلغل داخل فؤادي,

    " لماذا أشعر بالشفقة على هذه الصغيرة؟!..لماذا أشعر بمشاعر مختلطة تجاهها؟!.."

    , و هكذا غيرت من رأيي, و ذهبت خلفها, لأصعد الدرج, فسمعت كريس يقول بتساؤل و حيرة:



    - كلير ماذا الآن؟!..لقد قلتِ بأننا سنتبعها لخارج القصر, و ليس أن نصعد وراءها



    - و لكن ألم ترى نظراتها يا كريس؟!...إنها تريدنا أن نتبعها...أعتقد أنها تريد أن تخبرنا بشيءٍ ما



    قلتها بنوع من الرجاء, حتى أقنع كريس بالمجيء, و لكن يبدو أنه قد وصل لآخر محطات الصبر معها, و كما يقولون أن للصبر حدود, ففوجئت به يزمجر غاضباً بوجهي, و يصيح قائلاً:



    - أنا لا أعرف, لماذا تصرين على الجلوس بذلك القصر؟!, إن الخروج و الحياة أمامنا و أنتِ تعاندينني, كما تفعلين دائماً, و يبدو أنكِ تريدين أن تتمسكي بالموت....حباً, بالله..لماذا لا تستمعين و لو لمرة إلي؟!



    ثم زفر بعدها, زفرة, شعرت بحرارتها تلفح وجهي, و تحرقني, فأمسكت بيده, حتى أهدئ نيران غضبه المتأججة, ثم تكلمت قائلة, برجاء, حتى أستدر عطفه:



    - أرجوك يا كريس..أرجوووك...أنا أشعر بأن هذه الفتاة وراءها سرٌ ما...سر خطير للغاية...أرجوووك



    - يالكِ من فتاة لحوحة



    قالها, في ضيق, ثم تنهد و هو يقول:



    - حسناً, سأتبعكِ



    لقد وافق كريس أخيراً, بعد عناء شديد, على أن يأتي معي و نتبع لورين, التي لم تبرح مكانها, و ظلت واقفة تنتظرنا أعلى السلم...



    صعدنا الدرج, خلف الفتاة, التي أخذت تكمل سيرها, و كلما انعطفت, انعطفنا خلفها, و إذا توقفت توقفنا, شعرت و كأننا مجذوبين خلفها بمغناطيس, و من ثم فوجئت بها تدلف, داخل غرفتها, عندها نظر إلي كريس بنظرة لها معنى, ثم قال:



    - ماذا بعد؟!..أرجوكِ أنا لن أدخل إلى هذه الغرفة مجدداً..ليس بعد أن استطعنا النجاة منها



    - و لمَ ؟!



    - لمَ؟!..أتسألين عن السبب؟!...ألا تذكرين أن هذه هي الغرفة المشؤومة التي حبسنا بداخلها و كدنا نموت؟!



    - نعم أتذكر ذلك جيداً, و لكنها تريد أن تطلعنا على شيء ما..لذا, فلنكمل هذه المغامرة...أرجوووك يا كريس



    كان الحوار بيني و بين كريس, لا يخلو من الشد و الجذب, الانفعال و التوتر, الصياح و الهدوء, حتى أقنعته بالنهاية, و دخلنا خلف لورين إلى غرفتها, و ما أن أصبحنا

    بداخل الغرفة, التي بالفعل مشؤومة كما قال كريس, حتى أصبح المكان كله ملطخاً بالدماء ثانيةً, فاتسعت عيناي, بينما كريس ظل يرمقني في غيظ, و كأنه يقول,

    " أيعجبكِ هذا؟!..لقد كان معي حق.."

    , و لكنه لم يقولها, لأن هناك من دخل و قطع عليه الكلام, لقد كان شخصاً, لم أتبين ملامحه, كان طويلاً, و متشحاً بالسواد, يبدو أن بنيته قوية, كان ممسكاً بفأساً كبيرة في

    يده, كان أشبه بالكابوس...بل الموت الزاحف... كان يتجه نحونا بثبات, فقذف الرعب بقلبينا, و من ثم صحت قائلة في هلع:



    - يا إلهي ما العمل؟!..إنه..مت...متجه نحونـ...



    لم أكمل صياحي, و ألجمني الصمت و الذهول, عندما اخترقنا ذلك الشخص, و أكمل سيره, و كأننا هواء بالنسبة إليه...



    رمشت بعيني, لأستوعب ما يحدث؟!, ثم استدرت أنا و كريس, لنرى إلى أين يذهب؟!, فوجدناه, يقترب من السرير الذي كان خلفنا, و الذي كان خاوياً منذ قليل, و لكنه الآن أصبح شاغراً, بفتاة صغيرة, كانت المسكينة نائمة فوقه, بسلام, و لا تدري بما يحدث حولها الآن,

    " و لكن مهلاً, متى أتت تلك الفتاة؟!, و من هي تلك الفتاة؟!...هل هذا وهم آخر؟!.."



    كان بؤبؤي عيناي يهتزان, و أنا أراقب بترقب, ما سيحدث, فوضعت بيدي على فمي حتى أكتم الشهقة التي خرجت , رغماً عني, بينما سقط الكشاف من يدي, ليقع على

    الأرض و يتحطم, عندما رفع ذلك الشخص المتشح بالسواد, فأسه العملاق, استعداداً, للإنقضاض على تلك المسكينة الغافية, و كالموت المحتم, هبط بفأسه, فكدت أن

    أصرخ, و ينخلع قلبي, و لكن حمداً لله, الفأس لم يصب الفتاة, فقد كانت ردة فعلها سريعة, و استطاعت النجاة من الفأس بأعجوبة, ليصاب السرير بدلاً عنها, عندما هبت من عليه, في ذعر, و أخذت تنظر لذلك القاتل, بعينين خائفتين, و غير مصدقتين,

    " و لكن من تلك الفتاة؟!, لماذا لا أستطيع تبين ملامحها جيداً؟!..."



    كان هذا ما يدور بخلدي, و أنا أشاهد ما يجري أمام عيناي, " يالها من بشاعة!!...و لكن ماذا عسانا أن نفعل؟!..إنه لا يشعر بوجودنا و كأننا هواء..."



    كان القاتل, قد انتزع فأسه ثانيةً من السرير, الذي تمزق, ثم اتجه بخطواته البطيئة, نحو الفتاة المسكينة, التي كانت ترتجف, و هو يجر بفأسه على الأرض, محدثاً صرير مؤلم للأذان, و فجأةً انقض القاتل على الفتاة, التي حاولت الزحف نحو الخارج, فأمسك بشعرها الأشقر,



    " لحظة هل يعقل أن تكون هذه الفتاة هي لورين؟!...بما إننا بغرفتها فربما كانت هي..إذاً هل هذا ما حدث لها؟!..."



    و أخذ يجذبه بقسوة, و يجرها على الأرض, لقد كان يتعامل بطريقة غير آدمية مع المسكينة, أشك أنه إنسان أصلاً..



    أما الفتاة, فقد أخذت تتأوه من الألم, و فتحت فمها صارخة, مستنجدة, و لكن غريب لم يكن هناك صوت للصراخ, تساءلت بداخلي,

    " لماذا لا نستطيع سماع صراخها؟!, بينما استطعنا سماع صوت الفأس و التمزيق؟!..."

    , كانت عينا الفتاة تذرفان الدموع, و متسعتان مما يحدث, و كأنها صدمت مما حدث, حاولت الكلام, و لكن لا جدوى, هزت برأسها, حتى تجعل القاتل يبتعد,

    " أشعر أنها تعرف ذلك القاتل جيداً, و إلا لماذا هي مذهولة بذلك الشكل؟!..."



    لم يبتعد ذلك البغيض, رغم بكاءها, و توسلاتها, فنظرت الفتاة نحو الأرض بيأس, ليهوي ذلك المجرم, المفترس, القاتل, الذي لا يمتلك قلباً, و لا روحاً, بفأسه على جسدها الصغير, المسكين, مقطعاً إياه, بكل وحشية, فخرجت دماءها و لطخت المكان كله, بينما انطلقت مني صرخة حانقة و متألمة, و سالت دموعي, و أنا أرتجف و أقول:



    - يا لك من شرير...لماذااا؟!...لماذا قتلتهاااا؟!



    كنت أصرخ في جنون, و لكن توقفت عن ذلك عندما اختفت الجثة و تلاشت الدماء, و اختفى معها القاتل, ليعود المكان, إلى وضعه السابق, غرفة مغبرة و قديمة, فنظرت

    لأرى هل طيف لورين مازال موجوداً؟!, و لكنها كانت قد اختفت كالبقية, بينما تركت بالمكان الذي كانت تقف فيه, كتابة على الأرض, اقتربت من تلك الكتابة, التي اتضحت أنها مكتوبة بالدماء, و من ثم قرأتها بصوتٍ مرتعش, و منبوح إثر البكاء:



    - إنهم هنا...إنهم في كل مكان..إنهم يراقبون...و لن ننجو من انتقامهم...لن ننجو...لن...ننجو



    اتسعت عيناي, بينما تكلم كريس أخيراً, و قال بتساؤل, بعد قرن من الصمت, و التحجر, فالمسكين, لم يستعب ما حدث, و انعقد لسانه, مما جرى أمام عينيه:



    - ما المقصود من ذلك الكلام؟!...هل هذا تحذير لنا؟!



    نظرت لكريس, ثم هززت كتفي بمعنى لا أعرف, فالحق يقال, أنا أيضاً لا أفهم شيئاً, و أشعر بالحيرة و الضياع يتخبطان داخلي, يبدو أن هناك أشياء فظيعة حدثت هنا, و لكن

    من ذلك القاتل؟!, و ما صلته بلورين؟!, هل كانت تعرفه؟!, و لماذا أشعر أنا بذلك الشعور المختلط من الحنين , الحزن , الغضب, التعاسة و الأسف؟!, لماذا أشعر بقلبي يتمزق؟!, أشعر و كأن سكيناً قد مزقه..



    وضعت بيدي على صدري, بينما سقط الدمع على وجنتي, و أنا أتمتم بصوتٍ منخفض, و متألم:



    - لماذا قتلت لورين؟!...لماذا فعلت ذلك؟!...يا إلهي!!





    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  4. #4
    الصورة الرمزية شذى22
    شذى22 غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    7,799

    افتراضي

    ~الفصـــل الرابـع~



    ( لا تتـركــنـي..)




    -كلير أسرعي..إن المكان بأكمله يهتز


    صاح كريس بتلك الكلمات, ليخرجني من عالم الشرود الذي كنت غارقةً فيه, فنظرت له بعدم فهم, ثم شعرت بارتجاج الأرضية من تحت أقدامي, بالفعل كان القصر يهتز, و لكن هذه المرة بصورة أكبر, و كأنه سينهار,

    " عجباً ما حكاية الهزات الأرضية تلك؟!..هل كل القصور المهجورة تهتز هكذا؟!..."

    , كان كل شيء يتحطم, و إذا بزجاج النوافذ يتهشم و يتكسر إلى شظايا منتثرة بالمكان, من تلقاء نفسه, اتسعت عيناي و أنا أشاهد ذلك, فإذا بكريس يصيح مجدداً:


    - لماذا أنتِ واقفة هكذا؟!...هيا, لنهرب, فليس هنالك وقت للشرود


    نظرت لكريس, ثم أطلقت تنهيدة و أنا أقول:


    - حسناً, هيا بنا..فلقد اكتفيت من هذا القصر...و أريد أن.....أرتاح


    قلتها, بصوتٍ حازم, بينما شددت على قبضة يدي, كنت بالفعل أريد لكل شيء أن ينتهي, لم أعد أطيق هذا القصر, لم أعد أحتمل وجودي به, لا رغبة لي في تكلمة هذه

    المغامرة المجنونة بعد الآن, لأنني اكتشفت, أنه كلما تغولنا و تعمقنا بأسراره, انتاب قلبي التعاسة, و أصابني الحزن و الألم, و لا أعرف لماذا؟!...


    أمسكت بيد كريس, ثم اتجهنا نحو باب الغرفة, حتى نخرج من ذلك الجحيم البارد, و لكنني توقفت بمكاني, عندما شعرت بشيءٍ ما يناديني, شيءٍ ما يقف خلفي, يريدني أن

    ألتفت إليه, أن أراه, أن أسمعه, و وسط دهشة و حيرة كريس, لفت رأسي للخلف, ببطء, لأرى ماذا هناك؟!, فإذا بي أشاهد, ستائر الغرفة, تتطاير, و لكن لا يوجد أي نسيم

    ليحركها, فكيف تتطاير؟!, و الأهم من ذلك, رأيتها...أجل رأيت لورين واقفة بركن من أركان الغرفة, كان طيفها يتلاشى, و يعود, ثم يتلاشى, و يعود من جديد, كانت نظراتها

    الحزينة تقطع قلبي, و تفطره, و تسيل مدامعي, بل إنها تحدث زلزالاً في روحي, و وجداني, فأنا أشعر بأن هناك شيئاً وراء هذه النظرات, إنها تريد أن تخبرني, و تفصح عما بداخلها, و لكنها لا تستطيع,

    " ترى ماذا تريدين أن تقصي علي يا صغيرتي؟!...لماذا لا تتكلمين؟!..."


    لا أعرف لماذا أردت أن أجري نحوها, أن أضمها بين أحضاني, و أربت عليها, أن أمسح دموعها بيدي؟!, و لكن قاطعني كريس مجدداً, عندما أمسك بيدي و جذبني بالقوة نحو الخارج, مبتعدين عن تلك الغرفة الملعونة, بعد أن طفح به الكيل مني...


    ظللنا نركض و نركض, و مشهد ذلك القاتل و هو يمسك بفأسه الضخم, ليفتك به جسد لورين الصغيرة, يتردد بذهني, مرات و مرات, أغمضت عيني حتى لا أرى ذلك المشهد, و لكن لا فائدة, نظرات لورين تحاصرني, و رائحة الدماء لا تغادر أنفي,

    " رباه متى ننتهي من ذلك؟!..و لكن لماذا قلبي يدق بهذا الشكل؟!..."


    تسارعت نبضات قلبي, عندما دوى صوت صرخات متألمة, المكان, جعلت أفئدتنا تهتز, و جعلتنا نقف متحجرين بالمكان, و بجواري سمعت صوت كريس يتساءل بخوف:


    - ه..هل سمعتِ هذه الصرخات؟!...


    أومأت برأسي, و من ثم ضغت بيدي على يده, عندما زادت الصرخات أكثر, و قلت بصوتٍ مبحوح:


    -كريس..أنا خائفة...لا تتركني أرجوك...عدني بأنك ستظل معي.


    قلت هذه الكلمات , بسبب شدة خوفي , ليس من القصر, بل من المجهول , دائماً المجهول و القادم يخيفني, و لكن هذه المرة خوفي كان أكبر, كنت أرتجف كورقة شجر,

    هزتها رياح الخريف, بينما انهمرت دموعي, و سالت على وجنتي, كنت أبكي, و كأنني طفلة صغيرة, تركها أبويها, أو ضاعت بوسط الزحام, فتشبثت بذراع كريس أكثر, و

    كأنها طوق النجاة الذي سينقذني من الغرق, و حقيقةً لقد كنت أشعر بشعورٍ سيء, يتسلل إلى قلبي, و لا أعرف لماذا أشم رائحة الموت؟!, لماذا؟!...لماذا؟!...


    نظرت لكريس, بعيوني التي تورمت و احمر بياضهما من الدموع, فابتسم لي و ربت على كتفي, ثم قال بصوتٍ هادئ و حنون و حازم كذلك حتى يطمئنني:


    -كلير..لا تخافي ما دمت معكِ, فأنا لن أدع أي مكروهٍ يصيبك...و أعدكِ بأنني سأبقى معكِ.....للأبد


    ترددت الكلمة الأخيرة داخل عقلي, " للأبد...سأبقى معكِ للأبد..."

    , هل حقاً سيبقى؟!, ألن تغير الرياح مجرى سفينتي؟!, لا أعرف لماذا انقبض قلبي فجأةً من هذه الكلمة؟!, و لكن علّ ما سيحدث خيراً, ربما, ننجو...هذا ما كنت آمله, و لكن بالفعل تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن...


    لم يلبث السكون أن يستمر لبضع دقائق, حتى عادت الصرخات المدوية من جديد, كان الصوت مرتفعاً هذه المرة, صوت امرأة تستغيث, و تتعذب, صمتت الصرخات لوهلة, ثم

    عادت من جديد, و لكنها حطمت معها بقية النوافذ, و كأنه طوفان اجتاح المكان, و من ثم ارتج القصر, كنا واقفين بالردهة, التي تمر أمام الغرف, و فجأة وجدنا أحد الأبواب ينفتح, انتظرنا قليلاً, لنرى ما سيخرج منه؟!, و لكن لا شيء...

    " يبدو أن هناك من يريدنا أن ندخل..."

    , حينها نظرت لكريس, هل ندخل أم لا؟!, لأجده قد قطب حاجبيه, بمعنى لا, فأومأت برأسي, و أمسكت بيده, حتى نغادر, أجل فلن أتهور هذه المرة, يكفيني ما حدث, و لكن يبدو

    أن الغرفة لن تتركنا نمضي لحال سبيلنا, فبعد أن استدرنا, موليين الغرفة ظهورنا, سمعنا صوت ما خلفنا, صوت أنين يتصاعد من الغرفة, فارتعش قلبي, و أيضاً أمكنني

    سماع ضربات قلب كريس, الذي ارتجف هو الآخر, و ازدرد لعابه, حتى يغلب مخاوفه, و لكن يبدو أن ذلك الشيء الذي يئن لن يختفي, يريدنا أن نسمعه, أن نراه, أن نعرفه, فالتفتنا بحذر للخلف, و حينها دوت صرخات المكان, صرخات خائفة, كانت هذه الصرخات....لي...



    .....



    رجعت بضع خطوات للخلف, حتى اصطدمت بسور الدرج, و كدت أن أفقد توازني و أسقط, و لكنني تماسكت, ثم وضعت بيدي على فمي, حتى أكف عن الصياح, بينما كريس ظل واقفاً متجمداً أمام الغرفة, أجل إنها الغرفة, التي سببت كل ما نحن فيه, أو بالأصح الشيء الذي خرج من الغرفة زاحفاً...


    كانت امرأة, أو بالأحرى, كائن يشبه المرأة, ذو شعر أسود, مميت, ينسدل على وجهها, و التصق به بسبب الدماء التي عليها, و التي كانت جافة كذلك, و من بين ذلك

    الشعر, رأيت عينيها, لم تكونان عينان طبيعيتان, بل مرعبتان, و كأنهما تحكيان قصة عذابها, شعرت بالألم من خلالهما, و كذلك أحسست بالكراهية و الحقد ينبعثان منهما, كانتا خاويتان من الحياة كذلك...


    ظللنا نحدق بتلك المرأة, و هي تخرج من الغرفة زاحفة, كانت مرتدية ملابس نوم بيضاء, أو كانت فيما مضى بيضاء, الآن أصبحت ملوثة بالدماء, كان فكها السفلي

    منزوعاً, و كانت عروقها بارزة بوضوح, على جلدها الأزرق, ظلت تنظر لنا بنظراتها المرعبة, و تصرخ, بينما كريس أخذ يتراجع بخطواته للخلف, و هو يهز برأسه, غير مصدقاً لما يحدث, كان يتمتم بكلمات, و لكنني استطعت تمييز ما يقول:


    -هذا..حلم....مؤكد أنه..حلم...سنستيقظ بعد قليل...إنه...حلم لا أكثر


    "يا له من مسكين, و لكن معه حق, فما يحدث لنا أمر غير طبيعي, و لكن لماذا يركز هذا المسخ نظراته علي؟!, لماذا أنا؟!, هل تريد أن تقتلني؟!, و لكن لماذا؟!...أنا أشعر بشيءٍ ما...شيءٍ ما داخل قلبي...لماذا أريد أن أبكي؟!...لماذا...."


    فجأةً غُمِرَ المكان كله بالضوء, " من أين أتى ذلك الضوء؟!.."

    , ليقطع تفكيري, و لم أعد أرى بعدها أي شيء, لا المكان, و لا المسخ, و لا كريس, و لا حتى....أنا!!



    .....



    جاهدت و قاومت حتى أفتح عيناي, التي آلمتني, في المرة الأولى, فأخذت أرمش, حتى يذهب ذلك الألم, و كذلك حتى أستطيع الرؤية بوضوح, و أول شيء بحثت عنه بعيني كان كريس, الذي وجدته جاثياً, على ركبتيه, أمام الغرفة, التي الآن أصبحت مغلقة,

    " جميل يبدو أن كل شيء عاد كما كان..."

    , و لكن ليتني لم أشعر بتلك الراحة, فإذا وجدت المكان طبيعياً و هادئاً, اعلم أن المشاكل ستبدأ!!


    ففجأةً, تحول المكان, و اختفت العناكب و تلاشى الغبار, و تبدل المكان, يبدو أن القصر عاد بالزمن للوراء, ليروي لنا, و يحكي ما حدث, من حكايات حزينة و مؤلمة, مرت عليه, و اندثرت مع الزمن, و هو لا يزال قائماً حتى الآن.....


    و من العدم, ظهر مجدداً, كما اختفى, بوشاحه الأسود, و فأسه اللعين, كان يصعد السلالم, درجة...درجة...بثبات و بطء شديدين...


    و رغم أن فمه ملثم بالوشاح, إلا أنني شعرت بابتسامته الشيطانية, ترتسم من خلفه, ليلفح لهيبها وجهي, و مازال مستمراً بالصعود, و مع كل خطوة يخطوها, يدق قلبي و يرتجف, حتى وصل إلينا, فازدردت لعابي, خوفاً منه, و لكنه مر بجوارنا, و كأننا غير موجودين, أو ربما هو لا يريدنا...


    قررت أن أتبعه, حتى أرى أين سيذهب ذلك القاتل؟!, أو ربما هو فضولي لمعرفة من الضحية التالية؟!, و لكن يد كريس, أطبقت على معصمي, كانت تحاول منعي و إيقافي, عن اللحاق به, فسحبت يدي من بين يديه, في قسوة, و تحررت من قيوده...


    لم أستمع إلى أي كلمة قالها كريس, و لا لتحذيراته, و ليتني فعلت, لا أعرف أين كان عقلي؟!...


    لقد كان ذهني مشتتاً, أشعر بشيءٍ ما يجذبني لأتبعه, إنه الفضول الذي دوماً يعتريني, الفضول الذي سيتسبب بكل شيء, و بكل ألم, ليتني تخلصت منه, و استمعت لكريس...


    و لكنني أشعر بأن أحداً ما يحتاجني, يمكنني سماع صوت الاستغاثة, و لكن لا أعرف لمن؟!, لا أعرف أين؟!, و لا أعرف كيف سأغيث؟!...


    ترددت هذه الكلمات بعقلي كثيراً, بل أخذت تتخبط داخل روحي,

    " هناك من يحتاج إلي...هناك من يريد مساعدتي....يجب أن أساعد..."...



    .....



    اضطر كريس للحاق بي, فلم يكن ليتركني وحيدة على أي حال, و هكذا ظللنا نسير خلف الرجل, الذي ما إن التفت, سيرانا, و يقتلنا, و لكن حمداً لله, أنه لا يفعل ذلك, أو ربما هو يعرف أننا خلفه, و يحفر لنا مكيدة الآن!!...


    لم أعر تلك المخاوف أي اهتمام, و ظللت أسير فقط, و كأنني منومةً مغناطيسياً, و من ثم وجدته يقف أمام الغرفة ذاتها, التي منذ قليل كانت تخرج منها امرأة ممسوخة و

    زاحفة, و لكنها حالياً مغلقة, كنت أقف و عيناي كلها ترقب, منتظرةً ما سيفعله ذلك القاتل, الذي ظل يرمق الباب لفترة, حتى ظننت أنه سيتراجع عن الأمر, عندما رأيته

    يتراجع بخطوات للخلف, و لكن بدلاً من أن يذهب, رفع بفأسه, و هوى به على الباب المسكين, ليتهشم, و ينفتح...


    " ياللشراسة!!.."


    هذا ما دار بداخلي و أنا أراقب تحركاته, و من ثم ذهبت خلفه أنا و كريس, بعد أن دلف هو, و لكن كريس, كان يشعر بالخطر المحدق, كذلك أنا, و لكنني لم أعر كلامه أي

    انتباه, و ظللت أسير خلف الرجل, حتى توقفت بمكاني , بل تسمرت, و أجفلت لوهلة, غير مصدقةً لما يحدث, فقد رفع ذلك الوحش, فأسه, ليهوي به على جسد المرأة, التي

    كانت غافية بثيابها البيضاء على السرير, بينما خصلات شعرها الفاحمة, مفرودة على الوسادة, كانت كالملاك النائم, و بداخلي صحت في ذعر,

    " أرجوكِ استيقظي الآن, ستموتين.."


    و يبدو أن تلك السيدة, سمعت خواطري, , لا أعرف كيف؟!, و لكنني حمدت الله على ذلك, ففتحت عينيها الزرقاوين, و اللتين أمكنني رؤية مدى الذهول و الذعر فيهما, و لكن

    ذلك الشرير لم يأبه لها, و رفع بفأسه مجدداً, ليهوي به عليها, و لكنها, تدحرجت من فوق السرير, في اللحظة المناسبة, كنت أتابع ما يحدث, و قلبي يثور كبركان, و يزمجر كأمواج البحر الغاضبة, مع كل لحظة خطر...


    أخذت تزحف تلك السيدة, على الأرض, حتى تصل إلى باب الغرفة, و تهرب, و بداخلي, كنت أشجعها على ذلك, و لكنه لم يتركها تذهب بهذه السهولة, فلقد استطاع اللحاق

    بها, قبل أن تصل إلى الباب, و من ثم أخذ يركلها بقدميه, في وحشية, حتى أسقطها أرضاً, فأخذت المسكينة تئن و تصرخ, صرخات مدوية, متوجعة, و مستغيثة, إنها نفس

    الصرخات التي سمعناها من قبل, لقد كانت لها, احتشدت الدموع في عيني, من تلك الحقيقة, و من ثم انهمرت كأمطار الشتاء الغزيرة, عندما سمعتها تردد, بصوتٍ متقطع

    أنفاسه, خائف, بل هلع, متوجع, و متوسل, قائلة, بينما في تلك الأثناء كان الشرير رافعاً بفأسه في وضعية الاستعداد, و كأنه جلاد ينفذ حكم الإعدام, كان ينظر لها نظرات أخيرة, منتظراً كلماتها:


    -أرجوك...أر...جوك لا..تقتلني...ما الذي...ح..حدث..لك؟!...عزيزي...أرجوك...أفق....أرجوك .. ماذا حدث لك يا....


    لم تستطع أن تكمل كلماتها الأخيرة, فكيف لشخصٍ ميت, ضرب بفأسٍ على جسده, أن يتكلم و ينطق؟!...


    تناثرت الدماء في أرجاء الغرفة, وسط صرخاتها و عبراتها, ثم سكنت أنفاسها, أما الوحش, فقد ظل واقفاً بمكانه, يتأمل جثة زوجته, ببرود, شعرت برغبة شديدة في التقيؤ, بعد أن رأيت ما حدث, و لكن قطع تفكيري و قطع دموعي, صوت كريس بجواري, الذي صاح صحوت غضب, قائلاً و الدموع تملؤ مقلتيه:


    -أيها الوغد الحقيررررر....لماذا ؟!....ماذا فعلت هي لك لتقتلها؟!....تباً لك أيها الملعوووون


    ثم فجأةً, تناول كريس مزهرية, كانت موضوعة, على الطاولة, بجانبه, و قذف بها, على القاتل الشرير, و هو يكمل صياحه, و يجز على أسنانه في حنق:


    -تباً لك أيها الشرير...ليكن الموت حليفك, و الجحيم مصيرك...أيها الشيطااااان...



    مرت المزهرية من خلال القاتل, و كأنه هواء, فوقعت على الأرض و تهشمت, إلى قطع خزفية, بأرجاء الغرفة, و لكن الأسوء من ذلك, أن ذلك الشخص تنبه لوجودنا, و شعر بنا, كيف؟!,لا أعرف...


    التفت ذلك القاتل إلينا, ثم وجه نظره نحو كريس, كان يرمقه بنظرات حاقدة, و شيطانية, بعينين متوهجتين, يا إلهي كم هما مخيفتان, لقد ظننت أنهما جمرٌ متوهج, من شدة احمرارهما...


    -ما العمل يا كريس, إنه يتجه نحونا؟!...


    -اهربي أنتِ, و أنا سأبقى لأشغله عنكِ


    قالها كريس و هو ممسكاً بكتفي بإحكام, و متمعناً بنظراته الراجية, حتى أستمع إليه و أهرب, و لكنني لم أفعل و لن أفعل, و بدلاً من الاستماع إليه قاطعته بصوتي المرتجف و الخائف قائلة:


    -م..ماذا تقول؟!, هل جننت؟!..كيف لي أن أتركك مع هذا الشيء؟!, لقد ورطتك هنا, و يجب أن أخرجك كما ورطتك...لذا...


    أطرقت برأسي للأرض, فانسدلت خصلاتي السوداء على عيني, لتحجبهما عن كريس, و قلت بصوت مبحوح, و نادم, بعد أن احتسمت أمري:


    -لذا, اذهب أنت, و أنا من سيبقى


    كنت أشعر بالندم يعتصرني, فأنا من تسبب بكل تلك المشاكل, لو لم أعاند كريس و استمعت إليه منذ البداية, لما حدث ذلك, و لكن لا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن...


    -لا لن أذهب , لأنه لا يلاحقكِ أنتِ بل أنا...أنسيتِ أنني أنا من قذفه بالمزهرية و قام بسبه؟!



    قالها كريس في حدة, مقاطعاً أفكاري و تأنيبي لنفسي, فرفعت رأسي, لتصطدم عيناي الدامعة بعينيه, الحازمتين, ثم تنبهت على اقتراب القاتل المتشح كثيراً مننا, عندها لم أجد حلاً سوى, الإمساك بيد كريس و الهرب معه, قبل أن يقتله ذلك الشيء....


    شددت على يده, عندما حاول الإفلات مني, " رباه كم هو عنيد هذا الكريس!!.."

    , و لم أستمع إليه, و ظللت أركض بأقصى ما لدي من جهد, و بداخلي شيء واحد فقط, هو الهروب من هذا الجحيم, و النجاة مع كريس, و لكن...


    و لكن كلما ابتعدنا عنه, وجدناه يقترب كثيراً منا...نبتعد و يقترب, نبتعد و يقترب...


    هبطنا للبهو, و لازال ذلك القاتل يسعى خلفنا,

    " ما العمل؟!"

    , هكذا هتفت بداخلي, و أنا أشعر بالخوف يتملكني, و يشل جميع أفكاري, و حواسي...


    ركضنا نحو باب القصر, و بداخلي كنت أتساءل,

    " ترى هل سننجو؟!...هل سنستطيع الهرب؟!"


    أخذ كريس يدير المقبض مرة , و اثنتين, و ثلاث مرات, تارةً بهدوء, و أخرى بعصبية, و لكن أبى المقبض أن يفتح, عندها بدأت أشعر أن كل شيء بالقصر, يريد لنا الموت, أخذ كريس يرمي بجسده على الباب, ليفتحه, أما أنا فقد كنت في حالة مريبة, كنت أتكلم بعصبية و خوف معاً, و أنا أرى ذلك الشيء يدنو منا أكثر:


    -أرجوك أسرع يا كريس, لقد اقترب كثيراً


    -تباً لذلك الباب البغيض..و كأنه يأبى أن يتحرك


    قالها كريس بانفعال و توتر, ثم زفر في ضيق و أكمل بيأس:


    -أشعر بأن قواي قد خارت, كل خلية بجسدي منهكة


    نظرت لكريس بشفقة, و بقلق كذلك, لأن هذا معناه, أننا لن نستطيع الهرب, و سنموت على يد ذلك الشيء,

    " يا إلهي , انقذنا أرجوك..لا أريد أن أموت هنا...تباً لأفكاري الغبية"


    كانت أنفاسي تتسارع, و كأنني كنت أركض لعدة أميال, دون توقف, شعرت بأن رئتاي ستنفجران, بل قلبي سينفجر من الضغط, كنت لا أزال انظر إلى كريس, و هو ينظر إلي, و لكنه كان شارداً, يفكر بشيءٍ ما, ترى ماذا يدور بعقله الآن؟!..


    لم أحتج لوقت كثير, حتى أعرف فيما يفكر؟!, عندما فوجئت به, يقف أمامي, مولياً ظهره للقاتل, كان يريد أن يحميني, عندها تساءلت باضطراب و تردد حتى أتأكد من شكوكي:


    -ك...كريس, ماذا تفعل؟!


    و لكنه لم يتكلم و يجيب, فقط ظل ينظر إلي, و يبتسم, عندها قطبت حاجباي, ثم صحت به في انفعال:


    -أيها المجنون...لا زال هناك أمل في النجاة, هيا لنبتعد عن هنا و نهرب من النوافذ..و لكن لا تقف هكذا أرجوك


    و لكن لا فائدة, لم يتحرك إنشاً واحداً, فقط ظل يبتسم, عندها أخذت أضرب على صدره بيدي, و أنا أصرخ و أبكي حتى يتحرك, قائلة:


    -أرجووك تحرك...أرجوك هذا ليس وقت الأعمال البطولية و التضحية في سبيل انقاذ الآخرين..أرجوووك أفق و كلمني...سيقتلك هذا الشرير, تباً لك لماذا لا تجيب؟!


    شعرت بأنني سأفقد صوابي, بسببه, سوف أجن إن حدث له مكروه, و لكنه لا يتحرك, لم يرد علي, و لا يبالي بما أقول, فقط أكتفى بالابتسام, كعادته, يبتسم في أحلك المواقف, و الصعوبات, لا أعرف كيف يفكر؟!, إنه يقضي على نفسه, و يقضي على قلبي, صرخت بداخلي و أنا أنظر له بعينين دامعتين,

    " ألا تشعر بما في قلبي...أرجوووك يا كريس لا تستسلم..."


    و لكنه لم يسمعني...لم يشعر بي حتى...فقط ظل يبتسم, و الرجل يقترب...يبتسم و يقترب, و من ثم احتضنني كريس بحنان, و ضمني إليه, اتسعت عيناي مما فعل, بينما كنت

    أستمع إلى نبضات قلبه تتحرك لتخترق أذناي, و تصل إلى أعماق جوفي, و صوت أنفاسه, يتسلل إلى قلبي, و من ثم أفقت من حالتي تلك, عندما شعرت بقطرات, تتساقط على وجهي, مسحتها بيدي, و أنا أتساءل,

    " هل هذه دموعي؟!.."

    , رفعت برأسي, لتلتقي عيناي بعينيه, التي غزتهما الدموع,

    " إذاً, لقد كانت هذه دموعك يا كريس"

    , كان يبتسم و الدموع تجتاح عينيه, ثم أخيراً تكلم, و أزاح صمته القاتل, و لكن ليته لم يتكلم..


    - لقد وعدت بأن أحميك و ها أنا أفعل...أرجوكِ كلير لا تبكي..أرجوكِ اهربي و انجي بحياتك...


    صمت قليلاً, ثم أكمل في حنان:


    - أريدكِ أن تعيشي حياتكِ و....


    قطع كريس كلامه, بتأوهاته, التي فزعتني, و من ثم أخذ يضغط على أسنانه, و يغمض عينيه, كمن يتألم, كان لا يزال يحتضنني, و لكنه شدد بذراعيه علي,

    " هل...هل كريس..يموت؟!.."


    كانت أفكاري مشتتة و مبلبلة, و من ثم أخذت أصيح كالمجنونة:


    -لا هذا ليس حقيقة...سوف أغمض عيني و أفتحهما لأجد نفسي بالبيت, على فراشي الدافئ


    و لكن لا فائدة, فتحت عيني لأجد كريس لازال يتألم, و لكن دماءه قد بدأت تسيل من فمه, لتسقط على وجهي, و تمتزج بدموعي, التي ذرفتها عليه..


    " لقد قتله الوحش...قتل كريس...قتل سر حياتي..قتل ابتسامتي...قتل حبيبي..."


    كنت أصرخ و أبكي, متألمة, و متوجعة, فلقد كنت أشعر بالفأس التي تمزق كريس من الخلف, تمزقني كذلك معه, و كلما سمعت صوت التقطيع, كلما شعرت بقلبي يتقطع...و أموت


    " لا لا أريده أن يموت...أرجوك لا تمت..."


    -لااااا كريس..أرجوووك..لا تتركني...كريس أرجوك لقد وعدتني


    كنت أقولها و أنا أنشج, و لا أستطيع تمالك نفسي من الصراخ و الصياح, شعرت بأن أحبالي الصوتية قد تمزقت, و بأن قلبي سيخرج من ضلوعي, أمسكت بقميصه, و من ثم أكملت بنفس النبرات الهلعة, و التي لا تصدق ما يحدث أمامها:


    -كريس..أنا...أنا أحبك...أرجوك يا كريس لا تمت...أنا أحبك أرجوك...


    -كنت أعلم...ك...كنت أعلم بحقيقة مشاعركِ...كلير أنا...


    قالها كريس, مقاطعاً كلامي, بينما تلاشى القاتل, و كأنه لم يكن موجوداً, تلاشى و كأنه هواء, اختفى بعد أن أنهى ما يريده, بعد أن قتل كريس, و تركني محطمة, عندها رأيت كريس يبتسم مجدداً, و لكنها ابتسامة حزينة, ضعيفة, و الدماء تسيل من كل جزء بجسده,


    " تباً لذلك القاتل, لم يترك أي جزء سليم به, إنه متوحش"


    تناثرت دماء كريس بالمكان, ثم شعرت به ينزلق, و يتهاوى, لقد تراخت ذراعاه, و لكنه لا زال متمسكاً بي, فجعلني أتهاوى معه على الأرض, أخذت أبكي و أنا أراه يلفظ أنفاسه الأخيرة و يكمل كلامه قائلاً:


    -كلير....أنا...أيضاً...أحبــ..ــكِ...أكثر من أي شيء....بهذه...الحياة...


    أخذ يسعل الدماء, و يقاوم الموت, حتى يكمل كلامه لي:


    -أحبكِ...للأبد...و سأظل....أحبكِ...حتى لو انتهت...الحياة


    كنت جاثية على الأرض, أمام جسد كريس الذي كان يستعد لفراقي, أخذت دموعي تسيل عليه, و أنا أصرخ :

    - لاااا..أرجوك لاااا تمت...لااا تتركني


    فوجدته يبتسم, و يمد بيده نحوي, و لكنها كانت ترتجف, و من ثم مسح باصبعه الدموع من على وجهي, و هو يقول بينما خرج صوته ضعيفاً, و متأوهاً:


    -لا..تبكي...أرجوكِ...لا أريد أن أراكِ حزينة....أنتِ هكذا تؤلمينني...كلير ودا...


    -لااااا لا تقولها أرجوك...ظل حياً من أجلي أرجوووك...تماسك يا كريس...و لا تتركني...أنا أحبك أرجوك لا تتركني...لا تقل تلك الكلمة...لا تفارقني


    كنت أصيح به, و أنا ممسكة بيده, بينما عقلي كان يرفض فكرة موته, " أنا السبب في ذلك.."


    ابتسم كريس لي ابتسامته الأخيرة, ثم قال و هو يجاهد آخر نفس له:


    -لقد...سمعت...ما كنت أريد أن....أسمعه....وداعاً كلير....وداعاً يا ...حبيبتي


    عندها تهاوت ذراعاه و سقطت على الأرض, و من ثم سكنت أنفاسه, و توقف قلبه عن النبض, بينما أصبحت عيناه خاويتان, و هو ينظر للأعلى, و لكن الابتسامة لا تزال عالقة على شفتيه, و لم تفارقه...


    شعرت بقلبي يتواثب, و تتسارع نبضاته, بينما عقلي يأبى ما رآه, يرفض فكرة موته,


    " لقد مات كريس مستحيل.."


    -لااا أنت وعدتني بأنك لن تتركني...وعدتني بأنك ستظل معي..لماذ؟!...لماذا تركتني يا كريس؟!


    جذبت جثته من على الأرض, و أخذت أهزها, على أمل أن يفتح عينيه مجدداً, أن يستيقظ, أن يكون هذا مزاح من مزاحه الذي لا ينتهي, و بقلبي أخذت أقول,

    " أرجوووك أفق...سأسامحك لو كان هذا مزاحاً, لن أغضب منك مجدداً....و لكن لا تتركني..."


    تلوثت يداي بدماءه, فلوثت عيني, و أنا أمسح بهما دموعي, و من ثم أكمل صراخي, و كلامي له و أنا أهزه, قائلة:


    -لماذا يا كريس؟!...لماذا؟!...أرجوووك لا تفعل بي هذا....أرجوووك أفق من نومك أرجوووك


    ظللت أنوح عليه, و أصرخ, غير مصدقة أنه مات و تركني وحيدة, كيف سأقاوم؟!, ماذا سأفعل؟!, أنا ضعيفة من دونه...


    -أنا السبب...سامحني يا كريس أرجوووك...أنا السبب...لو لم أكن عنيدة و فضولية, لما كنت ميتاً الآن..


    كنت ألوم نفسي, بينما تذكرت كلمات تلك العجوز,

    " من يدخل مفقود و من يخرج مولود..."

    , كان صوتها الأجش يتردد داخل عقلي, فأخذت أهز برأسي, و أنا أصرخ:

    - اصمتي...أرجوكِ اصمتي..كريس لم يمت


    و من ثم نظرت ثانيةً لكريس, و أخذت أهزه ثانيةً, و أقول:

    - أرجوك قل لها أنك لازلت حياً, أرجوووك


    و من شدة تعبي, وقعت عليه, لم أعد أستطيع الحركة, خارت قواي تماماً, فقط لساني هو الذي يتحرك, لازلت أستطيع الكلام, بل يجب أن أظل أتكلم, يجب أن أنادي عليه, يجب أن أجعله يستيقظ...


    -أرجووك...لا تتركني وحدي...أنا مازلت بحاجةٍ إليك....كريس أرجوووك أجبني...أنا أعلم أنك لا تزال تسمعني...هيا أرجووك...هيا لنهرب معاً....أرجوووك...أنت حي أليس كذلك؟!


    صمتت عن الكلام, عندما وجدت أنه لا فائدة, فقط دموعي هي التي تتحدث عني, شعرت بأن روحي تخرج مني,

    "لقد مات كريس, مات و تركني, مع أنه وعدني بعدم التخلي عني, لماذا؟!"


    تيارات من الأسئلة تعصف داخل عقلي, الذي لازال رافضاً و لا يصدق موته, أم تراه قلبي هو من لا يصدق...تارةً كنت ألوم نفسي على ما فعلت, فعلى كل حال أنا السبب, أنا

    من دفعه نحو الهاوية بيداي هاتين...و تارةً ألوم كريس لأنه مات و تركني, و نكث بوعده لي, و لكن أنا السبب, لكم كرهت نفسي, و كرهت القصر, و كرهت كل شيء, صحت صيحة أخيرة, في غل و غضب:


    -أكرهك أيها القصررر....أكرهك أيها القاتل....لقد أخذت مني كريس...أكرهكم جميعاً


    بعدها شعرت بالتعب, و لم أستطع تحمل ثقل أجفاني, فأغلقتهما, و استسلمت للتعب...و للنوم, أو ربما الموت....


    " كريس....لا...تتركني..."



    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  5. #5
    الصورة الرمزية شذى22
    شذى22 غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    7,799

    افتراضي


    ~الفصـــل الخـامـس~



    ( و أخيـراً...إنهـا الحقيــقــة! )




    " دائماً الحقيقة أقسى من الحلم...و لكننا لن نستطيع أن نظل عالقين بهذا الحلم, يجب أن نفتح أعيننا, يجب أن نتقبل حقيقتنا, حتى لو كانت...قاسيـــة و محطمــة!"



    لم أكــن أعرف كم من الوقــت مر علي و أنا غائبة عن الوعي فوق جثة كريس؟!, حتى أنني لم أكن أريد فتح عيني مجدداً, كم تمنيت أن تغادر روحي معه, لماذا تركني و ذهب؟!, و بداخلي كنت أردد


    " يا إلهي, هل ما حدث كان حقيقة؟!...هل بالفعل فقدته؟!..لن أسمع صوته ثانيةً؟!, لن أرى ابتسامته مجدداً؟!, لن أشعر بدفء قلبه..لقد فقدته للأبد!!..."


    قلبي لا يزال ينبض, لا زال يتألم, و لا يصدق بأنه قد مات و فارقه, و لكن كل الدلائل تشير إلى ذلك, لن يعود كريس مهما حدث....


    استعدت وعيي بعد فترة من الزمن, و أجبرت عيني على أن تنفتحا, و لكن ياللصدمة!!


    لم أجد كريس, حتى لم أجد أي أثر للدماء على الأرض, أو على قميصي البنفسجي, شعرت بالذهول يجتاحني, و أنا أجول بعيني, باحثةً عن جثته, و أنا أتساءل, أين ذهبت يا ترى؟!, هل أخذها القاتل و أنا فاقدة للوعي؟!, و لكن لماذا لم يقتلني؟!, و إذا أخذها أين أثار الدماء على ملابسي؟!..


    كلها أسئلة دارت بداخلي, و من ثم هداني عقلي, إلى إجابة واحدة, إجابة شعرت فيها بالراحة, و الفرح,


    " كريس لا يزال حياً و لم يمت!!"


    و من شدة سعادتي هتفت قائلة:


    -إذاً كريس حي...أشكرك يا إلهي..و ما رأيته بالأمس كان مجرد حلم!...نعم إنه حي, و سأبحث عنه و أجده, و نهرب معاً من هذا القصر الخبيث


    لم أكد أنتهي من كلامي, حتى لمحت بعيني شيئاً ما كالظلال, يتحرك من على بعد عند الجدار المجاور لسلم القصر, شعرت بأنه يناديني, يريدني أن أذهب إليه, و هكذا نهضت من على الأرض, و قررت الذهاب إليه, فماذا سأخسر أكثر من ذلك؟!..


    اقتربت أكثر و أكثر من المكان, الذي وقف فيه الظل, و لكن بمجرد وصولي إليه, كان قد اختفى, تماماً, كأي شيء رأيناه في هذا القصر, و أخذت أفكر بداخلي..


    " لو كان كريس معي, لقال أنه شبح"


    نظرت بحزن, و شعرت بأن الرياح تلفح رقبتي, عندما تذكرت كريس, و من ثم تمتمت قائلة:


    -ماذا لو كانت بالفعل أشباح؟!...ربما كريس كان محقاً...إن القصر مسكوناً بالأشباح


    -و لكن ترى ما كنهة هذا الشيء؟!, شبح من يا ترى؟!, و ماذا كان يريد مني؟!


    كنت أسأل نفسي, في حيرة تامة, و أنا أتفحص بعيني المكان الذي كان واقفاً فيه, فلربما عثرت على شيء, أو ربما أجده قد ترك دليلاً, أو لعلي أفهم لماذا كان يقف هنا بالذات؟!, لكنني لم أجد شيء, أو هكذا ظننت, عندما كدت أمشي, حتى استرعت انتباهي, لوحة زيتية كبيرة , ذات إطار مذهب, كانت معلقة على الجدار ...


    اقتربت من تلك اللوحة, ثم توقفت أمامها, و أخذت أتأملها, بعينين, متفحصتين, كانت لعائلة, مكونة من خمسة أفراد, حيث جلس الأب, مرتاحاً, على مقعده , و قد بدا

    الوقار الشديد على ملامحه التي كانت مريحة للنظر, و كذلك استقرار العوينات المذهبة فوق قصبة أنفه, و شعره الرمادي المختلط باللون الأسود, و المصفف بعناية,

    أشعرتني بالارستقراطية, كان مرتدياً بزةً كحلية اللون و لف منديلاً حول رقبته, و لكن لم أعرف لماذا انتابني ذلك الشعور الغريب؟!, الشعور بأنني رأيت وجه هذا الرجل من قبل؟!,



    "ربما أنا أهذي, و ربما اختلطت علي الوجوه"

    , هذا ما فكرت به, و أنا أتأمل وجه الأب, و من ثم نقلت عيني لزوجته التي كانت واقفةً بلباقة شديدة بجواره, مستندةً بيدها على إطار المقعد الذهبي, و قد بدا عليها الوقار

    مثل زوجها, كانت ذات شعر أسود, و عينان زرقاوان, و وجهاً شاحباً, بينما رسمت ابتسامة رقيقة على شفتيها الزهريتين ,كانت مرتدية فستان أسود اللون, ذو أكمام طويلة,


    " لحظة لحظة...إن هذه السيدة تشبه المسخ الذي رأيته مع كريس...لها نفس الشعر الأسود و العينان...و لكن!!"


    كان هذا ما قفز داخل عقلي من استنتاج و أنا أرمق السيدة بذهول, و من ثم اتسعت عيناي أكثر عندما رأيت لورين هي الأخرى بالصورة,

    " إذاً هذه عائلة لورين!!"

    , صحت بها داخل عقلي, و أنا أنظر إلى تلك الطفلة المسكينة, التي كانت واقفة بجوار والدتها, مرتدية فستان قصير لونه سماوي, بينما جمعت خصلات شعرها الشقراء

    داخل شريطة بيضاء, كانت تشبه الأرنب الصغير و هي تقف بذلك الفستان المنتفخ, و من الجانب الآخر للأب, وقف شابٌ طويل, محتمل أن يكون ابنهما, أي أنه شقيق

    لورين, بدا أكبر مني بقليل, كان نحيفاً, ذو بشرة خمرية, و شعر أسود, كان مرتدياً قميص أبيض اللون, و بنطالاً أسود, بحمالات, و بجواره وقفت فتاة, كانت أقصر منه,

    بقليل, و لكنها أطول من لورين, ربما هي شقيقتهم الأخرى, كانت مرتدية فستان لونه بنفسجي مائل للأسود, و لكنني لم أستطع تمييز وجهها!!, لقد كان مبهماً, لأول وهلة

    ظننت أن العيب بنظري, و أنني أصبت بضعف نظر, فأخذت أقرب وجهي من اللوحة و أدقق بملامحها, و لكنني اكتشفت, أن وجهها مبهماً بالفعل, فتساءلت بنفسي,

    " و لكن لماذا؟!, لماذا هي الوحيدة التي وجهها مبهم دوناً عن الجميع؟!"


    أخذت الأسئلة تشتت تفكيري, و ترميني ببحارٍ ليست لها أول من آخر,

    " أين أنت يا كريس؟!"

    , شعرت بتلك الكلمات تتغلغل داخلي, عندما اكتشفت أنني ضائعة بمفردي, وسط متاهة عملاقة,


    و لكن فجأةً انقطع حبل أفكاري, عندما تركزت عيني, على قلادة فضية صغيرة, كانت تتدلى من عنق الأم, لم ألحظها بالبداية, و لكنني انتبهت لها, عندما تفحصت الصورة ثانيةً...


    اهتزت أوتار قلبي و أنا أدقق أكثر بتلك القلادة, بينما ارتجفت كل خلية بجسدي, و شعرت بالبرد, يدب في أوصالي, فضممت نفسي بيدي, و بداخلي تردد صدى الأفكار الحائرة...


    " أشعر بأنني..."


    و لكنني لم أكمل تفكيري, عندما بدأت أشعر بألمٍ يتخلخل جمجمتي, ليقتحم خلايا مخي, و يعتصر أعصابها, فصحت من الوجع و أنا أضغط بيدي على رأسي, قائلة:


    -آه يا إلهي .. أشعر بصداعٍ شديد...سينفجر عقلي منه...أنا أشعر بــ...آآآه رأسي ستنفجر...هل هذه هي النهاية؟!...


    شعرت بثقل جسدي بعدها, و لم تعد قدماي تستطيعان حملي أكثر من هذا, فكان لابد من الاستسلام...


    اقتربت بعدها الأرض أكثر و دنت مني, حتى أصبحت ملاصقةً لي, بينما تسللت برودتها, داخل جلدي, لتجعل بقية أوصالي ترتجف, لم أعد أقوى على الحراك, و تزايد ألم رأسي,

    فنزفت أنفي دماءً كثيرة, من ذلك الضغط الرهيب, و من ثم أحسست باختناق في أنفاسي, لم أعد أستطيع التنفس, و كأن أحداً ما قد جثا فوق صدري, فأغمضت عيني, و قررت الاستسلام, فماذا سيحدث لي أكثر من هذا؟!....


    هل سأموت؟!...هل هي النهاية؟!...و لكن كريس, هل بالفعل لم يمت؟!, أم أنني واهمة؟!...


    " مهما كان, أريد أن أكون معك يا كريس....للأبد"


    .....



    ( هممم..همممم...هم...همممم...هممم...ممممم...هيا حلق يا طائري الصغير...حلق فوق المزارع البعيدة...انثر جناحيك في الفضاء....خذني معك نحو السماء...حلق و حلق....و خذني معك بعيداً عن هذا العالم....خذني معك إلى أرض المرح....إلى حيث الفرح....إلى عالم مليء بالدفء و الحنان... بعيداً عن الحزن و الأشجان....حلق حلق يا طائري الصغير..هيا حلق يا....)


    استعدت وعيي مجدداً, و لكن هذه المرة على صوت سيدة و طفلة كانتا تغنيان معاً بمرح تهويدة غريبة, أخذت أستمع إليهما في صمت, و اندهاش, فشعرت بداخلي ,أنني

    أستطيع إكمال كلماتها, بل شعرت بأنني استمعت إليها من قبل, و داخل عقلي, رن صوتيهما و هز وجداني, فجعلني أشعر بالحنين, لا أعرف لماذا؟!, و لكنني شعرت بأنني أعرف هاتين الصوتين...


    تواثبت نبضات قلبي, حتى تردد صداها بأذني, و لا أعرف لماذا؟!, و لكن ربما يكون بسبب خوفي..


    وضعت بيدي على صدري, حتى أهدئ ذلك النبض, بينما أخذت أجول بنظري, و أستكشف المكان, لتصيبني صدمة أخرى, فلقد اكتشفت أنني بغرفة و لست بردهة,

    و لكنها لم تكن أية غرفة, إنه المكتب الذي استيقظنا فيه أنا و كريس مسبقاً, عندها عادت الأسئلة تتلاطم بداخلي كأمواج البحر, و تتكسر بالنهاية على صخرة الحيرة و الضياع..


    " هل هناك أحد نقلني إلى هنا؟!, و من هو؟!, إن كان القاتل, فلماذا لم يقتلني؟!, أم أنني أسير أثناء نومي؟!...أمر محير..."


    اتجهت نحو المكتبة الصغيرة, التي كانت مستندة للجدار, بمحاذاة المكتب الأبانوسي, و بداخلي قلت إنها فرصتي لأستكشف و أتفحص تلك الكتب الكثيرة, التي ملأت الرفوف, فلربما قادتني إلى شيءٍ مهم...


    تناولت الكتاب الأول, ثم الثاني, كانت بالفعل كتب علمية و ثقافية, عن التشريح, و الطب, و أخرى سياسية, و مجموعة من الأدب القصصي, كمسرحيات لشكسبير و روايات لتشارلز ديكنز, و كانت هناك كتب نادرة, و مثيرة للاهتمام,

    " كم أعشق القراءة, و لكن ليس هذا وقته, يجب أن أجد دليل يريح قلبي..."


    كنت أتحدث لنفسي, و أنا أقلب صفحات كل كتابٍ أراه, فلربما كان هناك حل داخل هذه الكتب, و لكنني توقفت من تلقاء نفسي, عن التصفح, عندما شعرت بأنني رأيت هذه الكتب مسبقاً, و لكن أين؟!..


    أخذت أتذكر جلياً, و أنا أرمق تلك الكتب بتوتر, عندها اتسعت عيناي, و دق ناقوس الحيرة و الخوف ثانيةً داخل نفسي, عندما تذكرت أين رأيتها؟!...


    " إنها تشبه مجموعة الكتب التي بمكتب أبي...و لكن ماذا تفعل هنا؟!.."


    شعرت بالسخرية , و برغبة قوية في الضحك و البكاء بآنٍ واحد, فلقد أدخلني الشيء الذي اعتقدت أنني سأجد فيه الحل, لشبكة من الألغاز المعقدة, هل هي مصادفة؟!...


    أولاً كانت القلادة, و الآن الكتب, كلما بحثت عن أي شيء ,لينجدني من هنا و يقطع خيوط الخطر من حولي, وجدتني أتعمق بأسرار القصر أكثر, لتدفعني داخل شباكها و تمسكني خيوطها مجدداً, و تريني ما يؤلمني, و لا أعرف متى سينتهي العذاب؟!..


    -أين أنت يا كريس؟!...لقد اشتقت إليك كثيراً, لكم أشعر بالوحدة من دونك...و لم أكن أعرف أنني ضعيفة إلى هذه الدرجة


    كانت دموعي قد بدأت تغلبني, عندما تذكرت كريس, فاجتاحني سيل من المشاعر الدفينة, جعلتني أقول تلك الكلمات بحرارة و شوق, ممتزجة بحزن و ألم...


    فجأة شعرت بأن أحداً ما يقف خلفي, و بأنفاسٍ تلفح رقبتي, و تطير خصلات شعري, و أحسست بيدٍ على كتفي, أعادتني من اللاوعي, للإدراك, و الشعور بالخوف و الهلع, فجعلت القشعريرة تسر بجسدي, ليرتجف كورقة شجر هزتها الرياح العاصفة...


    و كردة فعل بديهية, تصدر من أي شخص خائف, سقط الكتاب الذي كنت لاأزال ممسكةً به, على الأرض, لينفتح على صفحة بها رسمة لتشريح الجثث, جعلت قلبي يتواثب من الرعب, و لكنني أجبرت نفسي على الالتفات, لأرى من الذي خلفي؟!...


    -كريس!!...هل أنت حي؟!


    قلتها بذهول, عندما رأيته واقفاً عند باب المكتب, ينظر نحوي, بعينيه الخضراوين, و ابتسامته الدافئة, التي جعلت قلبي ينصهر, و جعلت الدموع تتلألأ داخل مقلتي, فهتفت بفرحة:


    -أخيراً وجدتك يا كريس


    و من ثم ركضت نحوه و أنا مبتسمة, أشعر بالسعادة, و الراحة, لأنه عاد أخيراً, ثم صحت قائلة بعتاب:


    -أين ذهبت أيها الأحمــ...


    لم أكمل كلامي, لأن الصمت ألجمني, و عقد لساني من الذهول, فعندما وصلت إليه, كان قد اختفى من جديد...


    شعرت بأنني أريد أن أبكي حتى نهاية العالم, و بداخلي أتساءل


    "لماذا اختفى؟!, هل أصبح كريس شبحاً هو الآخر؟!, أم أنني من كثر شوقي له, تخيلت وجوده؟!"


    و يبدو أنني أخرج من دائرة محيرة, لأقع بحفرة أكبر حيرة, عندما وجدت بالمكان الذي كان كريس واقفاً به, ورقة صغيرة مطوية, فتناولتها و فتحتها, و أنا أقول ساخرة بألم:


    -ترى أي لغزٍ سيفصح عن نفسه هذه المرة؟!


    ليلجمني الصمت مجدداً, عندما وجدت أن الورقة لا تحوي سوى كلمة واحدة, رغم صغر حروفها, إلا أنها زادت الحيرة داخلي...


    " كلوديا!!"

    هذا ما كان مكتوباً داخل الورقة,

    "و لكن من هي كلوديا؟!, هل هي والدة لورين؟!, أم هي الفتاة ذات الوجه المبهم باللوحة؟! و ما دخلي أنا بها؟!"


    كلها أسئلة تدور, تبدأ من نقطة, ثم تتفرع, و تتشابك, لتعود إلى نفس النقطة المحيرة, لا إجابة تريحني, و لا منقذ يخرجني من هذه الورطة..


    أطبقت الورقة بيدي, و دسستها بجيب بنطالي الجينز الأسود, عندما سمعت صوت أحدٍ ما يدخل إلى الغرفة, فأخذت أتلفت حولي, لأرى من؟!, و لكن لم أجد شيئاً,
    فقط رأيت الباب يهتز, و كأن أحداً ما دفعه, و هو يركض نحو الداخل, و من ثم شعرت و كأن شيئاً ما مر من خلالي, كهواء تغلغل داخل ذرات جسدي


    " جميل..هل عاد الهذيان ثانيةً؟!"


    كان هذا ما طرأ ببالي, و عندها رأيت مقعد المكتب, يتأرجح للأمام و للخلف, و كأن أحداً ما جالس عليه, و من ثم سمعت صوت فتاة صغيرة تتكلم بصوتٍ مرعوب و قلق, قائلة:


    -أبي...أبي..أرجوك يا أبي لنرحل من هنا, أنا لا أريد المكوث بهذا المكان أكثر من ذلك...إنه مخيف يا أبي


    بعدها سمعت, صوت رجل يجيبها, قائلاً في حنان و تساؤل:


    -لماذا تقولين مثل هذا الكلام يا صغيرتي؟!


    عندها خرج صوت بكاء, و من ثم سمعت الفتاة تقول, بنبرات فيها مقاومة للدموع:


    -أرجوك دعنا نذهب من هنا...إن المكان مخيف..أنا أراهم يا أبي..إنهم في كل مكان...يسعون وراء الانتقام...و عندما يتمكنون من السيطرة...سيخرجون, و عندها تصبح النهاية...و تنتشر الدماء..و...


    لم تكمل الفتاة كلامها المرعب هذا, عندما صدر صوت ضرب على المكتب, يبدو أن الأب لم يرق له الكلام, فضرب المكتب بقبضة يده, و جعل القلم يهتز على سطحه, بينما سمعت صوته يقول رادعاً لها:


    -كفى لورين...لا أريد أن أسمع مثل هذه التراهات مجدداً..هيا اذهبي إلى غرفتك


    صوت بكاء نشب بالهواء بعدها, و بالرغم من أنني لم أرى المشهد, و استمعت للحديث فقط, و لكنني شعرت بدموع لورين تسيل على وجنتي, و نبضات قلبها الصغيرة الخائفة, تحيي الخوف داخلي..


    و بعدها عم الهدوء, و ساد الصمت المكان, و كأن شيئاً لم يكن...


    " ماذا قصدت لورين بكلامها؟!...و لماذا لا يصدقها والدها؟!..."


    كانت هذه هي الأسئلة التي تفتقت بذهني, و كشفت الستار عن نفسها, عندها ظهرت لورين أمامي, كانت تقف صامتة, بينما التعاسة غلفت وجهها الصغير,

    " رباه , لماذا أشعر بقلبي يتقطع على هذه الصغيرة؟!...رغم ما فعله قصرها بي و بـ...كريس"


    سرى الحنين و الألم بداخلي, يعتصر فؤادي, و يضرب على أوتاره ,ليؤلمني, و لازلت أردد..

    "متى النهاية؟!"


    كانت لورين ترشقني بنظرات شعرت بالرجاء في مكنونها, و من ثم استدارت و أخذت تمشي, كانت تريد مني أن أتبعها, فلبيت طلبها, و سرت خلفها, فلعلها تحمل الحل الشافي لتلك الألغاز, و إجابات أسئلتي...


    قادتني الفتاة إلى سلم القصر مباشرةً, و من ثم أخذت تنزله درجةً درجة, و أنا وراءها, أفعل ما تفعله, و كأنني سرت مرتبطةً بها, أنفذ ما تريده مني دون اعتراض..


    هبطنا بعدها إلى الأسفل, و سارت بي في ممرات, حتى أوصلتنا إلى مكانٍ أعرفه جيداً, رطب و بشع و مقزز و مظلم, إنه ذلك القبو المخيف من جديد, فتساءلت بداخلي


    " ترى ماذا تريد لورين مني؟!, و ماذا تريد أن تريني هنا؟!"


    فجأة أصبح المكان مشوشاً مرة أخرى, قاطعاً تساؤلاتي, و من ثم بدأ يتلاشى, لتظهر المقابر من جديد, ثم تختفي المقابر و يعود القبو, كم كرهت هذا المكان المخيف, فشعرت بالبرد يسري في جسدي, و أصبحت رائحة المكان مقززة, و عطنة, رائحته كالموت...


    أخذت لورين, تنظر لي و من ثم تنظر نحو الأرض, عندها لم أعد أفهم ماذا تريد هذه الفتاة مني بالضبط؟!, فاتجهت إليها, و قررت أن أسألها, فأنا لا أطيق هذا الصمت, و لقد ضقت ذرعاً كذلك..


    -ماذا تريدين مني؟!, و لماذا جعلتيني أعود إلى هذا المكان؟!, قولي لي ماذا تريدين مني؟!, لماذا لا تردين علي؟!, هيا انطقي, لماذا أنتِ صامتة هكذا؟!, لماذا لا تتكلمين معي كما أكلمكِ؟!, هيا أجيبيني لورين..لماذا يا لورين؟!, لماذا أنا بالذات؟!, ما علاقتي بكم؟!, ما علاقتي بهذا القصر؟!, أنا لم أفعل لكم أي شيء, فلماذا تعاملونني هكذا؟!, لماذا أخذتم كريس مني؟!, لماذا تصرون على تدميري؟!, لماذا؟!..لماذا؟!...هيا ردي علي...سحقاً لكِ و لقصركِ...أجيبيني هيا


    كنت في أوج انفعالي و حزني, فلم أجد غير هذه المسكينة لأصب جام غضبي عليها, و لكن ما ذنبها؟!, لا أعرف , فقط كنت أريد أن أخرج ما يختلج داخلي من مشاعر مكبوتة , بينما أخذت أنشج من البكاء, و ألهث من التعب, لكم أردت أن ينتهي هذا العذاب, و لكن يبدو أن أمنيتي لن تتحقق..


    نظرت للورين, حتى أرى ردة فعلها, لأجدها واقفة لا تحرك ساكناً, فقط اكتفت بمراقبتي, بعينيها الخاويتين, و من ثم نظرت بإتجاه الأرض مجدداً,

    ثم شعرت برأسها يهتز, و كتفيها, فاقتربت أكثر منها, لأتفاجأ بتلك اللآلئ الصغيرة المتساقطة, كقطرات المطر المنهمرة, تنزل من عينيها, لقد كانت تبكي,

    " رباه لقد قسوت عليها"

    , أخذت أبكي أنا أيضاً معها, عندما شعرت بالذنب تجاهها, و في تلك اللحظة أردت أن أحتضنها و ألفها بذراعيّ, أن أكفكف دموعها التي تؤلم قلبي, فقلت لها باعتذار:


    -لورين لا تبكي أرجوكِ..لا تبكي يا صغيرتي...أنا...


    قطعتُ كلامي على الفور, عندما رأيت لورين, تشير بيدها نحو الأرض, و من ثم أخذت تدق بقدمها على بقعة معينة, تقع بيننا, لقد كانت تريد مني أن أحفرها, هذا ما فهمته من إشاراتها, فهممت بتلبية طلبها, ربما وجدت دليلاً ينقذني من هنا...


    جثوت على ركبتي, فوق التراب, و من ثم شمرت عن ساعدي, و تناولت المعول, و بدأت بالعمل في صمت, بينما ظلت لورين واقفة تراقبني بحرص...


    و لكن كلما زدت بالحفر, كلما ازدادت رائحة العطن, فتتقزز ملامحي و تشمئز, حتى وصلت لما أرادت لورين مني أن أجده, فسقط المعول مني, بينما نهضت من على الأرض, و أنا أحدق في رعب و نفور, و حزن, بينما وضعت يدي على أنفي, و فمي, عندما شعرت بالغثيان, ثم قلت بصوت مصدوم, و أنا أبكي من هول المفاجأة:


    -يا إلهي...كل هذه هياكل و جثث كانت بالقبو!!...


    كانت البقعة التي أرادت مني لورين أن أحفرها, وارت جثثاً تحتها, جعلتني أصاب بقشعريرة و هلع من منظرها, فأي وحش هذا الذي يدفن الجثث بالقبو؟!


    " ترى أي من هذه الجثث هي جثتكِ يا لورين؟!"


    كنت أتساءل و الشفقة تأخذني على هذه المسكينة, فأخذت أبكي بألم, و بداخلي أردت أن أعرف من فعل هذا؟!, و لماذا؟!, شعرت بالحقد عليه و تمنيت أن أنتقم منه, و أن أحرقه بيدي..


    اقتربت مني لورين في هذه الأثناء, حتى أصبحت أمامي مباشرةً, فنظرت بعينيها, و أنا أقطب حاجباي, من نظراتها الغريبة تلك, و هممت بسؤالها, لكنها لم تدع الفرصة لي,

    عندما أمسكت بيدي, فشعرت بمدى برودتها, و كأنها قطعة من الجليد, و من ثم غمر المكان حاجز من الضوء الشديد, شعرت به يتسرب داخلي, و يبتلعني في وهيجه,

    لم أعد أرى أي شيء, و بدأت عيناي تتألم, فأغمضتهما بقوة, و تساءل قلبي الذي نبض بعنف..


    " ماذا يحدث؟!, هل قررت لورين أن تصطحبني إلى عالم الأشباح؟!.."


    شعرت بروحي تنسحب من بين ضلوعي, و بقلبي يتسارع نبضاته, حتى كاد أن ينفجر, و ضغط هائل على رئتي, و فجأة, أحسست بأن الضوء انسحب من حولي, ففتحت عيني ببطء, لأنصعق من هول المفاجأة...


    لقد كنت بغرفة لورين, و لكن الغريب في الأمر, أنها أصبحت نظيفة و تدب بالحياة, و لم تعد الدماء موجودة بأرجاء المكان, فازدادت دهشتي, بينما نظرت بجانبي, لأجد لورين

    جالسة إلى مكتبها الصغير, تدون شيئاً ما بدفترها, فمشيت نحوها بخطوات بطيئة, مليئة بالحيرة و الذهول, و من ثم توقفت بجانبها, و وضعت بيدي على المكتب و هممت بأن أسئلها,

    و لكنني توقفت, عندما وجدتها, تلفت رأسها لي, و لكن لم يبدو عليها أية علامات, أو ردة فعل, عندها أيقنت أنها....لا تراني!!


    .....


    لم يمر الكثير من الوقت, و لكن اعلموا أنني لاأزال بعد بصدمة قوية, أحاول أن أفسر ما يحدث لي, فلماذا لا تراني لورين؟!, لماذا يدي تمر خلالها؟!, و هل أنا الشبح أم هي؟!..


    و وسط ذهولي و تساؤلاتي, دخلت فتاة إلى الغرفة, لتقطع حيرتي, بعد أن طرقت عليها مستئذنةً الدخول, كانت بمثل عمري, و شعرها أسود اللون و لكنه طويل و مصفف بطريقة مموجة, كانت مرتديةً ثوب نوم أبيض فضفاض, و يلتف حول خصرها شريطاً أبيض كذلك, بدا وجهها مألوفاً لي, و بداخلي كنت أتساءل ...


    " هل هذه هي الفتاة صاحبة الوجه المبهم باللوحة؟!"



    بينما أخذت أراقب بعيني المشهد الذي يحدث أمامي, و أنا أشعر بشيءٍ ما داخل روحي, شيء يشبه الحنين إلى الذكريات و الاشتياق إلى الماضي...


    اقتربت الفتاة, من لورين الجالسة في صمت تدون أشياء بدفترها, و من ثم وقفت بجوارها تقول في حنان كذلك, بينما رسمت ابتسامة على شفتيها و هي تضع بيدها على كتفها:


    -لورين عزيزتي, لماذا تجلسين وحدك هنا؟!...ألا تشعرين بالوحدة؟!...تعالي لنخرج من هنا


    أوقفت لورين الكتابة, و لكنها لم تلتفت لشقيقتها, بل ظلت تحدق بالفراغ أمامها, و هي تقول بصوتٍ منكسر و ضعيف:


    -أنا لا أريد أن أظل هنا


    أمكنني رؤية الاندهاش يرتسم بعيني الفتاة, بينما تساءلت باستغراب:


    -ماذا تقصدين بقولك هذا؟!


    بخوفٍ أجابت لورين عليها:


    -كلوديا...إن هذا القصر مخيف.. إنه يرعبني, أرجوكِ لنذهب من هنا


    " كلوديا!!...إذاً هذه الفتاة هي كلوديا؟!..."


    كنت أفكر بذهول, و دهشة, و من ثم تذكرت الورقة التي وجدتها مكان كريس, و التي كان مكتوب بداخلها كلوديا, فشعرت بالحيرة تعتصرني مجدداً, و تساءلت بداخلي...


    " لماذا اسمها هو المكتوب بداخل الورقة؟!...و لماذا كانت هي الوحيدة المبهمة باللوحة؟!..."



    قطعت كلوديا تفكيري, و هي تتساءل أو تعترض على ما تقوله شقيقتها:


    -و لكن مما تخافين؟!...أنا لا أرى أي شيء مخيف هنا, فلماذا تقولين هذا الكلام صغيرتي؟!


    عندها قطبت لورين حاجبيها, و هي ترد عليها, بنبرات خائفة , و كلمات متقطعة و محتجة على ما قالته كلوديا:


    -لأنني أراهم كثيراً...إنهم في كل مكان...أشكالهم مخيفة...رائحتهم مقززة...كلهم غاضبون...لا يريدون سوى الانتقام...إنهم بكل مكان....


    و من ثم التفتت خلفها, و أمسكت بيد كلوديا, و نظرت لها نظرات كلها رجاء, قائلة:


    -أرجوكِ يا كلوديا, دعينا نذهب من هنا...أرجوكِ قولي لوالدي بأن نذهب من هنا...إنه لا يستمع إلي و أمي لا تستمع إلي...أرجوكِ إن أبي سيستمع إليكِ ككل مرة...


    شعرت كلوديا بالحيرة, و الاستغراب أكثر من تصرف أختها, فقالت لها:


    -ربما كان ما ترينه حلماً مرعباً, لا أقل و لا أكثر


    -أنا لم أعد أحلم يا كلوديا...لقد أصبحت أحلامي سوداء...


    قالتها الفتاة بتألم, و شجن, و هي تحاول قمع دموعها, فاستطردت كلوديا كلامها, قائلة :


    -إذاً أنتِ مريضة عزيزتي, و إلا, فسر لي من هؤلاء الذين تتكلمين عنهم و لماذا يريدون الانتقام؟!


    -إنهم أشباح المقابر


    قالتها لورين بخوف, عندها بدا النفور على وجه كلوديا التي قالت:


    -ماذا؟!...أشباح!!...الآن فقط تأكدت من أنكِ مريضة للغاية, و تهذين كذلك


    -أرجوكِ يا كلوديا صدقيني...أنا لست مريضة, و كفي عن معاملتي بهذا الشكل...لماذا لا تصدقيني؟!...أنا أراهم فعلاً...


    كانت لورين تتكلم راجية و مدافعة عن نفسها, عندها تملك كلوديا الغضب, فقالت باستنكار :


    -لورين يكفي هذا....لا وجود للأشباح...أنا لا أصدق بوجودهم, هل فهمتي؟!...و الآن هل ستخرجين معي أم لا؟!


    لم تجبها لورين, بل أنكست رأسها, و التفتت إلى دفترها, معاودةً الكتابة فيه بصمت, بينما اغرورقت عينيها بالدموع, فجعلتها ذابلة, عندها خرجت كلوديا من الغرفة و هي

    تشعر بالضيق, فصفقت الباب خلفها, لتتساقط دموع لورين على دفترها ,و كأن الحاجز الذي كان يمنعها قد انكسر, فشعرت بالحزن من أجلها ,و أنا أراها تبكي بحزن و

    صمت, أردت أن أربت عليها, و اندهشت من ردة فعل أختها الغريبة, فلماذا لا تصدقها؟!, و لماذا هي قاسية بهذا الشكل معها؟!, أهذا لأنها صغيرة؟!..


    فجأة اختفت لورين من أمامي و تلاشى كل شيء, بينما ظللت وحدي بالغرفة, و لكن هذه المرة كانت هناك كتابات في كل مكان على الجدران, كانت مكتوبة بالدم....


    ( إنهم في كل مكان...و ليس هناك سوى الانتقام)


    شعرت بالدنيا تلف بي, أو ربما أنا من تدور, بينما تعالت صوت همسات في المكان, أخذت ترن في أذني, جعلت عقلي ينبض, و الألم سيفتك به , شعرت بأنه سينهار, فسددت أذني بيدي, حتى لا أسمع تلك الهمسات المرعبة, و لكنها لم تتركني بحالي, فصرخت داخلي...

    " يا إلهي انقذني مما أنا فيه.."


    عندها غمر الضوء المكان مجدداً, فأغلقت عيني ,و لكن هذه المرة, لم أشعر بالتذمر, لأنه أنقذني من الهمسات, و لكن ترى بأي مكانٍ سأكون عندما أصحو؟!....



    .....



    " العيب ليس به...بل بالقصر...لطالما كان القصر, منذ البداية"



    فتحت عيني على تلك الكلمات الغريبة, التي رنت داخل ردهات عقلي, فجعلت الذعر يتملكني, و أنا أتساءل, عن ماذا يقصد الصوت؟!, و من الذي تكلم؟!..



    و لكنني قطعت أفكاري, عندما لم أجد نفسي بغرفة لورين, بل بغرفة أخرى....إنها الغرفة التي قذف بها كريس المزهرية على القاتل, عندما قتل زوجته...


    تسمرت بمكاني عندما شق الاستنتاج طريقه إلى عقلي, فهز قلبي معه...


    " إن الأب هو القاتل...هو من قتل زوجته و أسرته...يا إلهي!!"



    أفقت من شرودي, عندما رأيت الأم نائمة على سريرها, إنه نفس المشهد الذي رأيته مع كريس, و لكن هذه المرة انتبهت للقلادة التي على صدرها, ليجتاحني بحر الأسئلة مجدداً, فهذه القلادة رأيتها من قبل, و لكن أين؟!, لا أذكر...


    فجأة تبددت أسئلتي, بدخول ذلك الشخص البغيض, المتشح بالسواد, أو لنقل رب الأسرة القاتل, ممسكاً بفأسه اللعين, يريد أن يهوي به على المسكينة النائمة, فشعرت بالضيق و أنا أصيح بداخلي,

    " يا إلهي هل سأشاهد ذلك المشهد مجدداً؟!.."


    تملكني الغضب, و بداخلي قررت أن أفعل شيئاً, لا أن أقف صامتة و أراقب الحدث من على بعد, فاتجهت نحوه, و حاولت بكل جهدي أن أمنعه عن ارتكاب الجريمة, و لكنه لم يرني, و كأنني هواء بالنسبة إليه, فشعرت بالاستياء من نفسي, لأنني بلا فائدة...


    و فجأةً فتحت الأم عينيها الزرقاوين, و من ثم نظرت بذهول نحو المجرم, و هي تقول في ذعر:


    -م..م..ماذا أصابك يا عزيزي؟!...لماذا تمسك بهذا الفأس؟!


    و لكن عزيز قلبها لم يجب, بل اقترب أكثر منها و لم يأبه لها, و رفع فأسه مجدداً, ليهوي به عليها, و لكنها استطاعت نجدة نفسها, بتدحرجها من فوق السرير, لتقع على الأرض و هي تصرخ بهلع قائلة:


    -ماذا حدث لك؟!


    لم يستمع إليها ثانيةً, و اتجه نحوها, بينما أخذت هي تزحف نحو الباب, حتى تتمكن من الهرب, و هي تصرخ محاولةً أن تعيده إلى صوابه, و لكنه أمسك بها, و جذبها من شعرها, و أخذ يركلها بلا رحمة, و من ثم رفع فأسه للأعلى و هو ينظر لها نظرة الوداع, عندها تردد صراخي بنفس الوقت مع صراخها و هي تقول و الدموع تغزو سطح عينيها:


    -أرجوك...أر...جوكلا...تقتلني...ما الذي...ح...حدث...لك؟!...عزيزي...أرجوك...أفق....أرج وك .. ماذا حدثلك يا....


    هوى بفأسه عليها, مسكتاً إياها عن الكلام, بينما تناثرت الدماء بكل مكان, و بداخلي شعرت بالغليان,

    فلماذا لم يستمع إليها؟!, لماذا قتلها بتلك الوحشية؟!, و هل هذا هو انتقام الأشباح كما قالت لورين؟!...


    نزل الضوء و غمر المكان مجدداً, بستاره المتوهج, و من ثم تراجع و انقشع, لأجد نفسي بغرفة لورين من جديد, و لكن هذه المرة, كلوديا هي التي كانت جالسة بالغرفة.

    .....


    كانت كلوديا مرتدية فستان أزرق اللون, عليه وشاحاً أبيض, بينما تركت شعرها الأسود منسدلاً على كتفيها, و يبدو أنها قد انسجمت مع الرواية التي تقرأها,

    حتى استيقظت من انسجامها, عندما دخل أحدهم عليها, عرفت هذا عندما لفتت رأسها نحوي, للوهلة الأولى, ظننت أنها رأتني, و قصدتني بنظرات الاستغراب هذه,

    و لكنني فهمت كل شيء, عندما سمعت صوت جر الفأس على الأرض, فالتفت خلفي, لأجد القاتل المتشح بالسواد, أو لنقل والدها العزيز, يتجه بكل ثبات نحو ابنته, التي كانت في قمة التعجب و الاستغراب مما يحدث, و لم يعيقه ثقل الفأس عن التقدم...


    نهضت كلوديا من على مقعدها, و لكنها ظلت واقفة بمكانها, تنظر إليه بشك و ريبة, بينما قالت بتردد ممتزجاً بالخوف :


    -أ..أ..أبي!!...ماذا تريد؟!...و لم ترتدي هذه الملابس الغريبة؟!...و ما هذا الذي بيدك؟!


    كان بؤبؤي عينيها يهتزان و هي ترمق الفأس الكبير الملوث بالدماء, بالطبع دماء والدتها المسكينة, و التي قتلها للتو, فازدردت لعابها, و هي تتراجع للخلف, عندما رأته يقترب منها, دون أن يجيبها,


    " يا إلهي إنه يريد قتل ابنته أيضاً!!"


    كان الخوف يتملكني و الفزع يسيطر علي, و أنا أراقب ذلك المشهد المؤلم, بينما ينبض قلبي مع كل خطوة تخطوها كلوديا للخلف, و تكمل تساؤلاتها المرتابة:


    -أبي...ما هذه الدماء؟!...و أين أمي؟!


    لم يرد الأب على تساؤلات ابنته الهلعة, و التي أخذ صدرها يعلو و يهبط, من الخوف, عندما رفع فأسه بوضعية الاستعداد...لقتلها!


    أخذت كلوديا تهز برأسها و تغلق عينيها و تفتحهما أكثر من مرة , غير مصدقةً لما تراه, و من وجهها شعرت بأنها تتساءل,

    " هل بالفعل هذا والدي؟!...هل أنا بحقيقة أم بكابوس؟!.."


    و لكن ما هذا الشعور الذي بداخلي؟!, أريد أن أبكي, أن أصرخ, لا أريد أن أشاهد ما يحدث, و لكن عيناي لا تنغلقان, و كأنهما خرجتا عن طوعي, فكدت أن أصرخ على

    الفتاة حتى تهرب, و لكن حمداً لله, ابتعدت كلوديا باللحظة الحرجة, عندما وصل نحوها, و هم بضربها بفأسه, فكانت فرصةً لا بأس بها لهروبها و خروجها من الغرفة, بينما الأب لا يزال ينتزع فأسه من على الأرض..


    فتساءلت بداخلي, " هل سيتركها تهرب يا ترى, أم أنه سيخرج خلفها؟!..."


    انتزع القاتل فأسه, و لكنه لم يخرج, و خالف توقعاتي, مما جعلني أتساءل,

    " لماذا لم يخرج يا ترى؟!, غريب!!"


    و لكن سرعان ما انقشعت الغرابة, و الحيرة, عندما وجدته يتجه نحو السرير, لتجحظ عيني من الصدمة, عندما وجدتها غافية فوق السرير, كملاكٍ صغير أبيض, كانت تغط في نومها, و هي لا تدري ماذا سيحل بها؟!, عندها تملكني الذعر و القلق عليها ,فأخذت أصيح بأعلى صوتي, حتى أوقظها:


    -لورين استيقظي يا صغيرتي, أرجوكِ افتحي عينيكِ


    كنت أشعر بأن قلبي سيخرج من مكانه, و عيني كذلك, و هي لا تزال نائمة, و هو يتقدم بخطاه نحو سريرها,

    " يا إلهي هل سيقتلها و هي نائمة؟!"


    و لكن سرعان ما أنفى عقلي تلك الفكرة عندما تذكرت أنني رأيت مشهد مقتل لورين مع كريس, فقلت بسري,

    " ستفتح عينيها الآن أنا متأكدة"


    و من ثم شعرت باليأس يدب في نفسي مجدداً, عندما قلت بداخلي و أنا أتذكر كيف قتلها؟!,

    " ما الفائدة, ستموت على أية حال"


    توقفت عن التحدث لنفسي قليلاً, بينما أشاهد الشرير يدنو من لورين النائمة أكثر, فأكملت بشجن,

    " سيموت الجميع...و لن يبقى أحد"


    ضغطت على قبضة يدي في غل, بل اعتصرتها, بينما تساقطت دموعي, و أنا أردد,

    " متى ستتوقف تلك الدموع؟!, متى ستذهب رائحة الموت؟!"


    و بنفس الوقت كانت لورين قد استيقظت من نومها فزعةً, لتجد والدها رافعاً فأسه, و ينظر لها, كالجزار الذي جاء ليجز حمله الصغير, الضعيف, و ينهي حياته للأبد..


    و لكن لورين ابتعدت سريعاً عن السرير, فسقطت الفأس على الوسائد, ممزقةً إياها, ليتناثر قطنها بأرجاء الغرفة, و يلتصق بعضاً منه بالفأس, بينما أخذت المسكينة تزحف على الأرض و هي غير مصدقة لما يحدث, و أخيراً نطقت قائلة في جزع:


    -أبي..ما الأمر؟!..لماذا تمسك...بهذه الفأس؟!


    واصل الأب تقدمه نحوها, بينما ارتسمت ابتسامة خبيثة على شفتيه, و هو يجر فأسه على الأرض محدثاً الصرير المزعج, فتساءلت لورين بتشكك و رعب, عندما لمحت الدماء على فأسه, بينما كانت تواصل زحفها للخلف :


    -أين أمي؟!...أين كلوديا؟!...أين لاري؟!


    " لاري من؟!...هل تقصد شقيقها؟!"

    , هكذا تساءلت و أنا أشاهدها ترتعد, و ترتجف كعصفورٍ صغير سقط من عشه, وسط غابة من الذئاب و النسور الجارحة...


    لم يستمع إليها, و لم يرق قلبه و يتحرك لحالها المزرية,


    "ألهذه الدرجة قد تبلدت مشاعره و أحاسيسه؟!, لو كان هذا هو انتقام الأشباح كما قالت لورين, فسحقاً لتلك الأشباح البغيضة"


    كان ذلك ما يختلج داخل قلبي, الذي كان هائجاً كالأعاصير, عندما جذب الأب ابنته من شعرها الأشقر, فآلم رأسها الصغير و آلمني, بينما نزلت الدماء منه على عينيها,

    و من ثم أوقعها أرضاً, و أخذ يضربها بقسوة, و يركلها بلا أدنى شفقة أو رحمة, و كأنها ليست قطعة منه, فتعالى صياحها و بكاءها, و هي تتأوه من الألم, ففتحت فمها

    لتتكلم, ربما لتسأله لماذا يفعل ذلك؟!, أو لتستجدي عطفه, حتى يرأف بها, و لكنها عندما جاءت لتنطق, لم يخرج لها صوت, فلقد فقدت الصغيرة قدرتها على النطق من هول ما حدث لها, فشعرت بالشفقة عليها, و الحزن من أجلها,

    " ألهذا السبب لا تستطيع لورين أن تتكلم؟!"


    انقطعت أفكاري, بل تحطمت تماماً, عندما رأيت الفأس يهوي على رأسها و جسدها, ليسلبها حياتها, و طفولتها,

    " لقد ماتت لورين"



    أضاء بعدها المكان مرة ثانية, لينقلني لحدثٍ آخر, و لا أعرف لماذا يحب هذا القصر تعذيبي؟!, فأغمضت عيني, و أنا أردد بتعب داخل قلبي المتوجع...


    " متى سينتهي هذا؟!, لم أعد...أحتمل"


    .....


    فتحت عيني حتى أرى بأي مكانٍ ذهبت؟!, لأجد نفسي ببهو القصر الواسع, و لكنني لم أكن بمفردي, بل كانت كلوديا موجودة جالسة على الأرضية الملساء, و قد تلطخ ثوبها بالدماء, فتفاجأت من هذا المنظر,

    " هل قتلها هي أيضاً؟!"


    و لكنني سرعان ما غيرت رأيي, عندما رأيتها تبكي, على شخصٍ ما, ممدد أمامها, اقتربت منهما قليلاً, حتى أمكنني رؤية وجه الجثة المسكينة, لقد كان شقيقهما الأكبر, و قد شخص بصره, محدقاً بالسقف, بعينين خاويتين, بينما كانت الدماء تنزف من جسده, فتحول قميصه الأبيض إلى اللون القرمزي...


    ظلت كلوديا تهز بجسد أخيها, و تبكي و تنادي عليه قائلة:


    -أرجوك استيقظ يا لاري....أرجوك قل لي أنك لم تمت...ليس أنت أيضاً..


    و لكن لاري لم و لن يفيق مهما حاولت المسكينة, فصرخت عليه قائلة:


    -لا تتركني يا أخي...أرجوووك


    " لقد قتل الوغد ابنه..."


    شعرت بالدماء تغلي في عروقي, و تتصاعد إلى رأسي, بينما أخذت أصيح:


    -هذا يكفي...يكفي أيها القصر...أنا لم أعد أحتمل...


    وضغطت بيدي على أذني و هززت رأسي, ثم أكملت صراخي, بينما انتفضت الدموع من مقلتي:


    -أرجوووك توقف...لا أريد أن أرى المزيد من الذكريات المؤلمة


    توقفت عن الكلام, عندما سمعت صوت باب القصر يُطرق عليه بعنف, فنهضت كلوديا من جوار أخيها, و اتجهت نحو الباب و فتحته, و بعدها ظلت واقفة قليلاً,

    تحدق بالشخص الذي أمامها, و من ثم ارتمت في أحضانه و هي تبكي, عندها شعرت بالاستغراب, و الفضول, فمن هذا الذي تبكي بأحضانه كلوديا؟!...


    اقتربت منهم قليلاً, لترتسم علامات الصعقة على ملامحي, من رؤية آخر شخص كنت أتوقعه, بينما أخذت أردد داخل قلبي,

    " مستحيل...لا....لا يمكن....إنه....إنه....إنه...كـ.."


    -كريستوفر...حمداً لله أنك أتيت...لقد مات الجميع, لقد قتلهم أبي



    أجل لقد كان كريس...ــتوفر, هو الشخص الذي أتى من الخارج, ليصدمني و يوقعني بالحيرة,


    " ك..كيف؟!, لا هذا غير معقول...هل كان كريس يعرف هذه الفتاة؟!..."


    أخذ كريس يمسح دموعها بحنان, بينما ربت عليها و هو يقول:


    -اهدئي كلوديا, و لا تجزعي..فأنا معكِ


    كان لساني معقوداً مما يحدث أمام عيني, فهل أنا بالواقع أم بإحدى القصص الخيالية؟!..


    استدرت بعدها للخلف, عندما رأيتهم يصوبون أنظارهم بتجاه السلم, بينما اتسعت أعينهم كعيني, من المفاجأة, فلقد كان القاتل ينزل من عليه,

    و هو يجذب جثتي لورين و زوجته بيد, و بالأخرى يجر فأسه, فتلطخ الدرج بدماءهما, عندها سمعت صراخ كلوديا و هي تقول بعد أن أفاقت من الصدمة:


    -أمي...لورين..لااااا...كفى أرجوووك..كفى..هذا يكفي...لماذا قتلتهم؟!



    التفت لها, لأجدها في حالة انهيار تام, و قد أخذت تبكي بحرقة, بينما أمسكت بيد كريس, و ضغطت عليها, فشعرت بالغيرة منها,


    " كيف تجرؤ هذه الفتاة على أن تمسك يد كريس بهذا الشكل؟!",


    لتقطع علي أفكاري, و غيرتي, بقولها الذي لمست فيه الندم و الحزن:


    -لقد كانت لورين على حق...إن الأشباح تنتقم...لأن...


    عندها قاطعها كريس, قائلاً بجدية:


    -كلوديا اهربي أنتِ, و أنا سأبقى لأشغله عنكِ


    اتسعت عينا كلوديا, " أشعر بأنني رأيت هذا المشهد من قبل!!", بينما صاحت به في احتجاج على ما قال:


    -لا...لا يا كريستوفر لن أهرب, و سوف أبقى معك...فكيف أهرب بعد أن...


    -لا يا كلوديا...لقد كنت أعدكِ دائماً بأنني سأحميكِ, مهما كانت المخاطر


    قالها كريس بحنان, بينما دمعت عينيه, فردت عليه كلوديا و قد شعرت بالغضب:


    -ما هذا الهراء؟!...أرجوك تعال لنهرب


    و من ثم استدارت لتدير مقبض الباب, مرة و اثنتين و ثلاث, و لكن الباب أبى أن يفتح معها, كما حدث معنا, عندها أخذت تضرب بيدها على الباب, و لكن لا فائدة, فالتفتت لكريس, و أمسكت بذراعه, لتجذبه, و هي تقول:


    -أرجوك تعال معي...لنجد مخرجاً آخر


    لم يتكلم كريس, بل وقف أمامها, مولياً ظهره للقاتل الذي هبط البهو للتو, بينما نظر في عينيها, كما فعل معي, و أشرقت ابتسامته على شفتيه, فتساءلت كلوديا بتشكك:



    -كريستوفر...ماذا تفعل؟!


    و لكنه لم يتكلم و يجيبها, بل ظل ينظر إليها و يبتسم, فقطبت حاجبيها و صاحت بانفعال:


    -أيها المجنون... هناكأمل في النجاة, هيا لنبتعد عن هنا و نهرب من النوافذ...و لكن لا تقف هكذاأرجوك



    و لكن لا فائدة لم يتحرك كريس, و ظل يبتسم, عندها انهالت على صدره بضربات, حتى يتزحزح و يتراجع عن قراره, بينما صرخت فيه و هي تبكي قائلة:


    -أرجووك تحرك...أرجوك هذا ليسوقت الأعمال البطولية و التضحية في سبيل إنقاذ الآخرين...أرجوووك افق وكلمني...سيقتلك هذا الشرير, تباً لك لماذا لا تجيب؟!



    عندها احتضنها و طوقها بذراعيه في حنان, حتى يحميها, فتسارعت أنفاسها, عندما سقطت دموع كريس على وجنتيها, عندها كان القاتل قد اقترب من كريس,

    و ضربه بالفأس من الخلف, بدون رحمة, فتأوه المسكين, عندها أخذت أبكي و أصرخ مع كلوديا التي ملأت المكان بصراخها, عندما تناثرت دماء كريس على وجهها...


    أخذت تتحسس الدماء على وجهها, بينما أزاح كريس الصمت قائلاً لها كلمات الوداع التي نطقها بصعوبة:


    -لقد وعدت بأن أحميكِ و ها أنا أفعل...أرجوكِ كلوديا لا تبكي...أرجوكِ اهربي و انجي بحياتكِ


    صمت قليلاً حتى يصر على أسنانه من الألم ثم أكمل في حنان:


    -أريدكِ أن تعيشي حياتكِ و ...


    قطع كريس كلامه, بصراخه المدوي, و تأوهاته, التي أرعبت و فزعت كلوديا, و خلعت قلبي معه, فأخذت أصرخ, و أنا أهز برأسي,

    لأنني لم أعد أريد أن أكمل, لا أريد أن أرى ما سيحدث؟!, و لكن القصر العنيد مصر على أن يريني ما لا أحب أن أراه..


    كان لايزال كريس ممسكاً بها, و لكنه قد شدد بذراعيه عليها, بينما كان القاتل يقطع به من الخلف, بفأسه, عندها صرخت كلوديا و هي تقول راجية:


    -لااا..لا يا كريستوفر...لاااا...أرجوك لا تتركني....أنا أحبك أرجوك


    -و أنا أحبكِ...أكثر من أي شيء بهذه الحياة يا ابنة عمي


    قالها بحرارة, و من ثم نطق كلمات الوداع, و لفظ أنفاسه الأخيرة, لقد انتهى كريستوفر, مات للأبد,

    بينما وقعت كلوديا باكية تنتحب ,فوق جثته, التي كانت تنبض بالحياة و المشاعر منذ قليل, عندها دنا القاتل منها, و سقط ظله و ظل فأسه, فوقها, و قبل أن تلتفت له,
    انقض عليها, بفأسه, ليردفها قتيلة, و تنتهي الأسرة التعيسة...



    تراجعت عدة خطوات للخلف, حتى اصطدمت بباب القصر, بينما تلاحقت أنفاسي, و تواثبت نبضات قلبي, هذا إذا كان عندي الآن, كنت أشعر بشعور الشخص المصفوع على وجهه للتو,


    " لقد ماتت كلوديا!!.."


    أغمضت عيني, عندما تدافعت الذكريات بذهني, كأمواج البحر التي تتلاحق حتى تصل إلى الشاطئ, بينما انزلقت حتى جلست على الأرض, بينما اسندت رأسي للباب, و أنا أقول في ذهول و حزن ممزوجاً بالألم:


    -يا إلهي...لقد تذكرت...لقد بات كل شيء واضحاً الآن...أنا هي كلوديا, لهذا أنا حبيسة هذا القصر منذ زمن


    أخذت أبكي و أضحك في آنٍ واحد, من حقيقتي, عندما عرفت لماذا لا أتذكر وجه أمي و أخي؟!, و فهمت لماذا تنتابني تلك المشاعر العجيبة و المؤلمة؟!, لماذا أشعر بالشفقة تجاه لورين؟!

    , و تلك القلادة, كانت لأمي, و كريستوفر هو ابن عمي و حبيبي الذي فقدته في ذلك الوقت,


    لقد عرفت الآن لماذا أنا هنا؟!, بل أنا لم أتحرك من هنا, و سأظل هنا للأبد, مع الذكريات المؤلمة...


    لقد كانت لورين تريد أن تذكرني بنفسي, التي نسيتها, أن تريني حقيقتي, أن أعرف أنني أنا كلوديا...


    فتحت عيني و أنا أحدق بالقصر الذي عاد الغبار يكسوه, و يكسو الثرايا المعلقة به, و العناكب تسرح بأرجائه, فتمتمت بحسرة قائلة:


    -كل ما قالته لورين كان حقيقة, و لم نصدقها....لقد كانت تحذرنا, و لم نستمع إليها, فحدث ما حدث و قتلنا أبي و دفننا جميعاً بالبهو, ثم انتحر هو, كل ذلك بسبب انتقام أشباح المقابر الثائرة و الغاضبة...



    عندها ترددت أصوات بأذني, أمكنني أن أعرف أنها لعائلتي المنكوبة...


    " العيب ليس به...بل بالقصر...لطالما كان القصر, منذ البداية"


    عندها صرخت قائلة باعتراض ,عندما تذكرت ما حدث:


    -بل هو السبب, لم يستمع إلى لورين, و هو من هدم المقابر لبناء هذا القصر...ليتك لم تفعل ذلك يا أبي


    نزلت دموعي التي غزت سطح عيني, على وجنتي, و من ثم أكملت في حنق:


    -لقد انتقموا منا و بشدة...و سيطروا عليك لتقتلنا...أنت السبب أجل أنت...فليتك استمعت للورين


    -أو ليتني استمعت أنا


    قلتها بحزن و عتاب لنفسي, عندها ظهرت لورين أمامي من العدم, فأخذت أنظر لها بحزن, و من ثم نهضت من على الأرض و جريت عليها, و احتضنتها, و أنا أقول باعتذارٍ لها:


    -سامحيني صغيرتي...أنا آسفة...حقاً آسفة...أرجوكِ سامحيني



    غرقنا أنا و لورين ببكاءٍ مرير, اختلطت به دموعنا, فسوف نظل هنا و للأبد معاً, محاطين بأشباح الماضي, و سيعيد القصر تلك الذكريات من جديد..


    " ليتني استمعت إليكِ لورين...بل ليتني لم أفتح ذلك الباب , و لكن.... هل ينفع الندم الآن؟!"



    تربع الصمت على عرشه, و توجه الظلام...



    ــــــــــــــــــــــــــــــ

  6. #6
    الصورة الرمزية MR.ROBOTAN
    MR.ROBOTAN غير متواجد حالياً عضو المتداول العربي
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    122

    افتراضي

    تسلم ايدك.


1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17