"حمار السهيلى".. قصة جديدة لـ"محمد فهيم"


تجمع شباب القرية حول دقة مزمار أبو حسانين وطبلة قنعر، وقاموا بإيقاد المشاعل حتى اختفت عتمة الليل، ورأى بعضنا بعضاً وكأننا فى عز الظهر، وحمل أحد الشباب إبريقا من الفخار به قدر كبير من الجاز، وراح يضع بوز الإبريق فى فمه يملؤه بالجاز ويبخه على المشاعل واحدة تلو الأخرى، فتزداد توهجا، بينما أنا أجرى خوفا من تطاير الشرر أو سقوط قطع من قماش المشاعل فوق ملابس العيد التى لبستها الليلة فى فرح أختى نادية، وردة قريتنا وقرة عين أبى وأمى وجدى.

ووسط تلك الفرحة التى لا أستطيع أن أخفيها عن أقرانى، يظهر ثلاثة من الشباب، هم زلط ورمضان وعربى، غنى أحدهم ورقص الآخران أحلى من رقص النساء، التى كنت أتلصص من ثقب باب دهليز البيت من حين إلى آخر وأراقب تمايلهن كأوراق الشجر فى هواء أمشير، وأرى البنات العذارى يصفقن ويغنين وحمرة الخجل تعلو وجوههن إذا قالت إحدى النساء لهن "عقبال عندك"، "يارب أشوفك لابسة الفستان الأبيض والطرحة".

وجدت يداً غليظة تسحبنى إلى الوراء فزعت قليلاً وتاهت منى سعادتى للحظات، نظرت خلفى فوجدت "الشيخ سيد" بركة القرية قال لى، "فين نايبى أنا صليت العشاء فى الجامع وعاوز آكل"، فهرولت نحو أمى وعدت سريعا بطبقين فى أحدهما أرز ومن تحته فت ومرق، وفى الآخر بطاطس مطبوخة وكفتة، وقطعتان ملبستان من لحم قاعود سودانى صغير اشتراه جدى وأطعمه ليوم الدخلة، وضعت الطبقين أمام الشيخ سيد وأدرت له ظهرى فجذبنى هذه المرة بعنف أكثر من المرة الأولى قائلا، "كل معى"، رفضت طلبه متعللاً بالفرح والرقص والمشاعل وتسربلت من بين يديه الغليظة القصيرة كى ألحق بالرقصة الأخيرة لزلط ورمضان.

وفجأة توقفت الموسيقى وسمعت الشباب يصيح ويجرى كالريح وسط الظلام، مع أضواء المشاعل التى بدأت تخفت قليلا، إنه موكب العريس ها هو حصانه الأبيض يظهر من بعيد، ودقات قدميه فى الأرض تعلو صياح الشباب، ويحمل فى رقبته أجراسه المتدلية تخرج ألحانا مع حركة قدميه الأمامية فتطرب لها آذان الجميع، وفوقه سرج جميل علمت أن العريس اشتراه من منيا القمح من شارع الحدادين.

علت موسيقى عفاتة أبو حسانين وطبلة قنعر من جديد، والتف الشباب حول عريس أختى وحصانه، واهتز الحصان ورقص على أنغام الموسيقى، وظهر من فوقه العريس "سلام" فارس مغوار يلوى عنقه كما يشاء، يمينا ويسارا، ويسير به متمايلا للأمام وللخلف، وتتطاير عباءته السمراء من فوق ظهر حصانه فتفوح منها رائحة المسك، فتنشرح صدور الحاضرين بهجة وسعادة، ويتدلى شاله الحريرى الأبيض من فوق عمامته، ويلوح لكل الحاضرين بيده اليسرى فيظهر خاتمه الفضى كضوء المشاعل، فيلمع فى العيون كبرق السماء وهو يشق عتمة الليل، قائلا للجميع، "عقبال عندكم عقبال أولادكم"، كلما سمع منهم "ألف مبروك ياعريس ربنا يتمم بخير".

علت زغاريد النساء فى الداخل، وفتح الباب الخشبى الثقيل لبيتنا، وخرجت منه صفوف النساء، وهن يحملن قفف ومشنات من الخوص، مغطاة بالبشاكير الملونة بها عشاء العريس، وفيها ألوان وأشكال من الحمام المحمر والفراخ البلدى والبط والأوز والسمان واللحم الجملى، وفى أخرى الكحك والبسكويت والغريبة والكسكاس والمخروطة والشعرية، التى ظلت تعدها أمى وجيراننا لمدة أسبوع كامل.

ووسط ذلك ظهرت ناقتنا "الحاجة"، كما يسميها جدى "السهيلى"، بعدما رافقته إلى بلاد الحجاز، وزارت معه الأماكن المقدسة، ودخلت مكة المكرمة والمدينة المنورة، وخرجت اليوم فى كامل زينتها، كما تعودت دائما فى زفة بنات عائلتنا والجيران إلى بيوتهن الجديدة، ولكنها هذه المرة ليست كغيرها من المرات، فمحملها ليس من الصوف كما كان نولكن أبى استبدله بالحرير الملون، ويمسك بحبلها الجديد المجدول من الكتان عمى "أسعد"، كبير العائلة بعد جدى، وأرى طيف خيال أختى نادية العروس بداخلها، وردة نادية كما هى دائما، انهمرت دموعى رغما عنى وهربت منى لحظات سعادتى وتذكرت أن نادية سوف تفارقنى لبيتها الجديد وهى التى كانت ابتسامتى وفرحتى وروحى وراحتى.

قام عمى بتسليم العريس سلام قياد الناقة، ووسط الزغاريد والموسيقى والأغانى ورقص الشباب وضوء المشاعل سار موكب العروسين نحو قرية سلام.

خفت ضوء المشاعل وسط الطريقين وبدا ضوء القمر أجمل ما رأيت، وأظهرت النجوم لنا فنونها فى السماء، حيث تظهر بعضها وتختفى الأخرى، وكلما شعرت بقرب واحدة منى وجدت أخرى تشدنى نحوها، حتى أفقد أثر نجمتى الأولى، وبدأت أشعر ببرودة الليل، رغم أننا فى شهر أكتوبر، وهنا لا أعلم لماذا تذكرت عندها عمى توفيق الغائب عن زفاف أختى، فهو على الجبهة يحارب اليهود على شط القناة، ولا نعلم من أخباره شيئا، ورغم أن جدى حدد الفرح مع يوم إجازته، ولكنه حتى الآن لم يحضر، رغم أنى أنتظره كى يحكى لى من أخبار الحرب وبطولاته هو وزملاؤه، ويعيد على مسامعى قصة استشهاد صاحبه الصعيدى فوق دبابته، وكيف نجا هو من الموت بعدما ذهب ليحضر الطعام من ميز العساكر، ليموت صاحبه شهيدا ويبقى هو ليكمل مشوار وطنه فى تحرير أرضه الضائعة.

انتهى الطريق الترابى بين قريتنا إلى قرية العريس، وجدى يتقدم الموكب بحمارته الكبيرة، وكأنه الخواجة صاحب الزمام يمر على الأنفار فى عز الظهر، وفجأة ظهر ما لم نكن نتوقعه، إنه الألفى وعصابته قاطع الطريق وصاحب جرائم السرقة والنهب لبيوت الفلاحين ومواشيهم، والقاتل المحترف هو وعصابته ولاد الليل، والمفسد فى الأرض الذى حرق القمح قبل حصاده، وقطع الذرة قبل أن يثمر، وهو من اشترى جدى بسببه بندقية "ميزر" ودائما ما كان يتناوب هو وأعمامى حراسة بيتنا ومحصول القطن والقمح حتى ينتهى من حصاده ويبيعه ويقبض الثمن.

رأى جدى علامات الغدر بين عينى الألفى، فأطلق صافرة كانت فى سيالته، كان يطلقها وقت الخطر، ففهم أبى وأعمامى وشباب القرية أن الخطر داهم، وانتفض سلام هو الآخر وبدت علامات الذعر والخوف على حاله، وتوقف الركب وتوقف عزف الموسيقى بعدما جرى قنعر الطبال والعفافتى أبو حسانين فى الزراعة، واختفت الزغاريد وبدأ صوت النواح يعلو، ونزل جدى من فوق حمارته وضربها حتى جرت وسط الزحام، وأناخ سلام الناقة وأحاطها شباب القرية من كل جانب، واستعدوا للدفاع عن شرف قريتهم حتى الموت.

أقبل الألفى نحو جدى، والتف أفراد عصابته حول الناقة وأختى نادية بداخلها، وقال له "ألف مبروك يا سهيلى، جينا نبارك للعروسة، وناخدها معانا علشان تستلم هديتها من "الخواجة" ويشملها برعايته وعطفه، ولأن عروستكم مش زى باقى العرايس فقرر استضافتها أول ليلة فرحها، ودا أقل واجب يعمله الخواجة مع السهيلى وحفيدته".

ووسط حالة من الوجوم والخوف انتابت الموجودين وسادت المكان، رد جدى بصوت واثق "مرحبا بالألفى وأهلا بهدية الخواجة والباشا الكبير".

صدم الجميع من كلام السهيلى، وعلا صياح النساء، وهاج شباب القرية، وردوا على جدى جميعا قائلين، "سنموت جميعا ولن يأخد الألفى الناقة وفيها ابنتنا، ولن نتركها إلا فى بيت زوجها سلام".

وعندما ذكر اسم العريس سلام نظر الجميع فلم يجدوه بينهم، يبدوا أنه هرب وترك زوجته لحما طريا بلا ثمن فى يد عصابة الباشا، وباع عرضه مقابل حياة رخيصة يحياها بين الناس ذليلا.

وعجبت كل العجب من كلام جدى، ذلك الرجل الذى رفض أن يهان طوال عمره هو وأبناؤه، كيف يسمح لهؤلاء أن يدنسوا شرفه؟ ويدوسوه فى الوحل، ويحل به العار وعائلته مدى الدهر، وعجبت من سلام ذلك الفارس الهمام الذى حلمت لنفسى أن أكون صورة منه يوما ما.

تقدم أفراد عصابة الألفى نحو الحاجة ومن فوقها نادية، واصطحبوها دون مقاومة بعدما سلمهما الجد وهرب سلام، واتجهوا نحو قصر الخواجة وسط حالة من الحزن والأسى واللوم لجدى، والسخط على سلام العريس الخائف الهارب، وارتد الجمع عائدا إلى قريتنا ووقفت وحدى أراقب الناقة وحولها حرس الألفى، حتى اختفى أثرها وسط الظلام، ولم تفلح أصدقائى من النجوم أن تظهرها لى مرة أخرى، فعدت مع العائدين دون أن أفهم وأعى، فالأمر جلل والخطب أصعب من أن يفسره عقلى الصغير.

دخل الألفى قصر الخواجة ممسكاً بحبل الناقة فى تشريفة من الخدم، والزهو والفخار يعلو جبينه، فأناخ الناقة وحمل نادية، وهو يغوص فى جسدها يتحسسه بأصابعه الغليظة القذرة، حتى وضعها أمام الخواجة، وقبل يده وقال له، "هدية الليلة ياباشا بين إيديك بالهنا والشفا".

نظر إليها الخواجة كذئب يتفحص فريسته، ولعبت به أحلامه الشيطانية، فحمل المسكينة هو الآخر وصعد بها درجات سلمه الرخامى متجها نحو الطابق العلوى، حيث حجرة النوم، والخدم من خلفه يتهامسون "ليلة الباشا زى الفل شكل العروسة دى حاجة تانية"، ورددوا جميعا عبارات النفاق والتملق قائلين، "ألف مبروك يا باشا عقبال الصباحية".

دخل الخواجة حجرته ووضع نادية على سريره، وبدأ فى مغازلتها بكلام قبيح لم تسمه فى حياتها قط، وراحت يده تتسرب نحو جسدها فانتفضت مذعورة بعيدا عنه، فقال لها ارفعى عن وجهك ذلك الحجاب حتى أرى بدر البدور وقمر السماء، وتحدثى معى، أريد أن أسمع صوتك، وسأعطيك من الذهب ما يكفيك، ومن المال ما يعوضك ليلة العمر مع سلام.

لم ترد نادية واكتفت بسماع ذلك الوغد اللعين، حتى يئس من ردها عليه، فكشف وجهها، وكانت الصاعقة التى نزلت عليه من فوق الناقة، إنها ليست نادية، إنه سلام الذى حمله الألفى إليه، وصعد هو به إلى حجرة نومه، وداعبه فى جسده، وأغراه بماله وذهبه، فتراجع الباشا للخلف، وهول الصدمة يكاد يلجمه.

نهض سلام مسرعاًَ وأمسك بالباشا الذى ذهب صوته من شدة الخوف، فقيده بطرحة نادية وكمم فمه، وخرج من شباك الحجرة إلى حديقة القصر، وعاد مسرعا نحو قرية السهيلى ليجد الناقة فى الطريق فركبها حتى وصل القرية، والجميع فى انتظاره يستقبلونه بالأغانى والموسيقى والزغاريد بعدما حمى زوجته من يد الغادرين، فأقبل على السهيلى يقبل يد ذلك العجوز الذى علمته التجارب وأحداث السنيين وحكاوى القدماء.

وهنا قال السهيلى، لقد توقعت ما حدث، وكان الحل عندى جاهزا فى صافرتى، ليبدأ سلام وأبنائى فى تنفيذ الخطة وإنزال نادية من هودجها، وصعود سلام قبل أن يعى الألفى ورجاله ما حدث، ويكمل هو الخطة ويدافع عن شرفه وشرف زوجته ممن حاول أن يدنسه، وتصحبه دعواتى بالنجاح.
وأطلقت حمارتى، "حمارة السهيلى"، كى تركبها نادية بعدما هربت وسط الحقول لتعود إلى القرية، حيث ينتظرها فى وسط الطريق ابنى توفيق بعدما عاد من الجبهة دون أن يعلم أحد ليصحب إلى بر الأمان.

وفى الصباح، حضرت القرية بأكملها كى تهنئ العروسين بالصباحية، وتهنئ السهيلى وسلام على نجاح خطتهما، ويتحاكى الجميع عن الخواجة الذى وجدوه فى حجرته مربوطا بملاءة سريره، ومعلقاًَ فى سقف قصره، فيفكه الخدم، ويستدعى الألفى ويقتله بيديه وتنتهى أسطورة الظلم والظالمين، ويحيا الفلاحون فى أمان وتسعد نادية بحبيبها سلام.