بدا المبني غريبا عن مباني المعابد والمساجد والكنائس الهندية.. مبني أبيض.. يع علي ربوة مرتفعة.. تصعد إليه بعدد هائل من الدرجات.. يبدو علي شكل زهرة لوتس بيضاء.. تتفتح أوراقها أو بتلاتها المغطاة بالرخام الأبيض ناحية تسع جهات.. بجانب كل منها بركة مقدسة يتبرك الزوار بمائها البارد.. وتحيط بها خضرة هائلة داكنة.
لم يكن من الصعب أن أعرف أنني أمام معبد البهائيين في نيودلهي الذي يسمونه"مشرق الأذكار".. ولكن.. ما لفت نظري أن زواره من تلاميذ المدارس وفتيات الجيش والسياح الأجانب بالطوابير الطويلة.. فما الذي يفعلونه هنا وهم ينتمون لديانات أخري؟.. علي أن ما أثار فضولي أكثر هو: كيف يصلي البهائيون في معابدهم؟!.. ما هي طقوس عبادتهم؟.. خاصة أن قضية الاعتراف النهائي بهم لا تزال منظورة أمام المحكمة الإدارية العليا في مصر.. ولا تزال تشغلنا وتحرضنا علي الجدل والاختلاف حولها ربما دون أن نعرف عنها وعن أصحابها سوي القشور المتشددة.

خلعت الحذاء.. حسب التعليمات.. وصعدت إلي المعبد متجاوزا الحدائق التي توصل إليه.. لكن.. قبل أن أصل إلي باب من أبواب الدخول التسعة راحت فتاة رشية شقراء ترتدي الساري الهندي تحذر الزوار من استخدام الكاميرات في الداخل.. وتنصحهم بأن يتصرفوا بهدوء.. ويصلوا حسب الديانة التي يعتنقونها.. فالله واحد.. يمكن أن نصل إليه بألف طري.

قاعة الصلاة فسيحة.. علي شكل دائرة قطرها 70 مترا.. بها عدد هائل من المقاعد العريضة.. تتسع لنحو 1300 شخص.. ليس بها رجال دين.. ليست بها لوحات.. أو يات.. أو نقوش.. أو صور.. أو تماثيل.. لا تفوح منها رائحة بخور أو عطور.. وبينما كنت أقرأ الفاتحة كان هناك من يتمتم في سره بكلمات غير مسموعة.. وكان هناك من يرسم علامة الصليب.. وكان هناك من يشبك أصابع يديه وينحني واضعاً رأسه بالقرب من ركبتيه.. ولم تمر سوي ثلاث دقائق حتي كنا جميعا خارج القاعة.

لم يبل الرجل المسئول عن الأحذية بقشيشاً.. كما هو الحال في أماكن العبادات الأخري.. بل لا توجد في المكان صنادي تبرعات أو نذور.. فمن ين يأتي البهائيون بأموالهم؟.. كيف مولوا ذلك المعبد الهائل الذي صممه المعماري الشهير فريبرز صهبا.. ويع علي أكثر من 34 فداناً وتكلف بناؤه عشرة مليين دولار منذ 25 سنة؟.. من ين يأتون بالأموال اللازمة لصيانته وللإنفاق عليه وعلي غيره من المعابد المنتشرة في دول أخري؟.

كانت الإجابة تنتظرني علي الناحية الأخري من المعبد.. حيث المبني الإداري الذي كان يف علي بابه شاب عراقي صغير يتكلم العربية.. عرفت أنه جاء إلي هنا منذ أسابيع قليلة.. وفي الداخل قاعة فسيحة.. حديثة.. مكيفة.. تضم فاترينات بها الكتب المقدسة للبهائيين.. وصورا تلخص تاريخهم.. وصور أخري لمعابدهم الأخري.. ومركزهم الرئيسي في حيفا.. بالتحديد فوق جبل الكرمل.. وملصقات يعبر كل منها عن ديانة من الديانات المختلفة.. وكأنهم يولون: إن الرب واحد.. والأصل واحد.

المسئول عن المكان رجل في الأربعينيات.. يحمل الملامح والجنسية الهندية.. يرتدي ملابس أوروبية.. هو شاتورجان جيوانافي.. قال:"إن البهائية لا تعترف برجال الدين.. وليست بها تنظيمات كهنوتية.. لا قديسون.. ولا أولياء.. لا طقوس.. ولا مراسم.. فالصلاة تؤدي علي انفراد.. وتميل أحكامها لتهذيب النفس أكثر منها عقاب البدن".."نعترف بكل ما سبقنا من أديان".."نؤمن بوحدة الكون ووحدة الخالق".. نصل إلي الناس عبر المشروعات الاجتماعية".."نؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة".."يؤمن بنا الناس بكامل إرادتهم.. لا إكراه في الدين.. لا نلجأ للعنف أبدا.. بل من حق أبنائنا أن ينشقوا عنا.. فالدين بالنسبة لنا لا نحصل عليه بالميراث وإنما بالعقل.. لا نصوت في الانتخابات لحزب بعينه وإنما نصوت للشخص الجيد والبرنامج المناسب مهما كان لون صاحبه.. ونحصل علي حاجتنا المالية من تبرعات البهائيين في مختلف أرجاء الدنيا وهم يربون الآن من الستة مليين".

لكن.. ما هو أصل الحكية؟.

جاءت فتاة تجاوزت العشرين قليلا.. جذابة.. تملك عينين نافذتين.. ممتلئة الجسم.. ترتدي ساريا هنديا من الكتان.. تتكلم العربية بلهجة فلسطينية.. رفضت أن تبوح لنا باسمها.. راحت تروي لنا حكية البهائية المشروحة بالصور الفوتوغرافية والرسوم التوضيحية علي جدران المكان بطرية جذابة ودرامية.

قالت الفتاة المجهولة:"نحن نعرف أن بعد كل فترة لابد من التجديد والاجتهاد حتي يتخلص الناس من الشوائب التي علقت بديانتهم وهو ما حدث للمسلمين الذين انحدرت أحوالهم وباتوا في فقر وقهر وأمية وجاهلية رغم أن دينهم السليم كان يجب أن يوصلهم إلي أرقي ما وصلت إليه الأمم الأخري".

بدأت البهائية دعوة التجديد في يران.. بشر بها"حضرة بهاء الله"مؤسسها في القرن الماضي.. كان عمره 21 سنة عندما كان أبوه وزيرا في البلاط الشاهنشاهي.. وكان متوقعا أن يرث ذلك المنصب.. لكنه رفض.. فقد كان هناك من يبشره بأنه قريبا سيكون"المهدي المنتظر".. كانت البشارة من"حضرة الباب".. وهو لقب لشخص يدعي السيد علي محمد كان ورعا.. يضع عمامة خضراء علي رأسه لانتسابه للسلالة المحمدية الشريفة.. وقد بدأ دعوته الإصلاحية عام 1844 في انتظار المعجزة البهائية فأقبل عليه المريدون والاتباع الذين تقبلوه بسرعة مذهلة.. وهو ما أشعر الإمبراطور بالقلق فبدأ يثير المتاعب له.. طارده.. وقبض عليه.. وسجنه ثلاث سنوات.. ثم.. قتله".

أتي الإمبراطور بمائة وخمسين جنديا أطلقوا عليه 750 رصاصة ليضمنوا أنه قتل.. وفيما بعد.. بعد ستين سنة.. انتقل جسده من مدينة ميرانا إلي مدينة حيفا.. لكن.. دعوته التي زادت بقتله بقيت في يران تحت اسم"البابيين".. وقد حاول بعضهم الانتقام من الإمبراطور.. لكن.. الإمبراطور الصق التهمة بحضرة"بهاء الله"وسجنه تحت الأرض في مكان بطهران يسمي"سياه جال"ومعناه"الحفرة السوداء".. ثم مع ضغوط اتباعه أخرجه من السجن وطرده من البلاد.. إن الرجل الذي كان قبل 8 سنوات مرشحا للوزارة أصبح طريدا".

إن"بهاء الله"لقب لصاحب الدعوة ميرزا حسين علي النوري الذي بدأها عام 1863 لينال بسببها الكثير.. وربما لوترك في سلام لما كانت هناك أسطورة تحرض الناس علي سماعها.. وربما اليمان بها.

عاش الرجل في بغداد 12 سنة وحوله اتباعه الذين تزيدوا.. وتبعوه من يران.. وهو ما ضاعف من انزعاج الإمبراطور الذي تدخل لدي السلطان العثماني كي ينقله إلي اسطنبول.. فترك بغداد إلي الإسكندرية ومنها ركب سفينة إلي تركيا.. وهناك مات ابنه الصغير ميرزا مهدي.. فانتقل إلي عكا ليعيش في قصر يسمي"بهجة"وبقي هناك حتي مات ودفن.. فأصبح مزارا ومكانا مقدسا للبهائيين بجانب مدفن"الباب"في حيفا.

مات"بهاء الله"في عام 1892 عن 88 سنة بعد ولية استمرت 36 سنة.. ومنذ ذلك الوقت وأتباعه يصفونه بصاحب"المظهر الإلهي".. وحضرة"ولي أمر الله".. و«منجز الخطة الإلهية».. و«حامل العصمة السماوية".

ويضفي البهائيون ما يشبه المعجزات عن الرجل.. فسره باتع.. لم ير كل من رفض دعواه من الملوك والحكام الذين حكموا في عصره خيرا.. فإمبراطور فرنسا نابليون الثالث فقد عرشه.. وشاه يران نصر الدين قتل أثناء تتويجه.. وإمبراطور النمسا فرنسيس جوزيف هزم في الحرب.. وقيصر المانيا ويليام الأول لحق به.

وترك الرجل وصية يأمر فيها بأن يتولي الخلافة من بعده ابنه عبد بهاء الذي استمر في مكانته 29 سنة.. ثم كانت وصيته بأن يتولي الخلافة ابن شقيته (وهو من نفس عائلة الباب والبهاء).. تخرج في الجامعة الأمريكية في بيروت.. ودرس في جامعة أكسفورد.. لكنه تركها ليتفرغ للدعوة.. ويسمي"شوقي أفندي".. أو الأرشد.. وتوفي عام 1957 بعد أن بقي خليفة للبهائيين 36 سنة.. لكنه.. لم يوص بأحد من بعده.. وترك الدعوة لـ"بيت العدل الأعظم".. وهو تنظيم إداري برز إلي الوجود في إبريل عام 1963.. يتكون من تسعة أشخاص.. يأتون بالانتخاب.. كل خمس سنوات.. علي ثلاث مراحل.. يشترك فيه الراشدون.. ومهمة هؤلاء التسعة تجديد الفتاوي.. وتلقي التبرعات.. ورعية شئون الدعوة.. والانفاق علي المعابد الستة المنتشرة في أوروبا (فرانكفورت) واستراليا (سيدني).. وافرييا (كامبالا ــ أوغندا) والوليات المتحدة الأمريكية (ويلمت بولية الينويز) وأمريكا اللاتينية (بنما).. أما في الهند فيحظون بالعدد الأكبر من اتباعهم (مليونين ومائتي ألف شخص) يملكون خمسة آلاف محفل في مختلف الأنحاء.

وهؤلاء يؤمنون بأن"بهاء الله"نبي من أنبياء الله.. أنزل عليه كتابا سماويا.. مقدسا باللغة العربية يسمونه"الكتاب الأقدس"يولون في مقدمته:"إننا بصدد كتاب سماوي ينبغي أن تقدم ياته المباركة علي نحو يوفر للقارئ تلاوة سهلة وإلهاما روحانيا".."وقد روج النص علي أمهات الألواح المباركة التي ترجع إلي عام 1890 وتحمل توقيع زين العابدين الملقب بزين المقربين.. أبرز وأقدر من اعتمد عليهم حضرة بهاء الله في كتابه الواحة ونسخها".

وفي المقدمة يضا: لقد أتي بالكتاب حضرة بهاء الله وأنزل فيه أحكام شريعته الغراء".. وذلك"لدور ديني مقدر ألا يل مداه عن ألف سنة كاملة".. وهو ما يعني أنه كتاب مؤقت ولو امتد به العمر عشرة قرون.. سيفقد صلاحيته بعد تلك الحقبة ليفتح بابا لكتاب مقدس آخر يأتي به نبي آخر.

وفي المقدمة كذلك:"ينفرد الكتاب الأقدس من بين نيف ومائة مجلد جمعت فيها آثار حضرة بهاء الله بأهمية فذة".. وقد جاء"مصدقا للأديان السماوية السابقة فثبت الحقائق الجوهرية الخالدة التي جاء بها جميع الرسل والأنبياء في الماضي ونادي بوحدانية الله وحث علي حب الخير وأمر بالمودة بين الناس وحض علي البر والتقوي واعتبر السمو الروحاني وحسن الأقوال والأعمال ــ علي وجه العموم ــ غية الحياة الدنيا ومأربها ونسخ ذاته أحكام الشرائع السابقة التي استنفدت أغراضها وأضحت عائقا يحول دون تحقي وحدة البشر وإعادة بناء المجتمع الإنساني وفقا لما يتضيه تغير الزمان وما تتطلبه احتياجات العصر".

وتضيف المقدمة:"لقد أنزل الكتاب الأقدس كاملا باللغة العربية ولا يفوت القارئ ما ينطوي عليه اختيار حضرة بهاء الله اللسان العربي ليكون لغة الصلاة التي أمر بها ولغة تنزيل أم الكتاب لشريعته ولغة أصول أحكامه التي أرسي بها قواعد نظم الحضارة العالمية المقبلة مع أن العربية لم تكن لغة قومه ورغم أن حضرته لم يتعلمها علي يد أحد.. وتشهد آثاره المباركة ــ وفي مقدمتها الكتاب الأقدس ذاته ــ علي مدي تمكنه منها وهيمنته عليها وضلاعته فيها.. ولم يكتف حضرته بتملك زمامها فحسب بل جاء أسلوبه فيها متميزا عن الجاري والمألوف بروحانية طابعه ولفظه السلس وبلاغته المقنعة دون أن يخلو من الإبداع والتجديد.. وقد فضل حضرته استعمال اللغة العربية في الكثرة الغالبة من آثاره واستحسنها بوجه خاص في الألواح التي يتضي عرض مطالبها الأساسية عمق المعني ودقة التعبير كما حبذ اختيارها كلغة عالمية يتحدث بها البشر جميعا".

لكن.. كل ذلك شيء بسيط جدا إذا ما قورن بنصوص الكتاب الأقدس وأحكامه.. وهو أمر يطول شرحه