النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1
    الصورة الرمزية سمسم
    سمسم غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    9,662

    14 أوتيل كريون قصة قصيرة بقلم د. بهاء عبد المجيد



    المصعد الذى استقلته "سحر" ضيق جداً، وشعرت بالاختناق وهى تغلق أبوابه، وما إن ضغطت على رقم الطابق الذى تريده حتى قفز قلبها من بين ضلوعها.. أراحت رأسها قليلاً على أحد جدران المصعد الخشبى فرأت صورتها على – المرآة الكبيرة المواجهة لها.. وجهاً مرهقاً وبشرة شاحبة قليلاً وعينين عميقتين، وشعراً ناعماً ينسدل على جبينها، لملمت شعرها بصعوبة وعقصته على قمة رأسها بإحدى البنس، عندما وصلت للطابق المنشود فتحت الباب وخرجت، كان لفندق "كريون " الصغير بمحطة الرمل بابان واحتارت أيهما تدخل!.

    قادها عامل الفندق الشاب إلى بعض الحجرات واختارت الحجرة الأولى رقم 306 والتى تطل على البحر والقلعة المضيئة البعيدة، أرادت أن تلقى بجسدها على الفراش وتريح قدميها المتعبتين من التجول فى محطة الرمل، طوال اليوم تدور وتلف فى المكان نفسه، تبحث عن شيء لا تعرف ما هو، وكأنها تريد أن تبقى فى الشارع وسط الحياة البشر وتجلس فى المقاهى العديدة التى تزدحم بالناس.

    ُِطلقت "سحر" منذ سنة تقريباً، كانت تحب زوجها كثيراً. وأرادت أن تسعده. بعد الزواج أصبحت لا تفهمه, كان هناك شىء غامض فى علاقتهما, فلم يكن يسلم لها نفسه كاملاً. كانت تشعر بذلك فى أحضانه..فى تلاقى شفتيهما، كأن روحه ليست فيه، أو كأنه يعشق امرأة أخرى، ولكن حضنه كان الدفء بالنسبة لها ويرضيها منه أى شيء. كان "ضياء" أول رجل فى حياتها ولم تكن لها خبرة كافية بأحوال الرجال وطباع الحياة، عاشت سحر مع جدتها بعد أن تزوجت والدتها من رجل غير أبيها الذى ذهب مع فتاة مغربية بعد أن وعدته بوظيفة مريحة وحياة مستقرة فى مدينة "بروكسل" حيث سيعمل مترجمًا لمجلة تصدر بالعبرية عن السياسة فى الشرق الأوسط فترك وظيفته كمذيع فى البرامج الموجهة للإذاعة المصرية ورحل معها دون أن يترك كلمة وداع لسحر. ولكن منذ هذه اللحظة أرادت أن تثبت للعالم أن بنات الأسر المفككة يمكنهن خلق بيت طبيعى، لذلك عندما تقدم ضياء طالباً يدها وافقت بدون تردد، برغم اختلافهما، فهى دارسة للأدب وهو دارس للعلوم.

    حاولت أن تجد أشياء مشتركة غير لحظات الفراش التى تجمعهما ففشلت. كاد يشعرها أن الزواج بدون حب مثل علاقات العهر التى يجب أن تحدث وبعدها ينقطع الاتصال ولا يبقى غير الاشمئزاز. ولتغير أحواله شجعته أن يطلقها ويحرر نفسه منها لأنه أصبح تعيساً، وغير قادر على حب الحياة.. فى الأيام الأولى لعلاقتهما كان بشوشاً يتحدث كثيراً عن الروايات والمسرح والأفلام والأغانى التى يحفظ الكثير منها.

    فى بداية زواجهما أتيا إلى هذا الفندق، كانا يريدان أن يبقيا أسبوعاً كاملاً ولكن فى اليوم الثالث أخذ يحملق فى القمر كثيراً والموج الهائج الذى يأتى من بعيد، رأته يقترب كثيراً من سور النافذة، كاد يسقط لولا أنها أمسكت به فى اللحظة الأخيرة.. ارتجف كثيراً هذه الليلة، لم تفلح أحضانها وهدهدتها له فى عودته إلى طبيعته.
    حزم حقيبته وأمرها أن تعود إلى القاهرة وحدها ويلحق بها بعد ذلك.
    * * *
    رائحة الفندق الصغير ذكرتها به، لاحظ العامل وقوفها وحملقتها فى هذه الحجرة، وبعد تردد قال لها:
    - حضرتك عايزة الحجرة دى ولا تشوفى غيرها؟
    نظرت إليه لأول مرة.. متوسط الطول, وجهه خمرى تتناثر على جانبيه بعض البثور، ليس له شارب, واسع العينين وله أنف يتناسب مع ملامح وجهه الريفي، يرتدى زى الفندق.. بدلة لونها أخضر.. اللون الذى ترتاح له كثيراً.

    فجأة خبطت الرياح بالنوافذ المغلقة فانتفضت من مكانها، ورأت السماء من بعيد يتوسطها القمر الذى يحاول أن يظهر من بين السحب المنتشرة هناك، سألته عن ثمن الإقامة فى هذه الحجرة، ثم فتحت حقيبتها.. أخذت تبحث بعصبية بين أصابع الروج والمرآة الصغيرة ومناديل الورق، وأجندة التليفون وبين صفحات الكراسة التى تكتب فيها بعض أفكارها عن القصص القصيرة أو الرواية التى تنوى أن تكتبها يوماً ما.. فرحت ببعض النقود المتبقية من رحلتها طوال النهار فى مدينة الإسكندرية.

    قالت:آسفه، لازم أمشى علشان صحبتى مستنيانى تحت، بس حنرجع ناخد الحجرة.. لم تدر لماذا كذبت عليه، نعم معها النقود , ولكن لم تكن تكفى لإيجار هذه الحجرة بالذات.

    كاد يقول لها لا ترحلي، لولا خجله، ثم سبقها تجاه كونتر الاستقبال، كانت الساعة التى تعلو لوحة المفاتيح والمجاورة لصورة السيدة العذراء وهى تحمل المسيح رضيعاً، تجاوزت الثانية صباحاً.. فأين تذهب الآن ؟
    ليس لها أحد فى هذه المدينة الواسعة، لم تعرف لماذا جاءت إلى هنا ؟ فقط وجدت نفسها وسط محطة قطار رمسيس بعد أن مشت من المدرسة التى تعمل بها فى الظاهر، تخبطتها الأجساد فدخلت أحد القطارات وقبل أن تنزل انطلق القطار مسرعاً، فى شوارع الإسكندرية أخذت تتجول كالتائهة.. شارع النبى دانيال والمعبد اليهودي، المنشية والمحكمة الكبيرة بأبوابها الشاهقة، مقهى البن البرازيلى ورائحة الكابتشينو، ودعوة أحد اليونانيين لها لتناول فنجان من القهوة وحديثه عن المدينة قديماً، وكادت أن تذهب معه لمنزله لولا خوفها من المواجهة،الرجال بسياراتهم البطيئة بمحطة الرمل وإغوائهم لها بالركوب، جلوسها على الكورنيش وبكاؤها، وسؤالها الأزلى لماذا تركها وحدها ورحل ؟ لقد رفض حتى أن يتحدث إليها أو يهاتفها.. تنازل عن كل شيء وغادر.. يتهرب من كل مكان تكون فيه وزهد فى كل ما فى الوجود. هل هناك امرأة أخرى فى حياته، ربما كان له حب قديم؟
    هى لا تريد أن تفشل أو تعيش الحياة التعيسة نفسها التى عاشتها والدتها ولن تسأل أحداًِ المساعدة.
    * * *
    أقنعها الشاب -الذى لمحت صليبا صغيرا على إبهامه- بأنه يمكنها أن تمكث الليلة وما تدفعه سيقبله، وخاصة أن هناك حجرة صغيرة، ربما لا تناسبها، ولكنها أفضل من أن تذهب فى هذه الساعة المتأخرة.

    تذكرت الرجل الأسمر النوبى الذى تحرش بها فى مدخل إحدى العمارات عندما سألته عن فندق رخيص تقضى فيه ليلتها، وكاد أن يغتصبها فى حجرته الصغيرة، وكادت أن تستسلم لولا سماعه لنداء أحد السكان يطلب منه شراء بعض الطلبات.

    الخوف من سيارات الشرطة ورجالها فى الشارع كما هو سائد فى دولة يحكمها قانون الطوارىء منذ زمن ويتجه المجتمع نحو الانغلاق ربما يقبضون عليها بتهمة التسكع ليلاً.. لن يصدق أحد أنها تريد أن تمشى وحيدة بجوار شاطئ البحر، تفكر فى مصيرها.. كانت تسحرها السفن البعيدة، هل لو سافرت ستجد الحرية؟ ستجد الحب ؟ تشعر أنها ستجن.. فى النهار فكرت أن تذهب إلى الميناء، ادعت أنها صحفية، فأدخلها رجل الأمن ثم نادى على ضابط التصريحات لكى تحصل منه على تصريح بدخول رصيف الميناء.. كانت تريد أن تتخفى فى زى البحارة وتسافر، إلى أى دولة بعيدة عن هنا، فى هذه اللحظة اختلط إحساسها بالرغبة فى الخلاص، بالعبودية لهذا الضابط الذى يعطى لها التصريح، واختلط أيضاً بالخوف لانكشاف كذبتها بأنها ليست صحفية فهرولت بعيدا وكاد يصدمها الترام الذى يشق الشارع الضيق.فى المساء عند بئر مسعود رأت القمر هلالاً وكاد يلامس سطح البحر وأضاء أمواجه بنهر طويل من الفضة السائلة التى تلمع مع تحرك الموج الرقيق مشت بحرص على الصخور المتعرجة، وكادت تسقط فى مياه البحر بسبب شدة الموج الذى أغرقها بشلال من المياه عندما اصطدم بصخور شاطىء ميامى، فرحت بالمياه الهاربة وبللت شعرها ووجهها وملابسها، كانت المياه ناصعة البياض وتناقضت مع دكنة المياه أسفل الصخور، كان هناك بعض الشباب يغنون ويهللون وبعض العشاق يهمسون بكلمات من الحب،استمتعت بأغانيهم وبكلمات النجوى، ذهبت إلى بئر مسعود وسمعت صدى صوت المياه المندفعة بداخله وتسألت هل سقط سيدنا يوسف فى هذا البئر يوماً ما، أخرجت عملة معدنية من حقيبتها وتمنت أمنية ثم ألقتها فى البئر، نظرت مرة ثانية فى أعماقه وخافت وتركت المكان، فى السماء كان القمر قد تبدل لونه إلى اللون الأحمر، فقالت هل هذه الشمس أم القمر.
    * * *
    الحجرة التى قادها إليها كانت فى نهاية ممر ملتو وتشبه الزنزانة، بها فراش صغير يكفى لشخص فقط، وكومودينو وشماعة بذراعين فقط.. رائحة العرق والهواء غير المتجدد جعلتها تنقبض وتذكرت بيتها الواسع ورائحة فراشه العطرة حيث كانت تحرص والدتها على أن تغسل الملاءات وتعطر الجو دائماً وتعرض البساط للشمس على فترات منتظمة.

    - "فين البحر ؟" سالت سحر بتوتر.
    - " هنا هدوء أكثر ومحدش هيحس بيكى. وحاصحيكى بدرى قبل ما يستلم منى صاحب الفندق الفلوس، ممكن تدفعى أى فلوس معاكى، مش حأعترض". أجاب عامل الفندق بصوتاً يشبه الهمس والغواية.
    ما إن دخل الحجرة حتى شعرت بذكورته الطاغية عليها، وتحول تخوفها منه إلى رقة متناهية وهو كذلك بدا أكثر تفاهماً وطيبة.

    لاحظت تفاصيل جسده جيداً ورأت توتره واضحاً وقالت لنفسها "لا أزال جذابة للرجال" سألته هل هو من الإسكندرية أم من القاهرة فأجابها: إنه من " تونة الجبل" بمحافظة المنيا، وأنه تركها بعد أن حصل على دبلوم التجارة وأتى إلى الإسكندرية لأنه لا توجد فرص عمل فى مدينتة، وأن جمعية الشبان المسيحيين هى التى وفرت له هذا العمل حيث تربى فيها منذ طفولته بعد موت والديه بعد أن غرق بهما القارب وهما فى رحلة نيلية لزيارة أحد الأديرة البعيدة.

    قال وهو يقترب منها أكثر، وهى جالسة على الفراش وتنظر تجاهه ومن ورائه مصباح يخلق هالة من النور حول رأسه.

    -"أكيد انتى جعانة؟"
    - "تقريباً" قالتها وهى تبلع ريقها الجاف.
    - "حاجيبلك حاجة تاكليها".
    قالت لنفسها "كم هم طيبون هؤلاء الريفيون فهم يعرفون حق المرأة تماماً وخاصة فى لحظة الحاجة إليهم".
    عندما غادر تضخم لديها إحساسها بالوحدة والغربة، والنهاية، لكنها طمعت فى تجربة تثبت بها أنها لا تزال حية، وأنها لم تفقد حواسها بعد.

    جاء يحمل سلة صغيرة بها كايزر، ومربى وزبدة وعسل النحل.. شكرته ثم قالت: الجو حار وخانق ولا أستطيع أن أنام فى هذه الحجرة، فهى ليست جيدة التهوية ورائحتها غريبة.. ووضعت السلة على الكومودينو، وحملت حقيبتها وكادت تنصرف لولا أنه حجزها عن الخروج باقترابه من جسدها لحد الالتصاق، فشعرت به ثم ابتعدت عنه، وقالت بانكسار وتوتر أرجوك: "مش هاقدر اقعد هنا".
    قال وهو يبتسم وبنبرة إقناعية: "الحر مقدور عليه، عندى مروحة بتاعت صاحب الفندق، حاسيبهالك لمدة ساعة بس لغاية ما تنامي، ثم أتسحب لحجرتك واخذها وأرجوكى متقفليش الباب علشان مأزعجكيش".

    عندما قال هذه الكلمات شعرت بالرهبة ودبت سخونة غريبة فى أطرافها وجبهتها خافت من الطعام وفقدت شهيتها، خلعت صندلها ومددت جسدها على الفراش، وأطفأت المصابيح واختلطت صورة البحر بمياهه الزرقاء بظلام الحجرة الدامس، ورأت الأمواج على السقف بيضاء , وتكاد تغرقها. تكورت فى رقدتها ووضعت يديها بين فخديها، ثم تقلبت.. تحسست جبهتها فشعرت أنها محمومة، وتوقعت كل حركة خارج الحجرة، وقع أقدامه وإيقاع أنفاسه وتخيلته يدخل عليها الحجرة... تتشابك أصابعهما وتتلامس ألسنتهما، وتدخل هى فى طوابق النشوى والنسيان.

    باتت الحجرة مثل القبر الموحش، وخافت أن تموت فى هذه الحجرة الصغيرة، ولن يدرى بموتها أحد لا عائلتها،و ولا أصدقاؤها، ولن تنتظرها غير الفضيحة.

    قلقت، فخرجت من الحجرة، بحثت عنه فى قاعة البنسيون الصغيرة، وجدته نائماً كالطفل على أريكة تأخذ جانباً من الصالة.. كان ينام مثل القديسين. عادت إلى حجرتها أخذت المروحة ثم عادت مرة ثانية إلى العامل، وجلست بجانبه، ولمست يديه، وطبعت قبلة رقيقة على شفتيه.. نهضت ودخلت الحمام، اغتسلت، رائحة الصابون ولون المياه أعطاها إحساساً بالخلاص والطهر.. دخلت حجرتها، أخذت حقيبتها، وضعت العسل والمربى والزبدة فى منديل من الورق، وضعتهم فى حقيبتها، وقالت:"حأكلهم لما أجوع"، وقضمت قطعة من الخبز وتركت الباقى على الكوميدينو.. تسللت ببطء , بجوار العامل وضعت بعض النقود فوق صدره. نظرت إلى الحجرة المطلة على البحر، فأنعشها الهواء الهارب من البحر الواسع، دخلت ونظرت نظرة أخيرة، قالت: ماذا لو ألقيت بنفسى من هذه الشرفة تساءلت ولم تفعل.

    خرجت من البنسيون، وركبت المصعد الذى هبط بها سريعا. نظرت على مرآة المصعد مرة ثانية قالت يجب أن أخفض وزنى قليلاً، وأقص شعري، وسأصبغه بلون الذهب، وسأرتدى ملابس ضيقة، ثم ابتسمت وقالت ما أكثر الرجال فى العالم ! وسأجد الرجل المناسب لى يوماً ما، وابتسمت ابتسامة التفاؤل وتذكرت الرضيع فى الصورة التى تعلو كونتر الاستقبال، خرجت تملؤها القوة برغم سهرها طوال الليل.

    كان النهار قد بدأ فى البزوغ فعبرت الطريق تجاه البحر، وسارت على الكورنيش وأخذت تبعد وتبعد حتى غابت عن الشمس والبحر.

    المصعد الذى استقلته "سحر" ضيق جداً، وشعرت بالاختناق وهى تغلق أبوابه، وما إن ضغطت على رقم الطابق الذى تريده حتى قفز قلبها من بين ضلوعها.. أراحت رأسها قليلاً على أحد جدران المصعد الخشبى فرأت صورتها على – المرآة الكبيرة المواجهة لها.. وجهاً مرهقاً وبشرة شاحبة قليلاً وعينين عميقتين، وشعراً ناعماً ينسدل على جبينها، لملمت شعرها بصعوبة وعقصته على قمة رأسها بإحدى البنس، عندما وصلت للطابق المنشود فتحت الباب وخرجت، كان لفندق "كريون " الصغير بمحطة الرمل بابان واحتارت أيهما تدخل!.

    قادها عامل الفندق الشاب إلى بعض الحجرات واختارت الحجرة الأولى رقم 306 والتى تطل على البحر والقلعة المضيئة البعيدة، أرادت أن تلقى بجسدها على الفراش وتريح قدميها المتعبتين من التجول فى محطة الرمل، طوال اليوم تدور وتلف فى المكان نفسه، تبحث عن شيء لا تعرف ما هو، وكأنها تريد أن تبقى فى الشارع وسط الحياة البشر وتجلس فى المقاهى العديدة التى تزدحم بالناس.

    ُِطلقت "سحر" منذ سنة تقريباً، كانت تحب زوجها كثيراً. وأرادت أن تسعده. بعد الزواج أصبحت لا تفهمه, كان هناك شيء غامض فى علاقتهما, فلم يكن يسلم لها نفسه كاملاً. كانت تشعر بذلك فى أحضانه..فى تلاقى شفتيهما، كأن روحه ليست فيه، أو كأنه يعشق امرأة أخرى، ولكن حضنه كان الدفء بالنسبة لها ويرضيها منه أى شيء. كان "ضياء" أول رجل فى حياتها ولم تكن لها خبرة كافية بأحوال الرجال وطباع الحياة، عاشت سحر مع جدتها بعد أن تزوجت والدتها من رجل غير أبيها الذى ذهب مع فتاة مغربية بعد أن وعدته بوظيفة مريحة وحياة مستقرة فى مدينة "بروكسل" حيث سيعمل مترجمًا لمجلة تصدر بالعبرية عن السياسة فى الشرق الأوسط فترك وظيفته كمذيع فى البرامج الموجهة للإذاعة المصرية ورحل معها دون أن يترك كلمة وداع لسحر. ولكن منذ هذه اللحظة أرادت أن تثبت للعالم أن بنات الأسر المفككة يمكنهن خلق بيت طبيعى، لذلك عندما تقدم ضياء طالباً يدها وافقت بدون تردد، برغم اختلافهما، فهى دارسة للأدب وهو دارس للعلوم.حاولت أن تجد أشياء مشتركة غير لحظات الفراش التى تجمعهما ففشلت. كاد يشعرها أن الزواج بدون حب مثل علاقات العهر التى يجب أن تحدث وبعدها ينقطع الاتصال ولا يبقى غير الاشمئزاز. ولتغير أحواله شجعته أن يطلقها ويحرر نفسه منها لأنه أصبح تعيساً، وغير قادر على حب الحياة.. فى الأيام الأولى لعلاقتهما كان بشوشاً يتحدث كثيراً عن الروايات والمسرح والأفلام والأغانى التى يحفظ الكثير منها.

    فى بداية زواجهما أتيا إلى هذا الفندق، كانا يريدان أن يبقيا أسبوعاً كاملاً ولكن فى اليوم الثالث أخذ يحملق فى القمر كثيراً والموج الهائج الذى يأتى من بعيد، رأته يقترب كثيراً من سور النافذة، كاد يسقط لولا أنها أمسكت به فى اللحظة الأخيرة.. ارتجف كثيراً هذه الليلة، لم تفلح أحضانها وهدهدتها له فى عودته إلى طبيعته.
    حزم حقيبته وأمرها أن تعود إلى القاهرة وحدها ويلحق بها بعد ذلك.
    * * *
    رائحة الفندق الصغير ذكرتها به، لاحظ العامل وقوفها وحملقتها فى هذه الحجرة، وبعد تردد قال لها:
    - حضرتك عايزة الحجرة دى ولا تشوفى غيرها؟
    نظرت إليه لأول مرة.. متوسط الطول, وجهه خمرى تتناثر على جانبيه بعض البثور، ليس له شارب, واسع العينين وله أنف يتناسب مع ملامح وجهه الريفي، يرتدى زى الفندق.. بدلة لونها أخضر.. اللون الذى ترتاح له كثيراً.
    فجأة خبطت الرياح بالنوافذ المغلقة فانتفضت من مكانها، ورأت السماء من بعيد يتوسطها القمر الذى يحاول أن يظهر من بين السحب المنتشرة هناك، سألته عن ثمن الإقامة فى هذه الحجرة، ثم فتحت حقيبتها.. أخذت تبحث بعصبية بين أصابع الروج والمرآة الصغيرة ومناديل الورق، وأجندة التليفون وبين صفحات الكراسة التى تكتب فيها بعض أفكارها عن القصص القصيرة أو الرواية التى تنوى أن تكتبها يوماً ما.. فرحت ببعض النقود المتبقية من رحلتها طوال النهار فى مدينة الإسكندرية.

    قالت:آسفه، لازم أمشى علشان صحبتى مستنيانى تحت، بس حنرجع ناخد الحجرة.. لم تدر لماذا كذبت عليه، نعم معها النقود , ولكن لم تكن تكفى لإيجار هذه الحجرة بالذات.

    كاد يقول لها لا ترحلي، لولا خجله، ثم سبقها تجاه كونتر الاستقبال، كانت الساعة التى تعلو لوحة المفاتيح والمجاورة لصورة السيدة العذراء وهى تحمل المسيح رضيعاً، تجاوزت الثانية صباحاً.. فأين تذهب الآن ؟
    ليس لها أحد فى هذه المدينة الواسعة، لم تعرف لماذا جاءت إلى هنا ؟ فقط وجدت نفسها وسط محطة قطار رمسيس بعد أن مشت من المدرسة التى تعمل بها فى الظاهر، تخبطتها الأجساد فدخلت أحد القطارات وقبل أن تنزل انطلق القطار مسرعاً، فى شوارع الإسكندرية أخذت تتجول كالتائهة.. شارع النبى دانيال والمعبد اليهودي، المنشية والمحكمة الكبيرة بأبوابها الشاهقة، مقهى البن البرازيلى ورائحة الكابتشينو، ودعوة أحد اليونانيين لها لتناول فنجان من القهوة وحديثه عن المدينة قديماً، وكادت أن تذهب معه لمنزله لولا خوفها من المواجهة،الرجال بسياراتهم البطيئة بمحطة الرمل وإغوائهم لها بالركوب، جلوسها على الكورنيش وبكاؤها، وسؤالها الأزلى لماذا تركها وحدها ورحل ؟ لقد رفض حتى أن يتحدث إليها أو يهاتفها.. تنازل عن كل شيء وغادر.. يتهرب من كل مكان تكون فيه وزهد فى كل ما فى الوجود. هل هناك امرأة أخرى فى حياته، ربما كان له حب قديم؟
    هى لا تريد أن تفشل أو تعيش الحياة التعيسة نفسها التى عاشتها والدتها ولن تسأل أحداًِ المساعدة.
    * * *
    أقنعها الشاب -الذى لمحت صليبا صغيرا على إبهامه- بأنه يمكنها أن تمكث الليلة وما تدفعه سيقبله، وخاصة أن هناك حجرة صغيرة، ربما لا تناسبها، ولكنها أفضل من أن تذهب فى هذه الساعة المتأخرة.
    تذكرت الرجل الأسمر النوبى الذى تحرش بها فى مدخل إحدى العمارات عندما سألته عن فندق رخيص تقضى فيه ليلتها، وكاد أن يغتصبها فى حجرته الصغيرة، وكادت أن تستسلم لولا سماعه لنداء أحد السكان يطلب منه شراء بعض الطلبات.
    الخوف من سيارات الشرطة ورجالها فى الشارع كما هو سائد فى دولة يحكمها قانون الطوارئ منذ زمن ويتجه المجتمع نحو الانغلاق ربما يقبضون عليها بتهمة التسكع ليلاً.. لن يصدق أحد أنها تريد أن تمشى وحيدة بجوار شاطئ البحر، تفكر فى مصيرها.. كانت تسحرها السفن البعيدة، هل لو سافرت ستجد الحرية؟ ستجد الحب ؟ تشعر أنها ستجن.. فى النهار فكرت أن تذهب إلى الميناء، ادعت أنها صحفية، فأدخلها رجل الأمن ثم نادى على ضابط التصريحات لكى تحصل منه على تصريح بدخول رصيف الميناء.. كانت تريد أن تتخفى فى زى البحارة وتسافر، إلى أى دولة بعيدة عن هنا، فى هذه اللحظة اختلط إحساسها بالرغبة فى الخلاص، بالعبودية لهذا الضابط الذى يعطى لها التصريح، واختلط أيضاً بالخوف لانكشاف كذبتها بأنها ليست صحفية فهرولت بعيدا وكاد يصدمها الترام الذى يشق الشارع الضيق.فى المساء عند بئر مسعود رأت القمر هلالاً وكاد يلامس سطح البحر وأضاء أمواجه بنهر طويل من الفضة السائلة التى تلمع مع تحرك الموج الرقيق مشت بحرص على الصخور المتعرجة، وكادت تسقط فى مياه البحر بسبب شدة الموج الذى أغرقها بشلال من المياه عندما اصطدم بصخور شاطىء ميامى، فرحت بالمياه الهاربة وبللت شعرها ووجهها وملابسها، كانت المياه ناصعة البياض وتناقضت مع دكنة المياه أسفل الصخور، كان هناك بعض الشباب يغنون ويهللون وبعض العشاق يهمسون بكلمات من الحب،استمتعت بأغانيهم وبكلمات النجوى، ذهبت إلى بئر مسعود وسمعت صدى صوت المياه المندفعة بداخله وتسألت هل سقط سيدنا يوسف فى هذا البئر يوماً ما، أخرجت عملة معدنية من حقيبتها وتمنت أمنية ثم ألقتها فى البئر، نظرت مرة ثانية فى أعماقه وخافت وتركت المكان، فى السماء كان القمر قد تبدل لونه إلى اللون الأحمر، فقالت هل هذه الشمس أم القمر.
    * * *
    الحجرة التى قادها إليها كانت فى نهاية ممر ملتو وتشبه الزنزانة، بها فراش صغير يكفى لشخص فقط، وكومودينو وشماعة بذراعين فقط.. رائحة العرق والهواء غير المتجدد جعلتها تنقبض وتذكرت بيتها الواسع ورائحة فراشه العطرة حيث كانت تحرص والدتها على أن تغسل الملاءات وتعطر الجو دائماً وتعرض البساط للشمس على فترات منتظمة.
    - "فين البحر ؟" سالت سحر بتوتر.
    - " هنا هدوء أكثر ومحدش هيحس بيكى. وحاصحيكى بدرى قبل ما يستلم منى صاحب الفندق الفلوس، ممكن تدفعى أى فلوس معاكى، مش حأعترض". أجاب عامل الفندق بصوتاً يشبه الهمس والغواية.
    ما إن دخل الحجرة حتى شعرت بذكورته الطاغية عليها، وتحول تخوفها منه إلى رقة متناهية وهو كذلك بدا أكثر تفاهماً وطيبة.

    لاحظت تفاصيل جسده جيداً ورأت توتره واضحاً وقالت لنفسها "لا أزال جذابة للرجال" سألته هل هو من الإسكندرية أم من القاهرة فأجابها: إنه من " تونة الجبل" بمحافظة المنيا، وأنه تركها بعد أن حصل على دبلوم التجارة وأتى إلى الإسكندرية لأنه لا توجد فرص عمل فى مدينتة، وأن جمعية الشبان المسيحيين هى التى وفرت له هذا العمل حيث تربى فيها منذ طفولته بعد موت والديه بعد أن غرق بهما القارب وهما فى رحلة نيلية لزيارة أحد الأديرة البعيدة.

    قال وهو يقترب منها أكثر، وهى جالسة على الفراش وتنظر تجاهه ومن ورائه مصباح يخلق هالة من النور حول رأسه.

    -"أكيد انتى جعانة؟"
    - "تقريباً" قالتها وهى تبلع ريقها الجاف.
    - "حاجيبلك حاجة تاكليها".
    قالت لنفسها "كم هم طيبون هؤلاء الريفيون فهم يعرفون حق المرأة تماماً وخاصة فى لحظة الحاجة إليهم".
    عندما غادر تضخم لديها إحساسها بالوحدة والغربة، والنهاية، لكنها طمعت فى تجربة تثبت بها أنها لا تزال حية، وأنها لم تفقد حواسها بعد.

    جاء يحمل سلة صغيرة بها كايزر، ومربى وزبدة وعسل النحل.. شكرته ثم قالت: الجو حار وخانق ولا أستطيع أن أنام فى هذه الحجرة، فهى ليست جيدة التهوية ورائحتها غريبة.. ووضعت السلة على الكومودينو، وحملت حقيبتها وكادت تنصرف لولا أنه حجزها عن الخروج باقترابه من جسدها لحد الالتصاق، فشعرت به ثم ابتعدت عنه، وقالت بانكسار وتوتر أرجوك: "مش هاقدر اقعد هنا".

    قال وهو يبتسم وبنبرة إقناعية: "الحر مقدور عليه، عندى مروحة بتاعت صاحب الفندق، حاسيبهالك لمدة ساعة بس لغاية ما تنامي، ثم أتسحب لحجرتك واخذها وأرجوكى متقفليش الباب علشان مأزعجكيش".

    عندما قال هذه الكلمات شعرت بالرهبة ودبت سخونة غريبة فى أطرافها وجبهتها خافت من الطعام وفقدت شهيتها، خلعت صندلها ومددت جسدها على الفراش، وأطفأت المصابيح واختلطت صورة البحر بمياهه الزرقاء بظلام الحجرة الدامس، ورأت الأمواج على السقف بيضاء , وتكاد تغرقها. تكورت فى رقدتها ووضعت يديها بين فخديها، ثم تقلبت.. تحسست جبهتها فشعرت أنها محمومة، وتوقعت كل حركة خارج الحجرة، وقع أقدامه وإيقاع أنفاسه وتخيلته يدخل عليها الحجرة... تتشابك أصابعهما وتتلامس ألسنتهما، وتدخل هى فى طوابق النشوى والنسيان.

    باتت الحجرة مثل القبر الموحش، وخافت أن تموت فى هذه الحجرة الصغيرة، ولن يدرى بموتها أحد لا عائلتها،و ولا أصدقاؤها، ولن تنتظرها غير الفضيحة.

    قلقت، فخرجت من الحجرة، بحثت عنه فى قاعة البنسيون الصغيرة، وجدته نائماً كالطفل على أريكة تأخذ جانباً من الصالة.. كان ينام مثل القديسين. عادت إلى حجرتها أخذت المروحة ثم عادت مرة ثانية إلى العامل، وجلست بجانبه، ولمست يديه، وطبعت قبلة رقيقة على شفتيه.. نهضت ودخلت الحمام، اغتسلت، رائحة الصابون ولون المياه أعطاها إحساساً بالخلاص والطهر.. دخلت حجرتها، أخذت حقيبتها، وضعت العسل والمربى والزبدة فى منديل من الورق، وضعتهم فى حقيبتها، وقالت:"حأكلهم لما أجوع"، وقضمت قطعة من الخبز وتركت الباقى على الكوميدينو.. تسللت ببطء , بجوار العامل وضعت بعض النقود فوق صدره. نظرت إلى الحجرة المطلة على البحر، فأنعشها الهواء الهارب من البحر الواسع، دخلت ونظرت نظرة أخيرة، قالت: ماذا لو ألقيت بنفسى من هذه الشرفة تساءلت ولم تفعل.

    خرجت من البنسيون، وركبت المصعد الذى هبط بها سريعا. نظرت على مرآة المصعد مرة ثانية قالت يجب أن أخفض وزنى قليلاً، وأقص شعري، وسأصبغه بلون الذهب، وسأرتدى ملابس ضيقة، ثم ابتسمت وقالت ما أكثر الرجال فى العالم ! وسأجد الرجل المناسب لى يوماً ما، وابتسمت ابتسامة التفاؤل وتذكرت الرضيع فى الصورة التى تعلو كونتر الاستقبال، خرجت تملؤها القوة برغم سهرها طوال الليل.

    كان النهار قد بدأ فى البزوغ فعبرت الطريق تجاه البحر، وسارت على الكورنيش وأخذت تبعد وتبعد حتى غابت عن الشمس والبحر.

  2. #2
    الصورة الرمزية احمد ابراهيم
    احمد ابراهيم غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    8,385

    افتراضي

    قصه ممتعه جدا
    فى انتظار جديد مواضيعك

  3. #3
    الصورة الرمزية سمسم
    سمسم غير متواجد حالياً عضو نشيط
    تاريخ التسجيل
    Aug 2010
    المشاركات
    9,662

    افتراضي

    شكرا لك اخى وشرفنى تواجدك الكريم


1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17