قنصة

الطريق إلى الشيخ عبد الله ليس يسيرا و يصعب على الذاهب أخذ خريطة معه بل يجب عليه أن يملك ذاكرة مصورة و قدَرا مجهولا و قلبا متحجرا ، لم تكن تلك كلماتى بل كانت للكبير الشنوانى الرجل الذى دب الشيب فى رأسه و ارتسمت فى جبينه تعرجات قدره ربما كان سر التلفيحة البيضاء التى كان يضعها فوق رأسه مسدلة لتخفى تعرجاته و لكنى عرفت سر التلفيحة فى جلستنا الأخيرة تلك ...
******
الشنوانى الكبير له من الذكور سبعة و من الإناث أكثر من تسعة ، كان يقول لى ذلك دائما ، ساقطا فى العد برعمه الصغير نادية لأنها صغيرة السن و شفع لها سنها حتى لا تعمل و لكن أسقطت من العد بالطبع ..
حدثنى الشنوانى فى تلك الجلسة بأنه عندما رأنى نافر العروق و يتملكنى الغضب فى مشادتى مع الأستاذ إسكندر محامى الشنوانى وكنت محاميا تحت التمرين عنده ساعتها ، قال فى سريرته (يجى منه) ...لقد علقت به حدتى و حدثنى بأنه شعر بشىء لم يستطع وصفه ساعتها و لكن أخبرنى بأنه تيقن بأن صنوفا من البشر جديدة سوف تدلف إلى عالم ( الكار) ..لا أعرف كيف استشف ذلك و لكن ما جعل من الشنوانى شنوانيا تملكه بصر و بصيرة .... و قد أخبرنى بأنه عندما كان صبيا للأسطى فى عربة الفول لايزال متذكرا أول صفعة على جبينه و سبة بأمه قال لى ّ بوجه ضحوك لم أعهده من الشنوانى ( ضربته فى محاشمه) فسقط الرجل و رحت أركله بقدمى الصغيرة المتسخة على وجهه حتى رأيت دمه فتوقفت .... ثم قال لى أتدرى ما هو الشىء الغريب ؟؟ قلت له ما هو ؟ أن أحدا لم يقدم على فض الاشتباك الذى حدث وكأنى لم أفعل شيئاو لكنى سمعت ( ده عيل صغير معلش ) .. صمت الشنوانى ساعتها و أدركت أنه رأى ذاك الولد الصغير عندما كنت فى مشادة مع الأستاذ إسكندر لا أخفى أيضا كانت صفعة وسبة ..

عند تخرجى رأيت نفسى أحمل مشعلا للنور يضىء ظلمات من ظلم و ينير لما حوله ضياء حكمة و عدالة و لكن بعد عملى مع إسكندر عرفت إنى أحمل مقصلة تزيد الظلمة ظلاما ، أربع سنوات هى عمر عملى فى المحاماه و كانت قضية مسئول الزراعة هى القشة...
فى يوم تقدم لنا أكثر من فلاح ظهرت عليهم علامات إعياء مختلفة و كانوا يقولون إنهم استشعروا الداء بعد أن نفذت عملية رش بالمبيدات من طائرة تابعة لمسئول الزراعة ....
قال الشنوانى بعدما اصطحبنى إلى الخارج بصوت هامس فى أذنى سيقتلك ، لم أرتعد ساعتها و نظرت فى عين الشنوانى و الذى نظر إلىّ أيضا وكانت أشبه بالمبارزة ...
******
عندما عدت إلى المنزل وجدت ناجى و قد طالت لحيته و نظر إلىّ من وراء نظارته ثم تابع قراءة مرجعه الأجنبى فى صمت ... فى يوم دلف إلىّ ناجى و تنفرج أساريره و كنت مستلقيا على سريرى فنذغنى فى جانبى وقال لقد أرسلو لىّ الخطاب أخيرا و جلس إلى جانبى و أخذ يقرأ سطرا ثم الثانى حتى تجهم و أسود وجهه قليلا فقلت له ماذا؟ ترك لى الخطاب و ذهب بعيدا ، أمسكت بالخطاب و قرأته فتنهدت و لكنه السؤال ماذا يريدون منا ؟
*******
كان الشنوانى ليلتها هاتفنى و أخبرنى بضرورة المجىء إلى مكتبه عندما ذهبت وجدته وحده بالمكتب و قال لى إجلس ثم أردف هل تعرف ماذا أعمل ؟ كانت على لسانى الكلمات و لكنى استحييت من نفسى و قلت يقولون إنك تاجر فقاطعنى عندها و قال مخدرات ..نعم أنا هذا الرجل و ليس يقولون ،بالطبع ستسأل نفسك ماذا يريد منى ، أعلم أنك عاطل بعد إسكندر و لكن إعلم أنا أحميك فقاطعنه هل ستبتزنى ؟ قال أبدا ،لا أحد يبتز أحدا هنا و لكن عندى لك عمل ..قلت : ماهو؟ قال سائق .. أردفت هل أنا مجبر على قبول ذلك العمل ..قال: لا ولكن تذكر كن بجانبى أفضل من أن تكون بعيدا، بقربى ستكون من رجالتى لا أحد يستطيع أن يمسك بأذى حتى الذى تفكر به لن يستطيع مسك ...قلت : سائق فقط .. قال : نعم سائق فقط ...
دس يده فى جلبابه الأبيض و أبرز لىّ حفنة من ورق النقود فئة الخمسين جنهيا لم أستطع عدها و قال لىّ الغد هناك نقلة ...
*******
عندما تحدثت إلى الفلاح عبد الصمد كبير عصبة الفلاحين قال لىّ أحسسنا و كأن السماء ترمينا بسجيل ساعتها فبعد نصف ساعة سالت الدماء من أنوفنا و كثرت الأمراض بعدها لا أعرف يا ولدى ماذا يريدون و لكن أشعر إنهم يعاقبونا لأننا زرعنا قمحا زائدا عن الحصة المقررة فقاموا برشنا ، لا أعرف ماذا أقول لزينب عن عريسها ناصف الذى يرقد فى القصر العينى لا أعرف ماذا أقول لها ....
*******
عند العودة وجدت ناجى و كأنه انتهى من شىء ما و قال هل تريد أن تركب سيارة و بأقل من عشرين ألف جنيها جاوبته بالطبع ، فرفع لىّ ذلك الكشكول وقال لقد توصلت إلى مشروع السيارة الوطنية تخيل حداثة التصميم و القوة و الرفاهية و بأقل من عشرين ألف جنيها ، إذا قبلوا هذا الاختراع جميعنا سنركب سيارات و سنغزو السوق الخارجى بها أيضا .. قبلت رأسه و حدثنى أنه ذاهب إلى البحث العلمى ليعرض ما اخترعه هناك ....
******
كان يحدثنى الشنوانى هامسا و قال لىّ هل تدرى ماذا ستنقل ؟ قلت مستخففا : الصنف ..فتحول إلى صرامة و قال بل دقيق فاخر أنت تعلم إنى أملك ستة مخابز بالطبع فى تلك المدينة فقط ألست أنت من استخرج التراخيص من مكتب إسكندر ..قلت: نعم ..إذا ستنقل دقيق و دقيق فقط و خذ تلك ووضع نقودا فى جيب سترتى و قال الف جنيه ليست لك و ستعرف لمن .. سيذهب معك ابنى جابر ...
كان جابر هادئا و استمدت هدوئ منه حتى و صلنا إلى الحاجز الأمنى فنزل جابر وتحدث مع فرد الأمن و فعلا صوتهما فنزلت و هدئت فرد الأمن و الذى أصر على تفتيش السيارة وكان يصر على فتح أشولة الدقيق فقلت له بنبرة قوية إنها سيارات الشنوانى فنظر إلىّ و قال كلمة واحدة ( فين الشاى بتاعى ) فأخذه...
ووصلت الشحنة و لكنى ثرت على الشنوانى و حدثته بأن جابر ولده الأصغر لا يعرف شيئا و كان سيضيع كل شىء فابتسم و ربت على كتفى و صفع جابر على وجهه و ظل ينظر إلى ولده طويلا ...وتحول إلىّ و قال هل كنت تعرف أين خبئت البضاعة قلت لا فنظر إلى و قال يجب عليك أن تعرف و مشى مبتعدا عنا .. لا أعرف كيف سمعت اسم أخى ناجى ساعتها ...
******
عندما دلفت إلى ناجى وجدته و اضعا كشكوله أمامه و جريدة أجنية و قد أشار إلى صورة سيارة ما فى الجريدة و قال لقد بعثوا لىّ بخطاب شكر و تقدير و عدم توافر موارد كافية للتنفيذ ... لجم لسانى ساعتها و لكنى تغلبت على الثقل و قلت بإمكانك أن تنفذ مشروعك ، نظر إلىّ و خلع نظارته و طرحت عليه الفكرة ووقف التنفيذ عليه ...
******
عندما رأيت الشنوانى جالسا مع أخى ناجى كان الشنوانى يستمع إليه و بعد فترة يستمع ناجى إليه إلى أن نادى علىّ الشنوانى و قال قد حدثتك أن الصنف يرحب بالصنوف الجديدة من الرجال كان سعيدا و مزهوا بنفسه ، أخوك عبقرى ...
عندما اختليت بناجى دمعت عيناه و قال لا بأس ...
******
ذهبت إلى الشنوانى بعد عملية أخرى و قال لىّ بنبرة ضاحكة لو لم يكن عندى أولادا لأعطيتك كل شىء ، كانت تلك الجلسة الأخيرة و أخبرنى بأن كبيرهم الشيخ عبد الله و الذى يسكن صحراء الواحة هو مصدرهم و أن إعياء ابنه الأكبر الشنوانى الصغير جعله يسند مهمة مقابلة الشيخ لىّ و لكنه اشترط أن ناجى يذهب معى ثم صمت برهة و أعقب قائلا ببصيرته عندما جلست مع أخيك ناجى راح يشرح إلىّ كيف أن الجيوب التى سنصنعها فى سيارتنا لا يمكن أن يكتشفها أحد حتى كلابهم البوليسية ثم حدثنى عن شىء يسمى السيارة الوطنية أدركت أننا يجب أن ندفع الثمن يجب أن يموت البعض منا حتى نتمكن من صناعة السيارة الوطنية..تلك كانت نبرة جديدة من الشنوانى الذى اقتنع بمشروع ناجى و قرر اعتزال حياة الصنف بعد نقلة الشيخ عبد الله لأن تلك النقلة سترفع رأس مال الشركة الجديدة... و لكنى طرحت عليه السؤال هل سيتركونا نصنع السيارة الوطنية قال سأصنعها كانت تلك أخر كلمة من الشنوانى تاجر الصنف ....
*******
عندما كنت مع عبد الصمد فى أروقة القصر العينى وكنا يخبرنى و الدموع محتجزة فى عينييه تخشى السقوط من هيبته أخبرنى أن ناصف توفى باكر اليوم و أن الأستاذ إسكندر قدم إليهم و قال بنبرة وعيد أكثر من بنرة المدافع عن حقوقهم إن المسئول تبرع بألف جنيه لكل مصاب و بخمسة لكل متوفى لكى نغلق ملف تلك القضية إلى الأبد ...
******
الساعة السادسة صباحا يوم الجمعة كان موعد النقلة و كنا مستيقظيين لم ينم أحد فينا تلك الليلة ، لا نريد أن نصدق المشروع قيد التنفيذ و تلك النقلة الأخيرة و سأرى نفسة مدير الشئون القانونية لشركة السيارات الوطنية و أخى ناجى هو مهندس المشروع بأكمله و توبة الشنوانى ، أتذكر الآن كلماته عندما قال لىّ أن هواء الصباح كَيف وحده فإن صحت الزبائن باكرا لن يشتروا منه ، فتحققت أحلام الشنوانى كلها فى البكور مع أن أغلب عمله بالليل...
عندما ارتدينا ملابسنا و ضع ناجى يده على كتفى و قال هل تريد أن تعرف سر التلفيحة البيضاء التى على رأس الشنوانى جاوبته : نعم .. إنها سر قبوله المشروع لأن قديما كان له صديق يعمل خياطا كان يصنع له تجويفا بداخل التلفيحة ليتمكن من وضع الصنف فى تلفيحة رأسه فقلت مستهزءا من رأسه إلى رأس الزبائن ....
******
عندما انطلقت السيارة متجة إلى الواحة كنا نرى شبابا يمسك بأعلام البلد و يلوح لنا فسألت ناجى لا أعرف حتى إن كان منتخب الكرةسيلعب اليوم حتى ، لم نكن نغادر العمار ساعتها و لاحظنا أن الشوارع بدأت فى ازدحام لا نعرف سره حتى وصلنا إلى الحاجز الأمنى المعتاد و كان فرد الأمن طلب منا أن نعود أدراجنا فغمزته بألفين فقبل على مضض ، حدثنى ناجى أن شيئا ما يحدث و لكنه يجهل الأمر واصلنا السير حتى دخلنا فى منطقة عمار و لكن لم نر غير صبيا مدرجا فى دماءه و سيدة تنوح فى الشرفة و تشير لنا بأن نتوقف فتوقفت و حدثها ناجى و قبل رأسها و هرع إلى و قال أن الأمن يقنص الشباب لسبب ما و أن العجوز قد رأت القناص فى البناية المقابلة ، طلب ناجى منى أن أسحب سلاحى من السيارة و نصعد لنقتل قاتل الصبى قاومته فى بادىء الأمر إلا وسط حديثنا سمعت صوت انطلاق طلقة و سقط أخى هو الأخر لازال كان ينطق و يقول لىّ أقتله أقتله دعنى أذهب و أقتله ، سحبت سلاحى و عدوت إلى البناية التى رأت منها العجوز القناص و أخذت أصعد الدرج وسط صرخات أمهات و صيحات شباب إلى أن وصلت إلى سطح البناية و أتخذت حذو الحائط حتى رأيته يقنص لم أدر بأى سرعة عدوت و لكن ركلت القناص على رأسه و صرخت بـ آهة ضغت على صوت اطلاق الرصاصة .....