ما يخشاه علينا النبي صلى الله عليه وسلم

عن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح فقدم بمال من البحرين وسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال :
( أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء ) قالوا أجل يا رسول الله
قال ( فأبشروا وأملوا ما يسركم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) رواه البخاري ــ كتاب الرقاق رقم 5945 ، ومسلم ــ الزهد والقيامة رقم 5261 والترمذي واللفظ له ــ كتاب صفة القيامة رقم 2386

الحياة الدنيا حين تقاس بمقاييسها هي وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمرا عظيما هائلا ، ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود وتوزن بميزان الآخرة تبدو شيئا زهيدا تافها ، لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر … هذه هي الحقيقة وراء كل ما يبدو فيها من جد حافل واهتمام شاغل

قال تعالى ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) الحديد 20

وهي حقيقة لا يقصد بها القرآن العزلة عن حياة الأرض ولا إهمال عمارتها وخلافتها التي ناطها بهذا الكائن البشري ، إنما يقصد بها تصحيح المقاييس الشعورية والقيم النفسية والاستعلاء على غرور المتاع الزائل وجاذبيته المقيدة بالأرض ، هذا الاستعلاء الذي يحتاج إليه كل مؤمن بعقيدة ليحقق عقيدته ، ولو اقتضى تحقيقها أن يضحي بهذه الحياة الدنيا جميعا

ولذلك كان التوجيه الرباني لشخص النبي صلى الله عليه وسلم ولأمته ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً َ) الكهف 28
وهذه اللفتة كافية للموازنة بين الحق الكبير والعطاء العظيم الذي مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمتاع الصغير الذي يتألق بالبريق وهو ضئيل ،

والله جل شأنه إذا فتح الدنيا وزينتها على العصاة فإنما هو استدراج قال تعالى ( فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة 55
أي لا تعجبك كثرة أولادهم وأموالهم لأن ذلك استدراج لهم ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب ، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب
( وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) فيموتوا كافرين لاهين بالتمتع عن النظر في العاقبة ، فيكون ذلك استدراجا لهم ،

وقال تعالى ( اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ) الرعد 26
فسنة الله تعالى في خلقه أنه يبسط الرزق أي يوسعه على من يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر ، ويضيق ويقتر على من يشاء ابتلاء هل يصبر أو يجزع ،

وقد يبسط الرزق لبعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك ، وقد يضيق على بعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك ، فلن يكون الغنى دالا على رضى الله ، ولا الفقر دالا على سخطه تعالى على عباده

(وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
أي فرح أولئك الكافرون بالحياة الدنيا لجهلهم بمقدارها وعاقبتها وسوء آثارها وما الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وهم أهل الإيمان به وطاعته إلا متاع قليل ككف التمر أو قرص الخبز يعطاه الراعي غذاء له طول النهار ثم ينفد