يمكنك حذف الفصل حول هبوط الروبية. إنه مثير للعواطف أكثر من اللازم". هذا ما قاله أوسكار وايلد في كتابه " The Importance Of Being Earnest". لكن حذف مسار الحسابات الخارجية الأمريكية، مع الإبقاء في الوقت نفسه على النشاط الاقتصادي العالمي، من بين أكبر التحديات التي تواجه صناع السياسة. فكلما طال تأجيل تصحيح العجز لفترة أطول، كلما كان أكثر ألما. والمطلوب حل تعاوني، مع تغيير من قبل كل الأطراف.
إذا كان يتعين إيجاد حل، من الضروري الاعتراف أولا بأن المشكلة موجودة، وثانيا بأنها تعكس سلوك معظم اللاعبين المهمين في الاقتصاد العالمي، وثالثا أن الحل يتطلب تغييرات في الأسعار النسبية (أسعار الصرف الحقيقية) وتغييرات في نمو العرض والطلب في مختلف أنحاء الكرة الأرضية.
إن الوصول إلى الوعي المطلوب يتطلب إزالة الأوهام بأن سبب العجز الخارجي المرتفع هو إما جاذبية الاقتصاد الأمريكي للمستثمرين الأجانب، أو المعدلات الأمريكية العالية للنمو، أو العجز المالي الأمريكي المرتفع..
الوهم الأول هو أن العجز تدفعه تدفقات رأس المال الأجنبي التي تجتذبها العائدات الأمريكية الحقيقية العالية. ويقارب عجز الحساب الجاري الأمريكي الآن 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن صافي الديون الخارجية يجب أن يكون قريب من 30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا كان الأجانب يشترون الأصول الأمريكية بسبب العائدات الحقيقية الجذابة، يكون من السهل نسبيا الاعتقاد في استمرارية هذه الاتجاهات. إلا أنه للأسف، الأمر ليس كذلك.
على مستوى الاقتصاد الكلي، فإن الرديف للعجز المتنامي لم يكن ارتفاع الاستثمار وإنما انخفاض المدخرات. وكما قال لاري سومرز، وزير الخزانة الأمريكي السابق "عند 1.5 في المائة، يكون معدل المدخرات الوطنية (الصافية) نحو نصف ما كان عليه في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات.. في الواقع تراجع صافي الاستثمار خلال السنوات الأربع أو الخمس الماضية في الولايات المتحدة، مما يوحي بأن كل تدهور في عجز الحساب الجاري يمكن أن يعزى إلى المدخرات المنخفضة والاستهلاك الزائد أكثر مما يعزى إلى الاستثمار الزائد".
علاوة على ذلك، فإن تمويل العجز غير منسجم مع النظرة بأن العائدات الحقيقية العالية تجذب المستثمرين. وفي نهاية العام الماضي، كان إجمالي الديون الخارجية الأمريكية 10515 مليار دولار. ومن هذا الإجمالي، كان 38 في المائة فقط في شكل استثمار مباشر أو أصول أسهم تستفيد من الأرباح الحقيقية المفترض أن تكون أعلى في الولايات المتحدة. وتتكون البقية من سندات الخزانة (الأمريكية والشركات)، قروض مصرفية، وأصول مماثلة. لكن العائدات الحقيقية الأعلى في الاقتصاد، وكذلك معدلات الفائدة الأعلى ستخفض الأسعار الخاصة بالسندات المالية طويلة الأجل بالدولار الأمريكي.
إن الوضع حول صافي الأصول أكثر كآبة: ففي نهاية 2003، كان صافي الموجودات الأمريكية من الاستثمار المباشر والأسهم 729 مليار دولار. وفي غضون ذلك فإن 1206 مليارات دولار من صافي الديون الأمريكية (نحو نصف الإجمالي تقريبا) تكونت من احتياطيات رسمية، مع مبلغ 318 مليار دولار من العملة الأمريكية. ولم تكن لهذه الموجودات صلة بالعائدات المتوقعة للأصول الأمريكية الحقيقية.
هكذا أصبحت الولايات المتحدة قابضا صافيا للمطالبات على أصول حقيقية في الخارج، لكن لديها مطالبات صافية كبيرة في السندات (الجزء الأكبر منها في شكل سندات و أسهم) ونقد. وهذا هو السبب في استمرار الولايات المتحدة أن يكون لديها دخل استثمار صافي إيجابي صغير، على الرغم من ديونها الصافية الكبيرة. وليس هذا بوضع دولة تجذب المستثمرين بتقديم عائدات حقيقية عالية. فالدوافع المعقولة هي إدارة سعر الصرف بواسطة حكومات أجنبية، والبحث عن ملاذ آمن من قبل مستثمري القطاع الخاص الأجانب.
الوهم الثاني هو أن العجز سببه النمو الاقتصادي العالي في الولايات المتحدة. والتفسير الثاني لحجم واستمرار العجز الأمريكي هو النمو الأمريكي الأسرع من كافة الاقتصادات المتقدمة الأخرى تقريبا. لكن النمو السريع لا يولد بالضرورة عجز حساب جار كبير. ومن السهل رؤية ذلك من تجربة الصين، طالما أن العملاق الآسيوي الناشئ كان يتمتع باستمرار بفوائض حساب جار.
إن ما يولد عجز الحساب الجاري المرتفع هو نمو الطلب بأسرع من العرض. وكان ذلك صفة مميزة مستمرة لأداء الاقتصاد الأمريكي. إذن لماذا كان نمو الطلب أسرع باستمرار من العرض؟ الإجابة المباشرة هي سعر صرف حقيقي غير منافس. إن مصدر العجز الخارجي المرتفع ليس هو النمو السريع للإنتاج نفسه، وإنما لأن النمو منحاز تجاه إنتاج بضائع وخدمات غير تجارية، بعيدا عن إنتاج البضائع التجارية. ومع سعر صرف حقيقي أكثر منافسة، يمكن أن تتمتع الولايات المتحدة بمعدلات النمو الاقتصادي نفسها لكن دون أن يكون عليها تحقيق نمو أسرع للطلب. وهذا بدوره سيوقف (وربما يعكس) الارتفاع في عجز الحساب الجاري.
الوهم الثالث هو إلقاء اللوم على العجز المالي الأمريكي المرتفع، وأن المتاعب ستختفي فقط إذا أعادت الولايات المتحدة ترتيب بيتها المالي. لكن إذا كان للعجز المالي أن ينخفض، وإذا كان للاقتصاد الأمريكي أن يتفادى كسادا عميقا، فإنه ينبغي إما أن يتوسع العجز المالي للقطاع الخاص لسد الفجوة التي تركها التراجع في الاستدانة الحكومية، أو يهبط العجز الخارجي. وإذا كان الأول هو المسار، يجب أن يكون هناك دعم كبير للإنفاق الخاص، ليتراجع العجز المالي للقطاع الخاص إلى نحو 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، كما كان في عام 2000. وسيكون الأسلوب الوحيد لتحقيق ذلك من خلال إرخاء السياسة النقدية، وبالتالي، تراجع قيمة الدولار. و إذا كان الأخير هو المسار، ستكون هناك حاجة أيضا إلى تخفيض كبير في قيمة العملة، لتحويل الإنتاج نحو إنتاج البضائع والخدمات التجارية وإبعاد الطلب بعيدا عنها. بدون مثل هذا التخفيض في قيمة العملة، فإن تصحيح الحساب الجاري سيحدث فقط من خلال طلب شامل أقل. لكن الحسابات توحي بأن التخفيض في عجز الحساب الجاري الحالي بمقدار نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي سيتطلب تخفيضا بمقدار 6 في المائة في الطلب المحلي الحقيقي. وبمعنى آخر، الهبوط دفعة واحدة. وعندها يجب أن يكون الانكماش المالي مصحوبا بتخفيض كبير في سعر الصرف الحقيقي.
ما هو إذن الحد الأدنى المطلوب؟ أولا لا يمكن تبرير مسار عجز الحساب الجاري بالخواص الإيجابية للاقتصاد الأمريكي. ثانيا، لا مفر من تخفيض حقيقي لقيمة الدولار إذا كان يجب تغيير الاتجاه. ويجب على العالم أن يتوقف عن الادعاء أنه يمكن استبعاد الأمر الذي لا مفر منه. فالتحدي، بدلا من ذلك، هو إدارة التصحيح للتغييرات المطلوبة في سعر الصرف، مع الإبقاء على النشاط في الوقت نفسه. إن التصحيح قادم، فلنتعاون لجعله سلسلا بقدر الإمكان.

منقول من جريدة الاقتصادية