الحياة - بدأت الأسواق العالمية بالتحول تدريجاً من مرحلة التأثر بالأنهيارات المالية العامة إلى مرحلة التأثر بتراجع أداء الاقتصاد الحقيقي، الذي يعنى بعيش الناس، العمل، البطالة، الإنتاج (الزراعة والصناعة والخدمات)،التوزيع، الاستهلاك، التضخم، السكن ومستوى عيش الأفراد.

يقول المدير العام لمنظمة العمل الدولية خوان سومافيا: وضعت المنظمة تقديرات أولية لكيفية تأثير الأزمة على الحياة اليومية للشعوب وعلى مستويات المجتمع المختلفة. وتوقع أن يزداد حجم البطالة العالمية نحو 20 مليوناً مع نهاية 2009، متخطياً للمرة الأولى حدود 200 مليون عاطل من العمل. فالعاملون في قطاعات مثل البناء والسيارات والسياحة والمال والخدمات والعقارات سيكونون أول المتأثرين شديداً بالأزمة. وأن أعداد الفقراء العاملين بأقل من دولار واحد في اليوم قد يرتفع إلى حوالى 40 مليوناً، ويتجاوز عدد الذين يعيشون بدولارين في اليوم 100 مليون. وعلى رغم سوداوية الأرقام، فإنها قد تتفاقم إذا لم يبادر إلى مواجهة سريعة للانكماش الاقتصادي الراهن وما يلوح في الأفق من كساد وركود.

ويمكن الاطمئنان إلى تصريحات مسؤولين خليجيين وعرب، حول سلامة اقتصادات بلدانٍ عربية كثيرة، لناحية محدودية تأثرها بأزمة المال العالمية، بخاصة اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي التي تنعم بمؤشرات اقتصادية كلية قوية. ويتوقع أن تنمو بمعدلات جيدة نسبياً في ظل بوادر اتجاه معدلات التضخم إلى الانخفاض نتيجة مؤشرات تراجع الضغوط على أسعار السلع الأساسية. وأكّد هذه المؤشرات جميعها، صندوق النقد الدولي، الذي بيّن أن انعكاسات الأزمة العالمية على الاقتصاد الحقيقي لدول المجلس، ستكون أساساً من خلال انخفاض أسعار النفط، وهو المورد الرئيس للنمو في دول التعاون. وخفّض الصندوق تالياً، توقعاته للنمو في دول المجلس من نحو 8 في المئة إلى 4 - 6 في المئة للعامين الحالي والمقبل. ومع ذلك، تبقى هذه المعدلات جيدة إذا قورنت بمعدلات النمو السكاني، لكنها قد لن تكون كافية إذا قورنت بمعدلات التضخم ولم يصار الى احتوائها قريباً.

وإذا توافقنا في الرأي بمحدودية تأثير أزمة المال العالمية على الاقتصادات العربية، فذلك لا ينفي الحاجة إلى المطالبة باتخاذ إجراءات وقرارات فاعلة للحد من انتقال التداعيات إلى الاقتصاد الحقيقي في البلدان العربية. وتحتاج هذه البلدان إلى خطة إنعاش اقتصادي لتخفيف عدوى تداعيات أزمة المال العالمية وآثارها، فضلاً عن التراجع الحاد في أسعار أسهم الشركات المدرجة في البورصات العربية والاقتصاد الحقيقي، أي إلى أرباح هذه الشركات أيضاً وليس أسهمها فقط. وفي الإمكان تحقيق ذلك من خلال إرساء قواعد وسياسات تقود الى العمل اللائق والمؤسسات المنتجة، وفي مقدمها رفع إنتاجية الاقتصادات العربية، وترشيد أنشطتها في صورة أكبر لتبتعد عن أنشطة المضاربات وتركز على العمران والانتاج.

ومطلوب أيضاً، الاستمرار في ترشيد عمليات المؤسسات المالية، مع الحرص على استمرار ادائها في دورها الائتماني والاستثماري والإنمائي والمعاملات المالية بينها، نظراً إلى حساسية موقعها الاقتصادي، بحيث دشنت بلدانٌ عربية هذه الخطوات، بإجراءات تهدف إلى حماية الودائع وضخ السيولة والمساهمة في علاج الموجودات المتعثرة. ويبدو أن تعزيز القواعد الرأسمالية للمؤسسات المالية ومعايير الشفافية والحوكمة وسياسات الاستثمار وتحسين جودة الموجودات، أمورٌ واجبة، تؤمنها الحكومات بتوفير التمويل لمشاريعها الكبرى، عبر إصدار سندات وصكوك تمولها مؤسسات المال.

ولا بد من أن تلتفت البلدان العربية إلى الفئات الأكثر تضرراً بالأزمة، ما يعني اتخاذ إجراءات متنوعة، بما فيها دعم الأسعار والخدمات، وتحسين معاشات التقاعد، والتأمين ضد البطالة، وتوفير الاعتمادات إلى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل المصدر الرئيس لفرص العمل.

وضروري أن ترسي الحكومات سياساتٍ عامة قاطعة وتعتمد أدوات ناظمة فاعلة، من شأنها مكافأة العمل الجاد والمؤسسات المنتجة والرشيدة سواء المالية أو الإنتاجية. فنحن، كما يقول المدير العام لمنظمة العمل الدولية، نعيش في قلب زوبعة تضرب النظام المالي الذي خسر بوصلته الأخلاقية. علينا أن نعود إلى الدور الشرعي الأساسي للمال، الذي ينهض بالاقتصاد الحقيقي. ويوفر القروض كي يتمكن أصحاب المؤسسات من الاستثمار والابتكار وتوليد الوظائف والإنتاج. دعونا نعود إلى ما تقصده المالية من عمل، أي تمويل الاقتصاد الحقيقي. ولقد لمسنا ذلك من تصاعد الدعوات إلى تعميم نموذج العمل المصرفي الإسلامي في البلدان العربية وحتى في مناطق عدة من العالم.


* رئيس اتحاد المصارف العربية