السادات في ظل عبد الناصر ، هدوء وسكون في انتظار الفرصة



30 اغسطس 2007 - 06:10 مساء


الملف الكامل لاغتيال السادات - الحلقة الأولى







كان اغتيال الرئيس أنور السادات في 6 أكتوبر 1981 علامة فارقة في التاريخ المصري الحديث. لقد أدى هذا الحادث إلى تداعيات عميقة في المجتمع المصري وفي منطقة الشرق الأوسط ، وشملت هذه التداعيات الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية ، وأثرت على العلاقات بين الحكومات العربية عموما والحركات الإسلامية ، وأدت إلى انحسار الصحوة الإسلامية وبروز تيار متشدد أحدث شرخا عميقا في البناء المصري. وقد تخطت آثار هذا الحادث مصر والعرب إلى العالم الإسلامي وأنشأت حالة من البلبلة الفكرية ما زالت تلقي بظلالها بعد ربع قرن.

هذا الحادث المؤثر لم يأخذ حظه اللائق من البحث والتوثيق والتحليل بحيث تأخذ منه الأمة درسا وفكرا يساعدها في تجنب الآثار السلبية له ويعينها على فتح حوار داخلي تستعيد به عافيتها وتتخلص به من القيود التي تعوق نهضتها ورُقِيها.

وعندما نوينا في أن نقترب – مجرد اقتراب – من هذا الملف وجدنا عراقيل ضخمة تحول دون تناوله بشكل علمي أمين ودقيق ، وأدركنا أن ما سنقوم به ما هو إلا بداية وفاتحة لجهود أخرى مطلوبة لإعادة كتابة تاريخنا الحديث. ولذلك فنحن نطلب ونرجو كل من يتابع معنا هذا الملف أن يكتب لنا بأي تصحيح أو نقد لهذه الدراسة المتواضعة.


إن أهم المعوقات التي صادفتنا:
• نقص – أو انعدام – الوثائق.
• المذكرات الكثيرة المنشورة لشخصيات عاصرت تلك الأحداث ، وجاءت المذكرات متناقضة وتعطي بيانات وأحداث متضاربة.
• كثير من الكتابات التي ألفت عن تلك الأحداث غلب عليها الهوى السياسي لنصرة فكرة معينة أو أشخاص معينين.
ولقد حاولنا أن نعتمد على مصادر كثيرة لأحداث تلك الفترة ، مصادر إعلامية مصرية وعربية وغربية لجمع شتات الروايات الكثيرة المتناثرة.

وكان من الضروري أن نرجع أولا قليلا إلى الوراء للنظر في شخصية الرئيس السادات ، لنتعرف على طبيعة شخصيته وكيف تطورت الأحداث بحيث تصل في سبتمبر 1981 إلى درجة عالية من التوتر بين السادات وبين الحركة الإسلامية في مصر والتي دفعته إلى إلقاء القبض عل كل رموز المعارضة السياسية والفكرية والدينية في 5 سبتمبر 1981. إن تصعيد التوتر الداخلي لهذه الدرجة لم يحدث فجأة لكن سبقته مقدمات وأحداث ، وكان لشخصية السادات تأثير بالغ فيها.



السادات قبل هزيمة 1967

لم يتقلد أنور السادات مناصب رسمية تذكر منذ قيام ثورة 1952 وحتى هزيمة 1967 إلا تعيينه سكرتيراً عاماً للمؤتمر الإسلامى عام 1954 وسكرتيرا عاما للاتحاد القومي في 1957 ، ورئيسا لمجلس الأمة من عام 1961 ولمدة ثماني سنوات علاوة على توليه رئاسة تحرير جريدة الجمهورية الناطقة بلسان الثورة. وليس من الواضح تفسير عدم توليه لأي منصب تنفيذي كسائر مجلس قيادة الثورة ، وتبدو شخصية السادات طوال هذه السنوات في الظل ، ولا تسجل له مواقف مميزة. وتقول زوجته السيدة جيهان أن هذا يرجع لعدم رغبة السادات دائما في الدخول في صراعات على السلطة وأنه كان يؤثر الهدوء. ولعل ميوله أكثر من زملائه للدين جعلت الرئيس عبد الناصر يحرص على أن يجعله سكرتيرا عاما للمؤتمر الإسلامي وممثل مصر في كثير من لقاءاته. ويبدو أن عبد الناصر رأى فيه هذا الميل ولذلك نجد فترة التوتر التي سادت العلاقات المصرية السعودية أن الرئيس عبد الناصر اجتمع بالأمير فيصل ولى عهد السعودية ورئيس وزرائها عام 1958 لتصفية الأجواء بين البلدين، وأن هذا اللقاء حضره مع عبد الناصر السادات فقط وكذلك في حفل العشاء الذي أقيم تكريماً لفيصل في نفس الزيارة.




ولعل هذا يعطي فكرة عن الصورة التي كانت للسادات عند عبد الناصر في تلك السنوات ، وهي صورة الرجل الهادئ المخلص الذي لا يثير المتاعب ، والذي ربما يقدم صورة إيجابية لمصر في المحافل الإسلامية.

ولكن ثمة حادث يُربك هذا التصور ، وهو تعيين عبد الناصر للسادات وحسن إبراهيم نائبين لرئيس الجمهورية في ١٧ فبراير ١٩٦٤ ، وهو المنصب الذي لم يدم للسادات إلا شهرا واحدا ، ونجده بعد 16 مارس 1964 يظهر اسمه في الاجتماعات كرئيس لمجلس الأمة فقط. وهذا التعيين لشهر واحد لم نجد له تفسيرا ، ولا ذكرا. إلا أن يقال إن منصب نائب الرئيس كان شرفيا لدرجة ما ، حتى إن عبد الناصر كان له بعد ذلك بشهور قليلة خمسة نواب لرئيس الجمهورية وهم زكريا محي الدين وحسين الشافعي وحسن إبراهيم وعلي صبري وعبد الحكيم عامر. وهو ما يعكس أيضا الطريقة الهزيلة لإدارة الدولة بحيث تكون المناصب الرفيعة بلا صلاحيات حقيقية.

محطة أخرى في حياة السادات قبل 67 ، كانت زيارته للولايات المتحدة عام 1966. وكانت هناك محاولات في ذلك الوقت لتحسين العلاقات بين مصر والولايات المتحدة ، وبعد جذب وشد وافق عبد الناصر في النهاية أن يبعث بأنور السادات ليقابل الرئيس جونسون في محاولة لتحسين العلاقات المتدهورة بين البلدين. واختيار عبد الناصر للسادات لهذه الزيارة المهمة يكشف أيضا عن معرفة عبد الناصر لميول السادات نحو الغرب ، وقد وجه بأن يقوم بالزيارة مع زوجته السيدة جيهان ذات الأصول الإنجليزية. هذه الزيارة حصل حولها لغط ، وشطط وصل إلى حد أن محمد حسن الزيات في مذكراته – وكان مندوب مصر الدائم حينها في الأمم المتحدة - اتهم السادات بأنه اختفى في تلك الزيارة ثلاثة أيام كاملة ولم يعرف مخلوق أين ذهب أو ماذا كان يفعل ، وقال الزيات إنه أرسل رسالة سرية لعبد الناصر بهذه الواقعة. وذكروا أيضا أن الموظفة المكلفة برفقة السيدة جيهان في تلك الزيارة كانت أمريكية يهودية. وحاول البعض أن يبني على تلك الأقاويل قصصا من الخيال حول علاقة سرية بين السادات والولايات المتحدة بدأت من تلك الزيارة. وهى دعاوى سخيفة وغير منطقية ولا تصمد أمام أي تحليل ، ولولا انتشارها ما ذكرناها هنا. ويكفي أن نتصور أن عبد الناصر كان غافلا إلى الحد الذي يختفي فيه مندوبه في زيارة حساسة للولايات المتحدة لثلاثة أيام وهو لا يعرف ، أو عرف ثم أبقاه وقربه وجعله بعد ذلك نائبا له. هذا لا شك من الأقاويل التي يقذفها البعض بدون أي دليل حقيقي. وأما كون المرافقة للسيدة جيهان كانت يهودية ، فهذا كما هو معروف طبيعي في الإدارة الأمريكية أن يصل اليهود إلى أماكن ووظائف كثيرة في هرم الإدارة هناك. ثم إننا لا نعرف أي محادثات سرية تلك التي تحتاج إلى ثلاثة أيام كاملة من الاختفاء ؟



السادات وهزيمة يونيو 1967

لا نجد أيام حرب يونيو 1967 أخبارا عن السادات ، وكنا نتصور تواجده بشكل أو بآخر في هذه الأيام المصيرية. إن السادات كان في ذلك الوقت رئيسا لمجلس الأمة وأحد كبار المسئولين ومعدودا في الدائرة الصغيرة حول عبد الناصر. ولكننا لا نجده يشارك أو يحاول أن يشارك في اتخاذ القرار في هذه المرحلة الدقيقة. بل يقول السادات في مذكراته "البحث عن الذات" عن أيام الحرب:




" .... ماذا كان بيدي أن افعل ؟ عدت إلى بيتي وبقيت إلى يوم 9 يونيو وهو اليوم الذي حدده عبد الناصر لإعلان بيان منه في الراديو والتليفزيون الساعة السابعة مساء. كنت وأنا في البيت دائم الاتصال بعامر وعبد الناصر فاتصلت بعامر في الساعة الخامسة فقال لي في خشونة وضيق إن إسرائيل قد وصلت إلى العريش واستولت عليها. لم أكن اعرف ماذا افعل بنفسي. كنت معتادا أن اخرج للمشي أربعة كيلومترات يوميا ولكن بعد 5 يونيو كنت أسير وحسب لم أكن ادري كم من الزمن أسير عشرة كيلو مترات أو أكثر أو اقل لا أعرف ، فقد استولى علي ذهول غريب لم أعد استطع معه أن أتبين الزمن أو المسافات أو حتى المكان نفسه في بعض الأحيان ......... دهم إحساسي بالهزيمة نفسي بحيث استغرق شعوري فكنت أعيش الهزيمة في يقظتي ومنامي وكنت في كل يوم يمر اكتشف أبعادها فيتمزق صدري ولكنى لا اعرف ماذا افعل . حبست نفسي في بيتي بالهرم ثلاثة أسابيع كاملة عشتها في عزلة تامة عن الناس ...".

وهو موقف يصعب تصوره وتفسيره ، إلا أن نقول إن السادات آثر ألا يضع نفسه في موقف يُغضب به عبد الناصر أو عبد الحكيم عامر ، فانسحب من المشهد السياسي كله ، اللهم إلا عند دعوة مجلس الأمة للاجتماع ومطالبة عبدالناصر بالبقاء بعد إعلانه تنحيه عن السلطة، ثم إعلان البشرى على الناس بقبول عبد الناصر البقاء في السلطة، وهذه إجراءات كانت من صميم "وظيفته" كرئيس مجلس الأمة.

ويعزز هذا التفسير ما ذكره السادات في الشهور الأولى لتوليه الرئاسة في حديث مع مراسل مجلة التايم الأمريكية حين سئل عن هذا فقال " في أيام عبد الناصر ، لو أظهرت طموحا فهذه هي نهايتك ..." (If you showed ambition with Nasser that was the end). إن لطبيعة الحكم الشمولي الاستبدادي أثره ولا شك في سلبية كبار المسئولين في الدولة ، ومع ذلك فيبقى موقف السادات وقعوده في بيته ثلاثة أسابيع والبلد يموج بتطورات هائلة ومصيبة كبرى ، يبقى موقفه مذهلا ويعكس حرصه الشديد على مجرد " البقاء ".


السادات وانتحار عبد الحكيم عامر

هذه الواقعة المؤلمة تلقي الضوء أيضا على شخصية السادات من عدة جوانب ، ونرجع فيها لشهادة سامي شرف (صاحب سر عبد الناصر) ولمذكرات السادات في "البحث عن الذات" وشهادة بعض من عاصروا الواقعة.





عندما بدأ الغبار يهدأ بعد عاصفة الهزيمة في يونيو 1967 ، كان من الواضح أن عبد الحكيم عامر المسئول الأول عن القوات المسلحة لابد أن يذهب بالإقالة أو الاستقالة ، خاصة بعد ما تكشف عن أوجه التخبط والقصور في إدارة القوات المسلحة وقصص االفساد التي بدأت روائحها تفوح. ونظرا للعلاقة الخاصة التي كانت تجمع بين عبد الناصر وعامر ، فإن نذر الصدام بينهما لاحت في الأفق مع أوائل شهر يوليو 1967. قام عبد الناصر بتعيين محمد فوزي قائدا عاما للقوات المسلحة وعبد المنعم رياض رئيسا للأركان – وقد استشهد بعد ذلك في حرب الاستنزاف – وأحمد إسماعيل قائدا للجبهة ، وعرض على عامر منصب نائب رئيس الجمهورية ، ولكن عامر كان يعرف أن سر قوته وبقائه هو في قيادته للجيش ، فرفض العرض وأخذ يتصل بكبار ضباط الجيش الموالين له ، وكون جبهة معارضة لعبد الناصر ، وأصبح بيته بالجيزة مركزا لقيادة هذه الجبهة إداريا وعسكريا. ولم يكن أحد يشك في ذلك الوقت أن صداما سيحدث بين الرجلين ، وإن كان توقيت ذلك بقي غامضا. ولذلك كان من الطبيعي على المجموعة التي في قمة هرم السلطة في مصر أن تحدد خيارها ، ومع من ستقف. هذا كان طبيعيا في تلك الظروف ، إلا أن السادات أراد أن يبقى على مسافة متساوية من الرجلين لآخر لحظة ممكنة ، وهو في هذا يبرهن أنه كانت رغبته الأولى أن ينجو بنفسه في ذلك الصراع.

فمن جهة أخذ ينصح عبد الناصر بضرورة أن يحسم الأمر ويتخلص من عامرويقول له " ... إن استبعاد عامر من الجيش مسألة مفروغ منها ولا تقبل الجدل.. صحيح إنه شهم ولطيف إلى آخره .. لكنه لا يصلح من ناحية العمل العسكري." ، ومع ذلك يضيق ويتبرم إذا عرف عامر أن عبد الناصر أبلغه بمعارضة كل مجلس قيادة الثورة لتصرفاته وشعر أن هذا قد يتسبب في استعداء عامر عليه. بل إن السادات كان متيقنا من المفاسد التي أشاعها عبدالحكيم عامر في مصر من خلال الجيش ومن خلال ترأسه للجنة تصفية اٌطاع ، ويروي السادات كشاهد عيان "... استجاب عبد الناصر لمشاعر الجماهير في نهاية سنة 1965 فعزل على صبري من رئاسة الوزارة وعين بدلا منه زكريا محي الدين .. ولكن زكريا لم يمكث في منصبه إلا شهوراً قليلة، إذا سرعان ما اختلف مع عبد الناصر .. ولو أن وراء هذا الخلاف كان عبد الحكيم عامر الذي كان يكره زكريا ويفضل أن يرأس الوزارة رجل من أتباعه .. وقد تحقق له ما أراد فعين صدقي سليمان رئيسا للوزارة بدلاً من زكريا .. ولكن هذا لم يمنع عامر من استمرار زحفه على السلطة حتى أصبح كل شيء في البلد يعهد به إلى القوات المسلحة أو البوليس الحربي.. النقل العام مثلا في حالة سيئة فيتبع للقوات المسلحة لإصلاحه – الثروة السمكية تشرف عليا القوات المسلحة وفي سنة 65 عندما قيل أن هناك مؤامرة يدبرها الإخوان المسلمون تولى أمرهم البوليس الحربي شمس بدران أهم معاوني عامر .. وكما اتضح بعد ذلك كان هناك تعذيب وإهانة وامتهان لكرامة الإنسان.

لا أستطيع أن أجزم بأن عبد الناصر كان على علم بما حدث .. ولكني في الوقت نفسه لا أستطيع تبرئته من المسئولية فالرئيس دائماً هو المسئول مهما كانت أخطاء معاونيه ومساعديه ومهما كانت نواياه هو.

فقد شكلوا لجنة أطلقوا عليها أسم لجنة تصفية الإقطاع وطبعاً تولى رئاستها عبد الحكيم عامر.

كانت لجنة تصفية الإقطاع تمثل قمة الإرهاب والكبت والإذلال .. فقد اعتدوا على كرامة الإنسان وهو ما لا يقبله شعبنا تحت أية ظروف ولأي سبب .........".

إن السادات يبدو هنا على يقين من فساد عبد الحكيم عامر شخصيا وعسكريا ، وأكثر من ذلك فقد أطلعه عبد الناصر في يوليو 1967 أن أن جاكوب مالك مندوب روسيا في مجلس الأمن كان في زيارة لمصر فطلب مقابلة عبد الناصر ليحذره من أن عامر سيقوم بإنقلاب عسكري في مصر ، ومع ذلك كله لم يجرؤ السادات على اتخاذ موقف واضح من هذا الصراع الذي يعلم الله وحده كيف كان سيؤول بالبلاد في حالة انقلاب عامر وانفراده بالسلطة في مصر.

بل إنه قبيل تحديد إقامة عبدالحكيم عامر ، يحكي السادات أنه دعاه على العشاء في بيته ، ويبرر ذلك أنه إنما فعل ذلك إشفاقا على عبد الناصر ! ، ولرغبته في إيجاد حل ... يقول " .... وإشفاقاً بعبد الناصر وما هو فيه من محنة .. فدعوت عامر إلى العشاء عندي في البيت ورحبت به واستقبلته أسرتي أحسن استقبال كما كنا نستقبله دائماً عندما يأتي لزيارتنا .. ولكني لاحظت أنه قد تغير تغيراً كاملاً .. كان قد فقد الثقة في نفسه وفقد معها استقباله للحياة وأصبح شخصية مهتزة تكاد تكون مفقودة الكيان، وقد ألمني هذا كثيراً وخاصة عندما التفت إليّ أبنائي يداعبونه كعادتهم وقال : " انتم بتكرموني قوي يا جماعة .. لسه لغاية دلوقتي بتكرموني ؟ فقلت له : دلوقتي يعني إيه يا عبد الحكيم ؟ علشان أنت ما بقتش قائد عام ؟ هو أنا كنت صاحبك عشان أنت كنت قائد عام؟ ده برضه كلام حد يقوله ..؟

في نهاية لقائنا رجوته أن يقبل منصب نائب رئيس جمهورية الذي عرضه عليه عبد الناصر ولكنه قال بجفوة : لا .. طول ما جمال عبد الناصر بيشتغل رئيس جمهورية أنا لازم أشتغل قائد عام القوات المسلحة .. لا كده لا بلاش .. ".




وحتى عندما حانت لحظة الصدام بين عبد الناصر وعامر ، في الليلة التي جمع فيها عبد الناصر كبار المسئولين في البلد ليشهدوا محاكمة عامر ، وعزله وتحديد إقامته في بيته بعد نزع الأسلحة منه ، فإن السادات بقي حريصا على إرضاء الطرفين ، وتهدئة الموقف. فيروي عن بعض تلك الساعات العصيبة يوم 25 أغسطس 1967 ، وبعد أن واجه عبد الناصر عامر بأدلة دامغة على خيانته وإعداده لانقلاب ضده ، ويقول السادات "..... أحس عبد الناصر بالإعياء أو خشي أن يتراجع في قراره فانسحب إلي حجرة نومه ولحق به زكريا والشافعي علي ما أعتقد فوجدت نفسي وحدي وجها لوجه مع عامر الذي قال لي أنه ذاهب إلي دورة المياه فصاحبته ثم عدنا إلي الحجرة فإذا به يفاجئني بقوله أنه تناول سيانور لينتحر .. ودهشت فأنا أعرف من قراءتي أن السيانور إذا لمس بالفم يموت من تناوله في أقل من ثانية .. ومع ذلك أرسلت في طلب الأطباء لإسعافه وفعلا حضروا وأسعفوه ..

كان الموقف عصبيا للغاية فقد آلمني أن أري عامر علي هذه الحال وآلمني أكثر إحساسي بإنه يحاول أن يفلت من المأزق الذي شعر أنه سعي إليه بنفسه علي أمل أن يعود إلي بيته ويتحصن فيه فهو لم يكن علي علم بالإجراءات التي تمت أثناء تغيبه عنل في جلستنا هذه.

كانت ليلة مؤلمة للشعور تعذبت فيها كما لم أتعذب في حياتي فقد طلع علينا الصباح وأنا وحدي مع عامر أشاهده يعاني ولا أستطيع أن أمد له يد المساعدة......".

وبصرف النظر عن اختلاف التفاصيل وجو ما حدث في تلك الليلة التي يسجلها سامي شرف على نحو مختلف ، إلا أنه يقول في روايته "...... أن المشير لم يتمالك اعصابه عند هذا الحد من اللقاء، فانفعل وبدأ يفقد أعصابه فقال له الرئيس:
الأمور واضحة.. انت راجل متآمر وعليك أن تقدر الموقف الصعب اللي بنمر فيه وعليك أن تلزم بيتك من الليلة.

عبد الناصر اقام محاكمة للمشير في منشية البكري بحضور مجلس قيادة الثورة والمشير يقول لأمين هويدي: رتبتم كل حاجة .. واضح ان الحكاية محبوكة علي الاخر
وبالطبع رفض عبدالحكيم عامر بشدة هذا القرار، وهو ما دفع بعض الحاضرين - الأصوات كانت متداخلة لكن كان من بينهم صوت السادات- الي محاولة اقناع المشير بقبول هذا القرار، إلا أنه قال لهم في غضب:" انتم بتحددوا اقامتي وبتحطوني تحت التحفظ قطع لسانك يا... " ، ويقول سامي شرف " إن عبد الحكيم عامر وصف أنور السادات في تلك الليلة كما سبه بما يعف اللسان عن ذكره........".


وحتى بعد انتحار عامر ، فهنا يظهر موقف السادات بلا لبس ، فيقول ".... وفي مساء الخميس 14 ستمبر 1967 تناولت العشاء ورأسي ما زال مشغولا بلقاء يوم الجمعة فإذا جرس التليفون يدق وعبد الناصر يتكلم ..
قال: أنور
قلت: أيوه يا ياريس خير .؟
قال: أنور
وسكت لمدة دقيقة ..ودهشت
فقلت: جمال أنت علي الخط ؟
قال: آه
قلت: أمال سكت ليه ؟ في أيه ؟
قال: عبد الحكبم عامر أنتحر ومات الساعة 7 مساء وبلغوني دلوقت من المعتقل ..
قلت: والله إذا كان ده حصل فعلا يبقي ده أحسن قرار اتخذه عبد الحكيم عامر كقائد خسر معركة.. لأني لو كنت مكانه كنت عمات كده يوم 5 يونيو ....".
إن موقف السادات من قضية عبد الحكيم عامر ، تكشف رغبته الشديدة في عدم الدخول طرفا في أي صراع ، خشية أن يصبح ضحيته ، حتى لو كان يؤمن بالخطايا التي ارتكبها عامر وحتى لو رأى أخطارا حقيقية تتهدد البلاد. ولا شك أن الطبيعة الاستبدادية للحكم في تلك السنوات ، جعلت السادات وغيره يفكرون في نجاة أنفسهم قبل كل شيئ ، إلا أن السادات كان أفضلهم وأمهرهم في النجاة بنفسه مهما كان الثمن.

انتظرونا في الحلقة الثانية وفيها:


• السادات وموقف مفاجئ ومشرف من أحداث الطلبة في فبراير 1968
• السر وراء اختيار عبدالناصر السادات نائبا له في ديسمبر 1969
• السادات ومذبحة القضاة