الجميع كأن على رؤوسهم الطير ، يرتدون زيا موحدا ، و يجلسون على مقاعد متشابهة ومن أمامهم طاولات صغيرة عليها بضعة أوراق ، و منهمكون فيما يبدو أنه اختبار من نوع ما ، الكل منكب على ورقته يدون فيها ما يدون ، يحل السؤال تلو السؤال ، يستسهل و يهون ، بخلاف أحدهم ... و قد بدا أنه يحاول أن يظهر للآخرين و كأن حاله من حالهم مستغرق في الاجابات اليسيرة ، بنفس الوتيرة ، منكب على الأسئلة ينحرها نحر الحمامة ، لم يلاحظ أيا من المتواجدين في قاعة الاختبار الماراثونية عدد حزم الشعر المتساقط منه و المتناثر على طاولته ، يهشه تارة ، و ينفخ فيه تارة أخرى من دون جدوى كتعبير لا إرادي عن حنقه ، يلوي رقبته ، يطلق زفرته ، يعض قلمه المتعوس ، يفرقع أصابعه ، يقرض أظفاره بشراهة ، يقلب النظر في ورقته ممسكا بخناقها بفظاظة مقهور ، و النتيجة ... مكانك سر ! يحاول استراق النظر ذات اليمين و ذات الشمال ، يستجدي عطف لمحة أحدهم صدفة اليه ، يشخص بنظره الى السماء متمتما ، ينقر برأسه نقرات خفيفة على طاولته المبتلية به ، و الحال كما هو عليه ، يتمنى من صميم قلبه لو يستشعر أحدهم محنته ، يخادع نفسه بأن الوقت طويل و طوييييل جدا ولا يزال متسع من الوقت أمامه بعد ، يحلم كما لو أنه الآن يحلم حلما مزعجا ، يستمع الى صوت تكات عقارب الساعة و كأنها لطمات عنيفة تتوالى على خديه ، في انشغالات واهية لا تقدم ولا تؤخر من الأمر شيئا ، ولا تصرف عن حقيقة مواجهة حتمية لم تشفق عليه ، يوهم نفسه بأن حل السؤال أسهل ما يكون ، يخفف عن نفسه متواثقا : جميع اجاباتي صحيحة مريحة عدا هذا السؤال اليتيم العقيم ، و يبقى الموقف سيد الفصل الخطاب ، و تظل الحقيقة المرعبة ماثلة بواقعها الموخز الأليم ، يعض شفتاه في حسرة متقطعة ، تعتصر قلبه الندامة ، يستذكر النصائح الحوامة ، يستنجد من حواليه العوامة ، فإذا هو يغرق في دوامة سوامة ، .... أياما و ليالي مديدة سخية توافرت له ، و لم يقدم لها التضحية المطلوبة ، و هو اليوم في ساعة العسرة العصيبة يتذكرها و يحفظها عن ظهر قلب ... ولا ساعة مندم ، و يسترجعها عن أسف عقل تولى فيما تولى ، أيفترش طريق الغباوة ؟ و يضمها الى قلبه بكل حفاوة ؟ انها والله غشاوة ، فليس للتمارض الآن أي فائدة ترجى منوتها العسلية ، أما المخطط الذهني المرسوم ذي البنيان المرصوص على مدى ثواني العمر الترليونية ، طوبة طوبة ... فسينهار على اثر اهماله و تقاعسه ، أهذه هي النهاية ؟ أمن المعقول أن تصل الأمور الى هذا الحد؟ و بنظرة خاطفة الى السؤال المعجز ، الذي هد من هوله فرائص متراقصة ، و استحدقت له عينان فهما كعينا حوت عظيم ، دون السؤال التالي :-




صح أم خطأ : الدجاجة وجدت قبل البيضة ؟؟؟؟؟؟




ممممممم .... يتسائل بينه و بين نفسه ، اذا هنالك دجاجة و هي الدجاجة التي نعرفها ، و هناك بيضة و هي البيضة التي نعرفها أيضا ، و كل واحد منهما يرجع أصله الى الآخر على السائد المتواتر ، و لكن السؤال ههنا يعين التحديد الأولي الأزلي ذي النشأة الأولى و التكوين المفطور الذي لم يسبق له الظهور ، مع أول النور على المشهور ، السؤال نفسه مبعث لغط تفكيري مشوش الموجات ، متقلب الترددات ، فبم يجيب ؟ أيجيب بنعم و هو يعلم في قرارة نفسه بأن الدجاجة الحية المكتملة القوام ذات الأبعاد الثلاثية كانت في يوم من الأيام بيضة صماء بسائلها الثخن المرجوج اللزج ؟ أم يجيب بلا وهو لا يستطيع أن يخالف مسألة مقررة في الأذهان المنطقية السليمة من لوثات الشوائب الدخيلة ، ان هو أجاب بنعم فمعنى هذا أنه ركن الى ما تطمئن اليه القلوب العرفية الناضجة الأفق ، و هو ما يوافق ميوله المنخرطة طولا و عرضا في باب السديد من الآراء المحتكمة ، و ان أجاب بلا الغير محببة اليه ، فهو يخشى الوقوع في محظور براثن مشكلات البديهية ، أراد أن يكون أكثر حيادية و أعمق موضوعية و أبعد نزاهة ، فيقرر اللجوء الى مخزون ذاكرته المغبر الداثر ، لعله يسعفه و ينتشله من محيط حيرته المعقدة ، يعصر و يعصر .. ثم يعصر و أخيرا يرخي ... و لم يكن بحاجة الى أكثر من أنبوب مطاطي شفاف يصرف عصير مجهوده من مخه في عملية التذكر المرهقة ، حاول أن يطرق أبواب الفلسفة اللاهوتية العتيدة .. فعلم أنه كناطح صخرة ليوهنها .. و البقية معلوم النتيجة بالنسبة لنا ! استقبل و استدبر حلولا و أفكارا ، مناظرات و قياسات ، تحليلات و معلومات ، مجسمات و ايحاءات ، هرطقات و تخريفات ، فمات البدن و رم الى رفات ، و هو في غرقه هذا ... خلا المكان من جميع الطلبة و لم يتبق سواه ، اجتهد فيما اجتهد مسرعا من عملية الوصول الى الحقيقة السرمدية ، و وضع نفسه موضع المحاور لنفسه : لو سلمنا جدلا بالبيضة فمن أين جاءت ؟ أم من أين هبطت ؟ من أين حصدت ؟ بل من أي صوب تدحرجت و أتت ؟ ثم ألا تحتاج الى من يربت عليها و يحنو حتى تفقس و ترفس ؟ و لو فرضنا بقول الدجاجة .. ألم يكن تخليقها من بيضة ؟ و هل من المعقول أن تأتي دجاجة هكذا حية بكاملها من غير وجهة سفر قادمة معلومة ؟ و من غير اشعار مسبق معلن و محدد ؟ البيضة يستحيل على التصور المهضوم المستوعب أن تأتي من فراغ مجهول مبهم غامض ؟ و المصيبة أن الدجاجة يجري عليها ما يجري على البيضة !! فمن أين تحط الدجاجة مكتملة مكتنزة، بريشها مشتملة ، تمشي و تحاول أن تطير و لكنها لن تطير أبدا ، البيضة هي حاصل نتاج عملية تكاثر لبالغين أحدهما دجاجة بكل تأكيد ، و هذا يردنا الى الجدل السفسطي في طرحه ، المنقوض بصرحه ، من جديد ، و يبرز الجدل العتيد ، و يرجعنا الى الوجه الآخر المقابل الملازم للبيضة ، و هو وجه القول بالدجاجة التي ان قلبنا تأثير الزمن عليها لوجدنا أنها بيضة من جديد ! و اأتلفت من جدار هو القشر الحافظ لما بداخله ؟؟ يا الهي ... لو طلب مني اعداد رسالة دكتوراه بهذا الموضوع لكان أسهل علي بكثير الطرح من أن أجاوب هذا السؤال المنمنم في حجمه المهول في أبعاده ، ما هذا السؤال الحلزوني الذي لا يعرف أوله من آخره ؟ و هل هذا وقت أفلاطون و أرسطو الآن ؟ ألم يجدوا أخف من هذا السؤال في هذا الاختبار ، لا يمكن بأي حال من الأحوال وصف حالة خانة الاجابة على ورقة الاختبار نظرا للحالة الوشمية المزرية التي أصابتها ، فمربع الاجابة مطموس المعالم ، مخفوس الملامح ، وطئها حافر القلم الجامح ، لم يغفر و لم يتسامح ، للتردد المتلجلج الذي اختلج خلايا دماغه ، انتبه أخيرا الى مسألة الوقت الداهم ، و صحى من غفوة الانكباب ذي الجرعة العالية التركيز ، ها هو ينظر الى الساعة المثبتة على حائط القاعة فيقارنها بالساعة التي على معصمه ، ثم يلحقها بنظرة مكهربة الى السؤال الغبي بنظره ، مرة و مرة فمرة .. أصبحت كلتا عيناه كعينا الآلة المبرمجة في تتبعها لحركة واحدة منتظمة متوالية ، و التي لم تتوقف الا عندما قرر أخيرا أن يضع حدا لما كان سببا في ايلامه و تعذيبه ، و ارهاق عقله و تذويبه ، و قرر أن يجاوب الآتي :- كل منهما سبق الآخر ! ..... الحمد لله جاء الفرج أخيرا !