بعد أن ذكر سبحانه صفات المؤمنين الشارين أنفسهم طلباً لمرضاة الله، وبعد أن ذكر صفات الكافرين المعجبين بأقوالهم، المخاصمين لشرعه، والصادين عن أمره ونهيه، دعا سبحانه عباده المؤمنين إلى التزام شرعه، والتمسك بدينه، فخاطبهم بقوله: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} (البقرة:208).


تتجه هذه السطور إلى الوقوف على سبب نزول هذه الآية، ومن ثم تنعطف لإلقاء بعض الضوء على المراد من شقها الأول. وهو قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}.


ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايتين:


الرواية الأولى: روى الواحدي في "أسباب النزول" عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحم الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن التوراة كتاب الله، فدعنا، فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.


الرواية الثانية: روى الطبري عن عكرمة، قال: قال عبد الله بن سلام، وثعلبة، وابن يامين، وأسد، وأسيد ابنا كعب، وسعد بن عمرو، وقيس بن زيد، كلهم من يهود، يا رسول الله! يوم السبت يوم نعظمه، فدعنا فلنسبت فيه -أي: دعنا نتخذ يوم السبت عيداً- وإن التوراة كتاب الله، دعنا فلنقم بها الليل، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافه}.


هذا حاصل ما تذكره كُتب التفسير وكُتب أسباب النزول حول سبب نزول هذه الآية.


والروايتان -كما هو ظاهر- لا تختلفان من حيث المضمون، وإنما الخلاف بينهما من جهة اللفظ، ويمكن اعتبارهما في المحصلة رواية واحدة، واردة في سبب نزول هذه الآية الكريمة.


وقد عقَّب ابن كثير في "تفسيره" على ما جاء في الرواية الثانية، بقوله: "وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر؛ إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه -أي أن يوم السبت ليس عيداً للمسلمين- ورفعه، وبطلانه، والتعويض عنه بأعياد الإسلام". وما ذكره ابن كثير صواب ومتجه، ويضع إشارة استفهام على صحة هاتين الروايتين.


وبعد أن وقفت على ما ورد في سبب نزول هذه الآية، فلا بأس أن تعلم بعدُ أن الآية الكريمة تصدرت بخطاب الذين آمنوا، فقالت: {يا أيها الذين آمنوا}، وهنا توقف المفسرون حول المراد بهذا النداء الإيماني: هل المراد منه المؤمنين من المسلمين على الخصوص، أو المراد منه المؤمنين من أهل الكتاب؟


فالذين ذهبوا إلى أن الخطاب مراد به خصوص المسلمين، حملوا الآية على معنى الأمر بالأخذ بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك. ويكون وجه دعاء المؤمنين إلى الدخول في الإسلام هنا، العمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه.


والذين ذهبوا إلى أن الخطاب مراد به المؤمنين من أهل الكتاب قبل البعثة المحمدية، حملوا الآية على معنى الطلب من المؤمنين بالشرائع السابقة للشريعة المحمدية بالدخول في شريعة الإسلام، ونبذ ما وراءه من الشرائع.


والصواب في هذا أن يقال -كما قرر ذلك الطبري-: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في {الذين آمنوا} المصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاؤوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم (الإيمان)، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.


والذي استدعى إثارة هذا السؤال مضمون الطلب في قوله سبحانه: {ادخلوا في السلم}، أي: الإسلام، على أرجح الأقوال؛ إذا كيف يتجه الطلب إلى المؤمنين -وهم أصلاً مسلمون- الدخول في الإسلام؟


ولا بأس أن تعلم أيضاً، أن ابن عاشور جوَّز أن يكون المراد من {السلم} في الآية معنيين آخرين:


الأول: معنى المسالمة والمصالحة بين المسلمين، ويكون معنى الآية بحسب هذا الرأي، طلب {السلم} بين المسلمين، يأمرهم الله تعالى بعد أن اتصفوا بالإيمان بألا يكون بعضهم حرباً لبعض كما كانوا عليه في الجاهلية، وبتناسي ما كان بين قبائلهم من البغضاء والشحناء والعداوات..ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض) متفق عليه. وعلى هذا، تكون الآية أصلاً في كون {السلم} أصلاً للإسلام، وهو رفع التهارج بين المسلمين -وهو واقع بينهم اليوم- كما قال الشاطبي، أي التقاتل وما يفضي إليه.


الثاني: أن يكون المراد من {السلم} هنا السلم مع الله تعالى، أي ادخلوا في مسالمة الله تعالى باتباع أوامره واجتناب منهياته، كما أطلق (الحرب) على من عصاه وخالف أمره، في قوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله ورسوله} (البقرة:279)، وفي الحديث القدسي: (من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب)، رواه البخاري. وكلا التأويلين يحتملهما اللفظ، ولا يأباه سياق الآية.