بسم الله الرحمن الرحيم

إياكم ومحقرات الذنوب!

تسري الذنوب في الأعمال حتى تدمر دين صاحبها، ومن كرم رب العباد على العباد أن منحنا مهلة للتوبة قبل أن يقوم الكرام الكاتبون بالتدوين، وفي ذلك يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم: )إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة(.
وفي المسند وجامع الترمذي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )إن المؤمن إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه”، فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون(، فإذا غطت الذنوب القلب فلا تسل عن سبب غشيان المعاصي ومداومتها والتكاسل في أداء العبادة وحب المعصية وإلفها وفتور العزيمة، بل وفتور الإيمان، ولا علاج بغير إزالة تلك الذنوب بالتوبة لينقي القلب فيتقبل الطاعة عن انشراح، وما على المرء إلا أن يتبع الذنوب بالاستغفار، وبصالح الأعمال.
كبائر
ومهلة التوبة مفتوحة بعد كتابة الذنب إلى ما قبل حضور الأجل، ولكن مصيبة كثير من الناس أنهم لا يرجون لله وقاراً، فيعصونه بأنواع الذنوب ليلاً ونهاراً، ولا يؤوبون إليه بالاستغفار، وكثير منهم ابتلوا باستصغار الذنوب، فترى أحدهم يحتقر في نفسه بعض الصغائر، ويسأل بعضهم باستخفاف إذا علم بحرمة مسألة كم سيئة فيها؟ ويسأل بعضهم: أهي كبيرة أم صغيرة؟
وقد حذرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من خطر استصغار الذنوب والاستهانة بها فقال صلى الله عليه وسلمإياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه( (وفي رواية): )إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه).


مقارنة
ولقد لفت نظر الصحابي الجليل أنس، رضي الله عنه، الذي عاش بعد رحيل الجيل الأول من الصحابة، انتشار ظاهرة استصغار الذنب، فقال لمن حضروا إليه من التابعين: )إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات(، فانظر إلى تلك الأعمال التي يراها الصحابة من المهلكات، ويراها التابعون أصغر من الشعر وأدق منه، وأسأل: ما حالنا وقد بعدت بنا المسافة في الزمن، والمسافة بين العمل الذي كانوا عليه، والذي نحن عليه الآن، وانظر إلى ابن مسعود رضي الله عنه وهو يقول: )إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا أي بيده فذبه عنه( .
وذكر أهل العلم أن الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف من الله مع الاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في رتبتها، فإن أكثَرَ العبد منها، واستهان بها أوردته النار، لذلك قيل: لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار.
وعلى المرء ألا ينظر إلى صغر ذنبه ولكن عليه أن ينظر إلى من يعصي، فالمعصية الصغيرة هي معصية لله عز وجل وهي تشترك في هذه الصفة مع الكبائر، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: )عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت النار لا هي أطعمتها ولا سقتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض(، وفي الحلية لأبي نعيم عن حذيفة أنه قيل له: أفي يوم واحد ترك بنو إسرائيل دينهم؟، قال: )لا ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء فعلوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه( .
وقال الفضيل بن عياض بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله، وعن سعيد بن جبير قال: إن رجلاً قال لابن عباس رضي الله عنهما: كم الكبائر أسبع هي؟ قال: )إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار(، وقال ابن القيم رحمه الله: (هنا أمرٌ ينبغي التفطّن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف، والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلّة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى المراتب، وهذا أمرٌ مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرّد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره).


الاعتياد
من محقرات الذنوب العادات الذميمة التي يعتادها المرء ولا يكلف نفسه بالإقلاع عنها، فالعادة تتكرر على الدوام، فتتكرر المعصية مرات كثيرة، وبذلك تزداد العقوبة عليها، وعلى المرء الذي ابتلي بعادة سيئة أو اعتاد مخالفة معينة لكتاب الله وسنة رسوله أن يجهد نفسه بالإقلاع عنها قدر الإمكان، فإن مجاهدة النفس لكي تقلع عن عادة سيئة هي من صالح الأعمال.
وقد يثيب الله تعالى المرء بمساعدته على الإقلاع عن تلك المعصية نهائيا أو أن يغفرها له، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له”، ثم قرأ هذه الآية: “والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون”.
وعن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت، فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه، فاتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره، ثم قال: “ردوه علي”، فردوه عليه فقرأ عليه: “أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين”، فقال معاذ: يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “بل للناس كافة”، رواه مسلم.
والإقلاع عن الذنب وحده لا يكفي لمن أراد أن يخرج من ذل المعصية إلى عز الطاعة، ولا طريق إلى ذلك بغير الإكثار من الحسنات والطاعات، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه لما أحس بخطئه في المناقشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، قال بعدها فعملت لذلك أعمالاً (أي صالحات) لتكفير الذنب.
وتأمل في المثل الوارد في هذا الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: )إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات، كمثل رجل كانت عليه درع، (لباس من حديد يرتديه المقاتل) ضيقة، قد خنقته، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة، ثم عمل أخرى فانفكت الأخرى، حتى يخرج إلى الأرض(، فالحسنات تحرر المذنب من سجن المعصية، وتخرجه إلى عالم الطاعة الفسيح، وتوسع عليه ما ضاق من ضنك المعيشة: )وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى”، إلى الحياة الطيبة: “مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).