السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كانت كل ليلة عروساً فصارت عابدة زاهدة

يروي أن امرأة من أهل مكة , بعد أن أخذت زينتها نظرت في المرآة إلى وجهها الجميل , وقالت في دلال لزوجها : أترى أحداً يرى هذا الوجه ولا يٌفتتن ؟ قال : نعم قالت : من ؟ قال عبيد الله بن عمير , قالت متحدية : فأذن لي فيه فلأفتننّه , قال : لك ذلك .
فلبست أجمل ثيابها وتزّينت وتعطرت وخرجت قاصدة المسجد الحرام , وسألت عن إمام المسجد عبيد الله بن عمير مدّعية أنها تريد أن تستفتيه في أمر يخصّها , فخلا بها في ناحية المسجد لينظر في أمرها , فأسفرت عن وجه مثل القمر , فقال لها : استتري يا أمة الله , قالت له : إني فُتنت بك فانظر في أمري , كانت تتوقّع أن تأسره بسحرها وجمالها الفتّان , وأن يلين ويرق لها حتى تُرضي غرورها , وتثبت أنه لا يثبت أمام جمالها أحد ولسان حالها يقول :

قل للمليحة في الخمار لأسود ماذا فعلت بناسك متعبّدِ
قد كان شمرّ للصّلاة ثيابهُ حتى وقفت بباب المسجدِ
ردّي عليه صلاته وصيامهُ لا تخذليه بحقّ دين محمد ِ

قال لها إني سائلك عن أمور , فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك , قالت : لا تسألني عن أمر إلا صدقتك .
قال : أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك , أكان يسرك أني قضيت لك حاجتك ؟ قالت : اللهم لا , قال : صدقت , قال : لو دخلت قبرك وأجلسك الملكان للمساءلة , أكان يسرك أني قد قضيت لك حاجتك ؟ قالت : اللهم لا , قال : صدقت , قال : لو أن الناس يوم الحشر أعطوا كتبهم , ولا تدرين أتاخذين كتابك بيمينك أم بشمالك , أكان يسرك أني قد قضيت لك حاجتك . قالت : اللهم لا , قال : صدقت , قال : لو مررت على الصراط ولا تدرين هل تجتازين أم تهوين في النار , أكان يسرك أني قد قضيت لك حاجتك ؟ قالت ك اللهم لا , قال : صدقت , قال : لو جيء بالميزان وجيء بك , فلا تدرين أيثقل ميزانك أم يخف , أكان يسرك أني قد قضيت لك حاجتك ؟ قالت : اللهم لا , قال : صدقت , قال : لو وقفت أمام الله رب العالمين يسألك عن أفعالك , أكان يسرك أني قضيت لك حاجتك ؟ قالت : اللهم لا , قال : إذن يا أمة الله اتقي الله , فقد أنعم عليك , وأحسن إليك, فلا تبدّلي نعمة الله كفراً وعصياناً .
رجعت المرأة إلى زوجها مطأطئة الرأس والدموع في عينيها , وكلمات الإمام تقرع سمعها وتصدع قلبها , فلما رآها زوجها في حال غير الحال التي ذهبت فيه , سألها : ماذا صنعت ؟ قالت : أنت غافل , وأنا غافلة , ونحن جميعاً في غفلة , وأقبلت من وقتها على الطهارة والصلاة والصوم وقيام الليل وذكر الله وقراءة القرآن , وكان زوجها بين الحين والحين ينظر إليها ويقول : مالي ولعبيد الله بن عمير , أفسد عليّ زوجتي , كانت كل ليلة عروساً فصارت عابدة زاهدة .

******************
هذه المرأة الحسناء غرّها جمالها وحسن قوامها , كانت تقضي ساعات طوالاً أمام المرآة تمشط شعرها وتزّين وجهها وتلبس أزهى الملابس وأجملها وأغلاها , وتُظهر دلالها على زوجها , وتعاليها على أترابها , ناسية أن هذا الحسن لم يكن من صنع يديها , إنما هو نعمة من الله وابتلاء , أتشكر أم تكفر , أتتواضع أم تتعالى وتتكبر , أتسند النعمة إلى مُسديها وواهبها , أم إلى نفسها ؟
ولقد بلغ من غرورها وافتتانها بنفسها أن خرجت من بيتها بكامل زينتها قاصدة البيت الحرام , لا لتطوف حول البيت , ولا لتصلي ركعات في المسجد , ولكن لتغري الإمام وتوقعه في حبالها , وبعدها تزداد تعالياً وشموخاً أن أحداً لا يصمد أمام جمالها الآسر حتى لو كان من العباد الزهاد .

ولّما ذكّرها الإمام عبيد الله بن عمير بالموت والقبر , وما ينتظرها من أهوال يوم القيامة والحساب على الصغيرة والكبيرة والميزان والصراط والوقوف بين يدي الله أفاقت من غفلتها , وندمت على أيام من عمرها ضاعت سدى , عرفت أن سرّ وجودها في الحياة الدنيا إنما لعبادة الله الواحد , وليس لعبادة الدنيا والأهواء , والجري وراء الملذات والشهوات , عرفت أنها لم تُخلق للدنيا فحسب إنما للتزود من الدنيا للآخرة (( والآخرة خير و أبقى )) .