فتور الهمم.....الأسباب والعلاج

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.:
فالكسل داء عضال يقعد بالبدن عن كل منفعة من شأنها أن ترفع العبد درجات عند الله أو تزكي بها نفسه وتطهر بها قلبه وتصلح بها جوارحه، ولذلك تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل في دعائه المأثور "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال". {رواه مسلم}

نتائج فتور الهمة


إن فتور الهمم قد تبعه الملل من رتابة العمل وفقدان لذة العبادة والطاعة، وكان من نتائج ذلك:
1) تحول العبادات إلى عادات:
لا تنبض بالحياة، فإذا الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه ومناجاة يومية في أوقات معلومة بين الخالق والمخلوق، حركات رتيبة يؤديها العبد بالجسد فقط، دون تأثر للقلب، فيقف ببدنه في الصلاة وقلبه يصول ويجول في الزوجة والولد والوظيفة والتجارة ومتاع الدنيا الزائل، مع أنه ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها، ومن الناس من يدخل في صلاته وليس له منها إلا نصفها أو ثلثها أو ربعها أو ثمنها وربما خرج من الصلاة ولا صلاة له، فلا ترتفع فوق رأسه قيد شبر، وكذلك الأذكار المسنونة يؤديها البعض همهمة باللسان وقَلَّ ما تثمر طمأنينة في القلب وانشراحًا في الصدر، وقد قيل: اطلب قلبك في ثلاثة مواضع: في الصلاة، وعند قراءة القرآن، وفي مجالس الذكر، فإن لم تجد قلبك في هذه المواضع فادع الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك، ويقاس على ذلك سائر العبادات اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية، كصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت، فكل ذلك مما لم يستحضر العبد فيه همته مع الله وقلبه في كل منسك من المناسك وشعيرة من الشعائر خرج منها كما دخل فيها وبقي قلبه كما هو بلا طهارة ولا تزكية، والله عز وجل يريد قلوبًا لا قوالب، فالعبادات ما هي إلا وسائل لتزكية النفوس والبعد بها عن الفواحش والمنكرات فضلا عن أنها تحقيق لكمال العبودية لله الواحد المعبود بحق فهو أحق من عُبد وأفضل من ذُكر وأجود من أعطى وأكرم من شُكر.
2) عدم التأثر بالأمر والنهي:
على عكس ما كان عليه صدر الأمة الأول: وتلك علامة على قسوة القلب وضعف الإيمان، فإن المسارعة إلى الخيرات من صفات الصالحين وسيما المتقين، والقلب الحي هو الذي ينفعل بالموعظة ويتأثر بالكلمة الطيبة فهو أشبه بالأرض الخصبة التي تنبت من كل زوج بهيج وذلك إذا نزل عليها الماء الطهور، وعلة الأمر والنهي هي طاعة الآمِرِ عز وجل، ولا يأتي حسن التأسي والمتابعة وكمال الانقياد والموافقة إلا إذا كان المرء ذا قلب سليم، وأهل الإيمان والصلاح هم الذين يصبرون على أوامر الله ويلزمون أنفسهم حدود الله ويحفظون جوارحهم أن تزل أو تقع في محظور نهى الله عنه، فهم يترجمون معاني الخير سلوكًا واقعًا، وهو أمر يسير على من زكى قلبه بالطاعات والعبادات، وعسير غاية العسر على من أهمل قلبه وأطلق لنفسه العنان لترتع في وحل الشهوات والمعاصي والزلات.

سبب الاستجابة عند السلف


ولقد كانت استجابة الصحابة للأوامر والنواهي دلالة على صحة اليقين، ومما يُروى أن رجلا قال لابن مسعود رضي الله عنه اعهد إليَّ، فقال له: (إذا سمعت الله يقول في كتابه يا أيها الذين آمنوا فأرعها أذنك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه) وإن البلاء العظيم أن تسود المؤمنين حالة من الإهمال وعدم الإحساس بالمسئولية المترتبة على عصيان الأوامر أو اجتناب النواهي، فهي تجر بالتالي إلى حالة من التبجح، وبعدها ينزع العبد ثوب الحياء
والخوف، ومما قاله النبي صلى الله عليه وسلم : "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
{رواه البخاري}
والحياء خير كله، وإذا فقد العبد الحياء فهو على المعصية جرئ، ولا تقف أمامه عقبة دون المخالفة واتباع الهوى والشيطان، وإن كلام الله ورسوله يقرع الأذان كل صباح ومساء ولا يلتفت إلى الأمر والنهي إلا مؤمن صادق الإيمان، لأنه يعلم أن النفع والخير والفلاح والنجاة في الانقياد التام والمتابعة الصادقة لأمر الله ورسوله.
3) الاستهانة بالأعمال الشرعية:
فقد علم الناس قيمة الدرهم والدينار، واليورو والدولار، وقيمة الملبس والمسكن والمركب، ولكن قيمة الحسنة قد تضاءلت في أعينهم بسبب طغيان المادة الجامح، والحق أن الحسنة خير من القصور والأموال والثروات والجاه العريض، ولا يحرص عليها ويرغب فيها إلا مؤمن نافذ البصيرة، فهي العملة الوحيدة للتعامل مع الله تعالى يوم القيامة، ففي ساحة العرض على الله يوم الحساب، لا تنفع الوظائف ولا المراتب ولا الأموال ولا الأولاد، ولا يقوم مع العبد أوصياء ولا شفعاء إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، ولا يجد من يدافع عنه أو يقرأ له كتابه، بل يُقال له يوم القيامة اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا {الإسراء:14} فلا يشفع له إلا عمله، ولا ينجيه إلا ما قدمه بين يديه، ولا يستر وجهه عن لفح النار ووهج جهنم إلا ستار الحسنات، ولا يُسرع به على الصراط إلا عمله فهو مطيته إلى الجنة، ومن أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه، فليس بين الله وبين أحد من خلقه علاقة ولا نسب إلا ما كان من الطاعة والعمل الصالح.

أنواع من أبواب الخير


ولقد فتح لنا هذا الدين أبواب الخير على مصاريعها، فإن همم الناس في الطاعة تتفاوت، ومن يقدر على لون من الطاعة ربما لا يستطيع أن يقوم بآخر، ومن يمل نمطًا معينًا فهناك سعة وفسحة في عمل آخر، والله تعالى لا يمل حتى يمل عباده، وكلما أكثر العبد من الأعمال الصالحة فإن الله تعالى الكريم يجزي بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ويتقبل من عباده القليل من العمل ما دام مقرونًا بالإخلاص وابتغاء مرضاته عز وجل وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء {البينة:5} ومن أبواب الخير الواسعة التي فتحها الله ويسرها على عباده: كثرة ذكر الله، وقراءة القرآن، والصلاة بالليل والناس نيام، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والتزاور والتحاب في الله، وعمارة المساجد، وطلب العلم وتعليمه لمن لا يعلم، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، والصدقة، وإغاثة الملهوف، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإماطة الأذى عن الطريق، وإعانة الضعيف وإغاثة الملهوف، ومواساة الأرملة والمسكين، والإحسان إلى اليتيم، وغير ذلك كثير.
وهكذا يفتح لنا ديننا أبواب الخير الكثيرة، تيسيرًا على الأمة وترغيبًا لها في القدوم على الله والتقرب إليه بما يحبه ويرضاه من الأعمال ورفعًا للهمم في القلوب حتى تنشط في التشمير عن ساعد الجد بغية الوصول إلى الفردوس الأعلى والنعيم المقيم، ولا تحقرن من المعروف شيئًا.

عوامل تزكية النفوس


إن المؤمن لا يصمد أمام أعدائه إلا إذا كانت نفسه معينة له على ذلك ولا تزكو النفس إلا بطول المجاهدة ودوام الذكر والطاعة، فمهمة العبد في هذه الدنيا أن يكون عابدًا طائعًا ذاكرًا منيبًا، فتلك هي الغاية من خلقه ومن تسخير السماوات والأرض له، ولا يُستعان على طاعة الله إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يُطلب ما عند الله بمعصيته، ولا يثبت المؤمن في ساحة الجهاد إلا إذا زكى نفسه وطهر قلبه، فإن العدو الباطن أخطر من العدو الظاهر، وكلاهما أمرنا الله بمحاربته والاحتراز منه، ولكن الحذر واليقظة من العدو الباطن أولى وأهم، وذلك أن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا الفاني، والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الإيمان واليقين، والعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين، والعدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين، ومن قتله العدو الظاهر كان شهيدًا، ومن قتله العدو الباطن كان طريدًا، لذا كان الاحتراز من شر العدو الباطن أولى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بدوام المراقبة والهمة العالية في العبادة والطاعة وكثرة ذكر الله تعالى على كل حال، والطاعة لها حلاوة حينما يستحضر العبد قيمتها وقدرها، وحينما يستشعر لذة القرب من مولاه وهو يناجيه ويتضرع بين يديه، فالصلة التي بين العبد والرب صلة حب وأنس وود وقرب، وإذا أصبحت العبادة عادة فإنها تصبح عبادة ميتة بلا روح، وحينئذ لن يكون لها أثر في السلوك والحياة، فالصلة بين العبد وربه يجب أن تكون حية دافقة تغذي شجرة الإيمان وترويها بماء الحياة.
وإن الفتور لا يتسرب إلى القلب ما دام العبد يجد في أعماقه شرف الصلة بينه وبين المعبود سبحانه، والملل لا يجد طريقه إلى نفسه ما دام يتطلع إلى المثوبة والفضل... ومن لمح فجر الأجر هان عليه ثقل التكليف...
والله من وراء القصد