حبيسة أحزانها منذ ستّة أشهر.. تحاول أن تتناسى مصيبتها.. أن تمضغ أحزانها.. ألاّ تفكّر في أسباب مأساتها.. ولكنّها عبثاً تحاول..

ربّما كان الرفض أحسن وسيلة للاسترضاء، وتحقيق الرغبات، والتعبير عن مشاعر الحزن الحبيسة.. ترفض فتح باب غرفتها لأحد.. حتّى لأمّها وأبيها.. لن أزور أحداً.. ليقولوا عنّي ما يشاءون.. أنا حرّة في مواقفي..

ولكنّها هذه المرّة أحسّت من داخلها أنّها تريد أن تحضر عرس بنت جيرانها.. لأنّها صديقة الطفولة، تربطها بها ذكريات لا تنسى؟ أم لأنّها بنت يتيمة، ينبغي أن يقف معها كلّ من حولها؟ أم لأنّها تريد أن تستعيد ذكريات عرسها التي تحوّلت إلى أحزان ممضّة؟! ولكنّها على كلّ حال قرّرت أن تحضر هذا العرس.

ـ أمّاه ! ومن هو عريس جارتنا سمحاء؟
ـ بلهجة ضاحكة: لا يهمّنا نحن النساء من يكون العريس. المهمّ أن نفرح بالعرس والعروس.. ولكنّهم يقولون: إنّه شابّ غنيّ طموح.

واستقبلت جواب أمّها بقبول عفويّ.. وأقبلت على لبسها وزينتها..
مشاعر الضيق كالكابوس على صدرها.. أيمكن أن أنسى تلك الليلة التي كنت فيها سمع الناس وبصرهم؟ كنت أضحك وأمشي بدلال.. كلّ الحاضرات ينظرن إليّ بإعجاب، ويتحدّثن عنّي باهتمام، ولكنّ الأيّام كانت تسخر بي، وهي تعلم أنّ زواجي لن يدوم أكثر من خمسة أشهر. ولعلّهنّ اليوم يشرن إليّ: مطلّقة! مطلّقة! واشتدّ الضيق، وضاق الصدر، وكادت تعتذر مرّة أخرى.. لولا خشيتها أن تغضب أمّها.

وفي قاعة العرس كانت البهجة تغمر جميع الحاضرات. القاعة على طراز شرقيّ، قد ازدانت بكلّ ما يضفي عليها جلال القديم وروعته، وكلّ مظهر فرحة كان مغلّفاً لها بالألم والغصّة. ومظاهر غنى العريس، لا تخفى على كلّ محتفية.. الحظوظ مكتوبة في السماء! هنيئاً لك من قرارة قلبي يا سمحاء! وأرجو الله ألاّ تكون خاتمة زواجك كما انتهى زواجي.

وكانت قاعة الرجال لا تقلّ فخامة عن قاعة النساء. وقد غصّت بالناس، واجتمع الرجال والشباب مجموعات مجموعات، يتجاذبون أطراف الحديث. وفي أقصى مصطبة من فناء قاعة الرجال. كان يتربّع رجل غريب المظهر، في العقد السادس من العمر. قد تلثّم بشماغه، فلم تبد منه سوى عينيه. وكان يبدو غريباً، لا يعرف أحداً من الحاضرين. وقطع عليه وحدته رجلان في هيئة غنى وثراء، جلسا قريباً منه، بعد أن ألقيا عليه التحيّة، وتبادلوا معه عبارات الترحيب والمجاملة.. ولكنّه بدا متحفّظاً منكمشاً.

وخاض الرجلان غمرات الأحاديث شرقاً وغرباً.. وكان الثالث يلتقط بعض الكلمات من هنا وهناك.. وقال أحدهما لصاحبه: أتعرف قصّة عريسنا محمود؟

ـ لا والله! إنّ معرفتي به قريبة! فما قصّته؟
ـ إنّني أعرف قصّة غناه كما أراك أمامي.. وهي لا تتجاوز ستّة أشهر.. أغدق الله عليه أبواب الخير من حيث لا يحتسب.. وكنت والحمد لله عوناً وسبباً له في ذلك.. رأيته في سوق الأثاث المستعمل، يبيع فرش بيته الذي كان يبدو جديداً.. كان حزيناً إلى درجة أنّه لم يتمالك نفسه من البكاء، فأشفقت عليه.. وتقدّمت منه، وبفضول قلت له: يبدو أنّك مكره على بيع أثاث بيتك، فهل تسمح لي أن أعرف قصّة هذا الفرش، لمَ تبيعه؟

ـ دعني وشأني.!

ـ يا أخي! الناس للناس، إن وجدت سبيلاً لمساعدتك ساعدتك..
فقال لي: هذا الأثاث جمعت قيمته خلال عشر سنوات.. أبيعه اليوم بعُشر ثمنه.. بعدما طُلّقت منّي زوجتي كرهاً.. وأنا عاطل عن العمل منذ زواجي..
ـ وكيف طُلّقت منك زوجتك كرهاً؟
ـ أكرهني والدها على طلاقها بالقوّة، فضاع منّي كلّ ما دفعت لها من حقوق..
ـ ولماذا؟

ـ قعدت بغير عمل، فالشركة التي كنت أعمل فيها أفلست، فسرّحت عمّالها وموظّفيها، وبينما كنت أبحث عن عمل، إذ طلبني عمّي إلى مكتبه التجاريّ، فلبّيته، وأنا لا أعلم ما يريد منّي، وعندما استقرّ بي المجلس، قال لي بلهجة صارمة متعالية، وكان عنده ثلاثة من العاملين الأشدّاء : طلّق ابنتي.! ولماذا يا عمّ؟ طلّق ابنتي.! ولا يهمّك أن تعرف السبب.. وكيف لا أعرف السبب؟ أليس من حقّي ذلك؟!

ـ أريد أن أحفظ لك كرامتك، طلّق ابنتي كما أقول لك.. لا أريد لابنتي زوجاً شحّاذاً طول حياته..!
ـ يا عمّ لا تغلط عليّ.. أنا لست شحّاداً بحمد الله..
ـ أقول لك: طلّق ابنتي بلا كلام فارغ..

ـ وحقوقي التي دفعتها؟ نحن نطالبك بحقوق ابنتنا لا أنت!
ـ إنّني متفاهم مع زوجتي، وليس بيننا أيّ خلاف! هل هي تريد الطلاق؟
ـ أقول لك: طلّق ابنتي! وإلاّ فلن تخرج من هنا إلاّ جثّة هامدة..
وقام إليّ هؤلاء الثلاثة، فأوسعوني ضرباً ولكماً، وشعرت أنّ كرامتي أهدرت، ولا يمكن أن ألتقي معه أو مع زوجتي على شيء.. فتلفّظت بالطلاق رغماً عني، وأخرجوا لي ورقة وقّعوني عليها، بأنّني متنازل عن أيّ حقّ لي من الحقوق.. وخرجت من مكتبه، وأنا أدعو عليه بحرقة وحزن.. وانتهت مأساتي بهذه الصورة.

ـ فقلت له: وماذا تريد أن تفعل بثمن هذا الأثاث؟

ـ أريد أن أشتري بضاعة خفيفة الثمن، وأبسطها أمام بعض المساجد.. ريثما أحصل على العمل المناسب.

وتعرّفت على اسم الرجل وعنوانه.. وأخذت أقلّب كلامه على وجوهه.. واستقرّ بيع أثاث بيته بخمسة آلاف ريال.. أخذها ووجهه يعتصر ألماً، والغصّة تكاد تخنقه.. وتجوّلت في السوق، وصورة الرجل لا تبرح مخيّلتي.

وبعد صلاة المغرب في مسجد السوق، حانت منّي التفاتة.. فوجدت الرجل نفسه يرفع يديه، يدعو بدعاء ضارع، خاشع القلب، دامع الطرف.. حتّى خرج أكثر المصلّين، وهو لا يزال مستغرقاً في دعائه.. فهجمت على رأسي فكرة، فاندفعت أصارحه بها بغير رويّة: يا أخي ! ما رأيك أن تضع يدك بيدي، ونقول: بسم الله..

ـ وماذا تعمل أنت؟

ـ أعمل في بيع العقار وشرائه.. وأضمن لك ألاّ يضيع شيء من رأسمالك..
ـ وكيف؟

ـ إذا لم نربح لم نبع.. والعقار في تحسّن يوماً بعد يوم..
ولا أخفيك أنّه هذه الأيّام يعاني من ركود، ومع ذلك فهناك من يبيع ويشتري ويربح..
ودفع إليّ الرجل ما معه، وبعد شهرين كانت أرباحه التي دفعتها له: مئتين وخمسين ألفاً.. وبعد شهرين آخرين تجاوزت أمواله المليون..
ورغب أن ندخل في بعض الأنشطة التجاريّة، فلم أرغب مثله، فدخل وحده، وعقد صفقات ربح منها مئات الألوف.. واليوم يحدّثك عرسه بأثر النعمة التي يتقلّب فيها.

ودخل العريس على الناس، والبهجة تغمره من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، وتعالت أصوات المنشدين بأهازيج ترحّب بمقدمه، وتتغنّى بشمائله وخلاله، وقام إليه ثلّة من الشباب يحيطون به، وهو يسلّم على الحاضرين، ويعتنقونه، ويدعون له.. إلاّ رجلاً واحداً انسلّ من بين الحاضرين، وخرج من فناء صالة الاحتفال.. إنّه صاحب الشماغ الملثّم.!

ودخلت العروس قاعة النساء، فعلت أصوات المنشدات، وانطلقت الأهازيج من كلِّ مكان، واختلطت الأصوات، وتهامست السيّدات المتفرّجات بمشاعرهنّ وأحاديثهنّ، وقالت إحداهنّ لجليستها، وكانت قريبة من علياء وأمّها: "انظري حظّ البنات من الشباب، لم تصبر زوجتُه الأولى على الشدّة التي مرّ بها، لتكون السعادة والغنى من حظّ هذه اليتيمة، الله يسعدها ويهنّيها"
والتفتت علياء إلى تلك السيّدة وسألتها: وما اسم عريسها يا خالة؟
ـ ألم تسمعي به ؟! إنّه التاجر محمود النصّار.
وما إن سمعت علياء باسم العَريس ولقبه، حتّى زاغ بصرها، ودارت الدنيا في عينيها، وفقدت توازنها، وسقطت مغشيّاً عليها.. إنّه زوجها الذي فقدته!