فقاعة الذهب وأنصار الذهب


موقع صحيفة الاقتصادية الإلكتروني - نورييل روبيني

كانت أسعار الذهب في ارتفاع حاد، حتى أنها اخترقت حاجز الألف دولار، وفي الأسابيع الأخيرة اقتربت من 1200 دولار للأوقية ثم تجاوزت ذلك الرقم. واليوم يزعم “أنصار الذهب'' أن السعر قد يصل إلى ألفي دولار حاليا وصل إلى سعر 1.364.
ولكن الارتفاع الأخير الذي شهدته الأسعار يبدو كالفقاعة على نحو مريب، حيث لا تبرر العوامل الاقتصادية الأساسية هذه الزيادة إلا جزئيا.
إن أسعار الذهب لا تسجل ارتفاعاً حاداً إلا في حالتين: حين يكون مستوى التضخم مرتفعاً وفي ازدياد، فإن الذهب يصبح بمثابة وقاء ضد التضخم؛ وحين يلوح خطر الكساد ويخاف المستثمرون على أمن ودائعهم المصرفية فإن الذهب يصبح ملاذاً آمنا.
والواقع أن العامين الأخيرين يتفقان مع هذا النمط. فقد بدأت أسعار الذهب في الارتفاع بشكل حاد أثناء النصف الأول من عام 2008، حين غلب على الأسواق الناشئة فرط النشاط، وكانت أسعار السلع الأساسية في ارتفاع، وأعرب المراقبون عن خشيتهم من ارتفاع مستويات التضخم في الأسواق الناشئة التي اتسمت بالنمو المرتفع. وحتى ذلك الارتفاع كان في جزء منه مجرد فقاعة، وهي الفقاعة التي انهارت في النصف الثاني من عام 2008، حين سقط الاقتصاد العالمي في مستنقع الركود ـ بعد أن بلغت أسعار النفط 145 دولاراً للبرميل فقتلت النمو العالمي. ومع حلول المخاوف من الانكماش في محل الخوف من التضخم بدأت أسعار الذهب في الهبوط مع تصحيح أسعار السلع الأساسية.
وكان الارتفاع الحاد الثاني الذي سجلته أسعار الذهب حين انهارت شركة ليمان براذرز، فانتشر الهلع بين المستثمرين والخوف على أصولهم المالية ـ بما في ذلك الودائع المصرفية. ولكن هذه المخاوف باتت تحت السيطرة بعد تعهد مجموعة الدول الصناعية السبع بزيادة ضماناتها للودائع المصرفية ودعم النظام المالي. ومع انحسار الهلع مع اقتراب عام 2008 من نهايته، استأنفت أسعار الذهب تحركها نحو الهبوط. بحلول ذلك الوقت، ومع انحدار الاقتصاد العالمي إلى مستوى يكاد يقترب من الركود، سجل استخدام الذهب على الصعيدين التجاري والصناعي، وحتى على مستوى الطلب الترفي، المزيد من الهبوط.
ثم عادت أسعار الذهب إلى تجاوز الألف دولار أثناء شباط (فبراير) وآذار (مارس) 2009، حين بدا الأمر وكأن القسم الأعظم من النظام المالي في الولايات المتحدة وأوروبا ربما أصبح قريباً من الإفلاس، وأن عديدا من الحكومات باتت عاجزة عن ضمان الودائع ودعم النظام المالي، وذلك لأن البنوك التي كانت أضخم من أن يُسمح لها بالإفلاس كانت أيضاً أضخم من أن تتمكن الحكومات من إنقاذها.
ثم تراجع الذعر - وبدأت أسعار الذهب في الانحدار من جديد - بعد خضوع البنوك الأمريكية لاختبارات الإجهاد، والدعم الذي وفره برنامج إغاثة الأصول المتعثرة للنظام المالي من خلال شطب الأصول السيئة من دفاتر الموازنة العامة للبنوك، وتحسن الاقتصاد العالمي تدريجياً بعد بلوغه أدنى مستوياته.
ولكن لماذا بدأت أسعار الذهب في الارتفاع الحاد مرة أخرى أثناء الأشهر القليلة الماضية، رغم غياب خطر التضخم أو الركود في الأمد القريب؟
هناك عديد من الأسباب وراء ارتفاع أسعار الذهب، ولكن كل هذه الأسباب تشير إلى ارتفاع تدريجي مع احتمال كبير لحدوث تصحيح هابط، بدلاً من ارتفاع سريع نحو ألفي دولار كما يزعم أنصار الذهب اليوم.
أولاً، ورغم أننا ما زلنا نعيش في عالم يعاني انكماشا عالميا، فإن العجز المالي الضخم الممول نقداً يعمل على تغذية المخاوف بشأن التضخم في الأمد المتوسط. وثانياً، هناك موجة هائلة من السيولة، التي أحدثتها السياسات النقدية المتساهلة، والتي تلاحق الأصول، بما في ذلك السلع الأساسية، والتي قد تؤدي في النهاية إلى تفاقم التضخم. وثالثاً، تعمل مضاربات المراجحة الممولة بالدولار إلى دفع الدولار الأمريكي إلى الانخفاض بشكل حاد، هذا فضلاً عن العلاقة العكسية بين قيمة الدولار وسعر السلع الأساسية بالدولار: فكلما انخفض الدولار ارتفعت أسعار النفط والطاقة وغير ذلك من السلع الأساسية المقومة بالدولار ـ بما في ذلك الذهب.
السبب الرابع أن المعروض العالمي من الذهب محدود، سواء الموجود منه بالفعل أو المنتج حديثاً، وأن الطلب يرتفع بشكل أسرع من قدرة المعروض على تغطيته. وبعض هذا الطلب يأتي من البنوك المركزية، في الهند، والصين، وكوريا الجنوبية على سبيل المثال. وبعض الطلب يأتي من مستثمري القطاع الخاص، الذين يستخدمون الذهب كوقاء ضد المخاطر المتأخرة التي تظل تشكل احتمالاً طفيفاً (اقتران التضخم المرتفع بجولة أخرى من الركود العميق). والواقع أن المستثمرين يرغبون على نحو متزايد في اتقاء مثل هذه المخاطر في وقت مبكر. ونظراً لعدم مرونة المعروض من الذهب، فإن أقل قدر من التحول في محافظ البنوك المركزية ومستثمري القطاع الخاص نحو الذهب من شأنه أن يزيد من سعره بشكل كبير.
والسبب الأخير يتلخص في ارتفاع المخاطر السيادية ـ كتلك المشكلات التي يواجهها المستثمرون في دبي، واليونان، وغير ذلك من الأسواق الناشئة والقوى الاقتصادية المتقدمة. وكان ذلك سبباً في إحياء المخاوف من احتمال عجز الحكومات عن دعم نظام مالي أضخم من أن تتمكن من إنقاذه.
ولكن نظراً لافتقار الذهب إلى قيمة جوهرية فعلية فإن احتمالات تصحيح أسعاره هبوطاً تظل قائمة. وفي نهاية المطاف ستحتاج البنوك المركزية إلى التراجع عن التيسير الكمي وخفض أسعار الفائدة إلى الصفر، الأمر الذي لابد وأن يفرض ضغوطاً على الأصول الخطرة، بما في ذلك السلع الأساسية. أو قد يتبين لنا أن التعافي العالمي كان هشاً وهزيلاً إلى الحد الذي قد يؤدي إلى زيادة مشاعر الخوف المعززة لهبوط سوق السلع الأساسية ـ واتجاه الدولار الأمريكي إلى الصعود.
من بين مخاطر الجانب السلبي أيضاً أن مضاربات المراجحة الممولة بالدولار قد تنحل، فيؤدي ذلك إلى انهيار فقاعة الأصول العالمية التي نشأت بسبب هذه المضاربات إلى جانب موجة السيولة النقدية. وبما أن مضاربات المراجحة وموجة السيولة تتسبب في إنشاء فقاعة أصول عالمية، فإن هذا يعني بالتالي أن الارتفاع الأخير في أسعار الذهب كان راجعاً بشكل جزئي إلى فقاعة، مع تسبب سلوك القطيع و''المضاربة بالقصور الذاتي'' من جانب المستثمرين في دفع أسعار الذهب إلى الارتفاع والمزيد من الارتفاع. ولكن الفقاعات تنفجر في النهاية. وكلما كانت الفقاعة أضخم كان الانهيار أعظم.
إن الارتفاع الأخير في أسعار الذهب لا تبرره العوامل الاقتصادية الأساسية إلا بشكل جزئي. وليس من الواضح لماذا يتعين على المستثمرين أن يكدسوا الذهب إذا انزلق الاقتصاد العالمي إلى الركود مرة أخرى وارتفعت المخاوف بشكل حاد بشأن احتمالات الركود العميق والانكماش المتفشي. فإن كنت تخشى الانهيار الاقتصادي العالمي حقاً، فيعين عليك أن تخزن الأسلحة، والأغذية المعلبة، وغير ذلك من السلع الأساسية التي يمكنك استخدامها بالفعل في كوخك الخشبي.
خاص بـ «الاقتصادية